يُسجِّل أحدهم عددًا ضخمًا من الأهداف في مباراة واحدة، توجّه أعيُن الصحافة والإعلام صوبه كي تكتشف سر خلطة الأهداف السرّية التي قد تقوده ليصبح أفضل لاعبي العالم. ومع أول مقابلة اللاعب المغمور، يتضح أنّه مجرّد قروي ساذج، يدعى «شحاته أبو كَف»، التقط موهبته أحد الخبراء أثناء متابعته لمباريات الأقاليم.

تسير مثل هذه القصص وفقًا لنمط مُكرر، إصرار لا يُضاهى على تحقيق الحُلم في البداية، ثم تراخٍ مفاجئ يرجع في الأساس لعدم قدرة الشاب الريفي البسيط على التعامُل مع حياة المدينة الصاخبة. «إيرلينغ براوت هالاند» قروي آخر، لكنه يمتلك قصة مغايرة، حتى الآن على الأقل.

هدّاف بالفطرة

حاليًا، يتساءل المحللون عما إذا كان تعاقد مانشستر سيتي الإنجليزي مع «هالاند» صاحب الـ22 عامًا قد يمثِّل التطور الأخير لفريق الإسباني «بيب جوارديولا» الساعي لتحقيق الحُلم الأكبر بحصد دوري أبطال أوروبا، بخاصة وأن المدرّب الإسباني يبدو في طريقه للتنازل أخيرًا عن قناعاته حول خصائص مهاجم فريقه، التي لم تكُن يومًا تتناسب مع خصائص مهاجم ضخم البنية مثل النرويجي الشاب.

في الحقيقة، يجب أن نعود خطوتين للوراء، حتى نتفهَّم حقيقة ما يمكن أن يضيفه الوافد الجديد لتشكيل مدجج بالنجوم مثل تشكيل «السيتزنز».

يزعجني قليلاً أنني لم أسجل ركلتي الأخيرة في المباراة. ربما سأضطر للجلوس والتفكير قليلًا في الأمر وربما وقتئذ أدرك حقيقة ما حدث.
إيرلينغ براوت هالاند، مهاجم مانشستر سيتي.

كانت مباراة النرويج ضد هندوراس في مايو/آيار 2019 مناسبة مثالية لإظهار نجل «ألف إينغ هالاند» نفسه للعالم، ليس فقط بتسجيله لتسعة أهداف في نفس المباراة، لكن بسبب تعامله مع هذا الحدث الضخم وكأنه حدث عادي، بل وإظهاره امتعاضًا لتفويته فرصة تسجيل هدف عاشر؛ لأنه يعتقد بالأساس أن مهمته داخل أرض الملعب هي تسجيل الأهداف.

إحصائيًا، منذ بداية مسيرته، يسجل «هالاند» هدفًا في كل مباراة في المتوسط، بالتالي تضعنا الأرقام أمام حالة فريدة من نوعها، هدافًا بالفطرة. وفي محاولة لتفسير هذه الظاهرة، يخبرنا «إسبن أوندهايم»، الرجل الذي أشرف على تدريب «هالاند» في فريق «براين» النرويجي، أن النرويجي ولد موهوبًا بتسجيل الأهداف.

مهاراته وسرعته وقوته ليست بسبب التدريب، بل بسبب والدته ووالده؛ فقد كانت والدته رياضية سباعية، وكان والده لاعب كرة قدم محترف. بينما ذكاؤه ومهاراته التقنية كانت حصيلة تدريبات طويلة. أما عن تميّزه التكتيكي، فربما بسبب حديثه ومشاهدته المستمرة لكرة القدم.
إسبن أوندهايم، مدرب شباب فريق براين النرويجي.

سر القرية

في هذه المنطقة، لا نتحدث كثيرًا، بل نعمل. غالبية السكان يعملون كمزارعين، لذلك عندما تكون قد عملت لـ12 أو 13 ساعة، تذهب إلى الفراش مباشرة. ربما تحوَّل هذا الأمر لجزء من جيناتنا؛ لا نتفاخر بفعل أي شيء، بل نقوم به.
ألف إينغ بيرنستاين، مدرب فريق بري-ناه النرويجي.

بغض النظر عن صحة سردية الچينات تلك، لعبت قرية «بري- ناه» النرويجية دورًا محوريًا في تشكيل شخصية «هالاند» وقدراته الفنية. فبعد اعتزال والده لعب كرة القدم متأثرًا بالإصابة عام 2003، انتقلت الأسرة بأكملها من ليدز بإنجلترا إلى القرية الصغيرة، الواقعة جنوب غربي النرويج. وهنا بدأ كل شيء.

طبقًا لـ«ألف إينغ برنستاين»، أحد مدربي أكاديمية براين لكرة القدم، السر الحقيقي في قدرات «هالاند» التهديفية يعود بالأساس لفترة وجوده بالأكاديمية الصغيرة، حين كان مجرّد طفل موهوب، ضئيل الحجم، يلعب ضمن فريق مكون من عناصر أكبر سنًا.

حينها، كان عليه أن يتعامل بذكاء مع منافسيه حتى يتمكّن من التغلب عليهم. والأهم، في هذه البلدة الصغيرة، لم تكُن هنالك سوى هذه الأكاديمية، التي أنشأت في الأساس للترفيه عن السكان المحليين، لذا، لا يقوم مسؤولوها بتسريح أي من الناشئين، بل عوضًا عن ذلك، تحتفظ الأكاديمية بجميع العناصر التي تشكل كل فئة سنية.

وحين يصل اللاعبون لسن الـ13، يُطلب منهم أن يقرروا بأنفسهم، دون تدخل من ذويهم إذا ما كانوا يريدون اللعب لفريق القواعد الشعبية، أم فريق النخبة، الذي يتم التركيز بداخله بشكل أكبر على العمل الفني والتكتيكي. وبالتأكيد كانت إجابة «هالاند» واضحة:«أريد أن أصبح أفضل من والدي».

روبوت ولكن

كرة القدم بالنسبة لهالاند مجرد ترفيه، لطالما أعجب زملاؤه بقدرته على أن يكون طبيعيًا وغير طبيعي في نفس الوقت، يركض كبطل أولمبي، يسجّل كمتوّج بكرة ذهبية، لكنه يظل نفس الطفل المتواضع الذي عرفوه.
أويستين نيرلاند، المدير الرياضي لنادي مولده النرويجي.

بحسب «يان أج فيورتفيت»، الدولي النرويجي السابق والذي يعمل كصحفي رياضي، تفضّل الصحافة وصف «هالاند» بالآلة، لأنه الوصف الأكثر سهولةً، لأنه شاب فارع الطول، سريع للغاية، يسجّل الأهداف بغزارة، والأهم؛ لا يتحدث كثيرًا.

لكن في الواقع، يرى «فيورتفيت» الذي سبق وأجرى مقابلة صحفية مع «إيرلينغ» أنه شاب مسالم، وربما يعود السبب في عدم رغبته في الظهور إعلاميًا بشكل مكثَّف مقارنة بالزخم من حوله يعود في الأساس لحاشيته، حيث يرغب والده دائمًا أن يظل متواضعًا. ويؤكد المدير الرياضي لنادي «مولده» النرويجي على نفس الفكرة، الذي يعتقد أن «هالاند» يمتلك فضولًا لاكتشاف البشر من حوله واهتمامًا بدوائره المُقرّبة.

بذكر الدائرة المقربة، ربما يتضِح عند التدقيق بانفعالات «هالاند» الصاخبة عقب تسجيله الأهداف، محاولته الحفاظ على حياة هادئة بقريته الصغيرة في أوقات العطلة، أو حتى استمتاعه بغناء الراب رفقة بعض الأصدقاء قتلًا للملل، تأثره بمسيرة والده التي انتهت فجأة بسبب تعرضه للإصابة الشهيرة بأقدام «روي كين»، لاعب «مانشستر يونايتد» السابق.

استنتج «آلان شيرار»، نجم منتخب إنجلترا، بعد حديث مطوَّل مع الوافد الجديد لـ«مانشستر سيتي»، أن «هالاند الأب» لعب دورًا يتخطى حماية الشاب، بل يمتد لنظرته لكرة القدم والحياة بشكل عام، حيث دفعت نهاية مسيرة الأب المأساوية نجله بشكل ما إلى الاستمتاع بكل لحظة يعيشها على أرض الملعب.

باختصار، ربما نشأ «هالاند» في «بري-ناه» على أن اللحظة التالية ربما تكون الأخيرة، لذا يظهر شراسة داخل الملعب وتحفظًا خارجه، كأي قروي لم تغره أضواء المدينة بعد.

من دون نشأتي في بري-ناه، لم أكن لأصبح نفس الشخص الذي أنا عليه الآن.
إيرلينغ هالاند.