الحديث عن كاتب شهير وحائز على جائزة نوبل مثل هيمنجواي قد يبدو مكررًا أكثر من اللازم، فالمعلومات عنه وقصة حياته موجودة في كل مكان. وحياته المثيرة المليئة بالترحال والمغامرة والحب والشغف من أكثر الأمور التي يكتب عنها المهتمون بالأدب.

لكن كالعادة يكون هناك بعض التفاصيل التي يغفلها الكثيرون ويتجاهلها أو يتناساها البعض. ربما تكون المعلومات الأكثر انتشارًا عن هيمنجواي هي اشتراكه في الحرب العالمية الأولى عندما تطوع في الصليب الأحمر وعمل كسائق لعربة إسعاف، وكان وقتها أصغر المتطوعين عمرًا، فلم يكن يبلغ التاسعة عشر بعد. ارتحل وقتها من نيويورك إلى باريس وبعدها أرسلوه إلى ميلان حيث عمل على خط النار، وهناك أصيب إثر انفجار قنبلة إصابة عنيفة تسببت في أن يجروا له سلسلة من العمليات الجراحية استخرجوا بها حوالي 227 شظية من ساقه. الأمر الذي وصفه بدقة في روايتة الشهيرة «وداعًا للسلاح». وهنا نستعرض بعضًا من محطات حياته التي ربما لا يعرفها الكثيرون.


هيمنجواي يكتب عن تجاربه الشخصية

وربما هذا هو أكثر ما يميز أدب هيمنجواي، أنه ذاتي بالدرجة الأولى، فهو لم يحاول أبدًا مجاراة الأحداث الأكثر تأثيرًا في وقته والكتابة عنها، بل كان يكتب عن ما يثيره ويتأثر به. كان يكتب عن نفسه وعن آلامه ومخاوفه دون أن يخضع قلمه لأي نوع من الرقابة الذاتية. فربما لا يعرف الكثيرون أن رائعة هيمنجواي الأكثر شهرة والأكثر احتفاءً من النقاد «العجوز والبحر» كانت قصة حقيقية.

تجربة صيد فريدة مرّ بها أثناء رحلته في أفريقيا، فبينما هو على قارب بيلار للصيد، اشتبكت قصبته بسمكة تونة عملاقة قال من شاهدها أنه لم يرَ سمكة تونة في حجمها قط. وظل يطاردها قرابة يوم كامل وهو يجاهد ألا تفلت منه، وتمكن أخيرًا من صيدها وجرها إلى قاربه. ولكن بعد أن بذل هذا المجهود الجبار في صيدها تمكنت منها أسماك القرش ونهشت لحمها وتركت له سلسلتها الفقرية ورأسها. اختزن هيمنجواي هذا الموقف في ذاكرته طويلًا فقد حدث عام 1943، وكتب الرواية عام 1952! وعندما كتبها كان قد وصل إلى مرحلة عالية من النضج وحب الحياة. فقد كتبها ليصف قدرة الإنسان في مواجهة الطبيعة وصموده وصبره من أجل تحقيق أهدافه.


موقف أثر به منذ الطفولة

في العاشرة من عمره أهداه والده بندقية، وأهدته والدته آلة تشيلو للعزف، ولكنه أوضح بعد ذلك أنه لم يكن يميل لعزف الموسيقى، وأنه كان يهرب من دروس الموسيقى ليصطاد السمك، وكان من نتيجة هذا الشد والجذب بين عالمي والده ووالدته أنه أصبح شابًا عاكفًا على التفكير شديد الحساسية في نفس الوقت. فقد كان والده يجذبه إلى الحياة العسكرية المليئة بالحركة، في حين كانت أمه تعارض هذا الحماس بشدة وترغب في أن ينال ابنها تعليمًا عاليًا بعيدًا عن عالم المغامرة. فكانت تسخط على كل ما يحبه مما سبب له ضيقًا شديدًا انعكس على كل شخصياته النسائية بعد ذلك في كتاباته.


لغته الأدبية الخاصة

من المثير معرفة أن الكثير من كتابات هيمنجواي لم تكن تنال إعجاب النقاد والقراء على حد سواء في وقت صدورها مثل روايته الأولى «سيول الربيع»، وكذلك مسرحيته الوحيدة «الطابور الخامس» التي أجمع النقاد على فشلها التام.

تتميز لغة هيمنجواي الأدبية بأنه ابتكر نمطًا جديدًا للكتابة خاليًا تمامًا من المحسنات البديعية والتزويقات اللفظية والأطناب، ويتجه إلى طريقة التواضع في التعبير والأسلوب البرقي الذي يحاول إيصال التجربة إلى القارئ عن طريق التركيز والمباشرة. بالإضافة إلى ذلك فقد كان يحاول دائمًا التعبير عن رؤيته الخاصة في الحياة والفن.


هيمنجواي: مصارع الثيران

أثناء إحدى زياراته إلى باريس ألمح له الرسام بيكاسو عن مصارعة الثيران في مدريد كنوع مميز من الرياضة والبطولة. سافر بعدها إلى إسبانيا مع زوجته حيث شهد أول عرض لمصارعات الثيران في حياته، وقضى بها عدة أسابيع قبل أن يعود إلى باريس. وكانت هذه نقطة البداية في شغفه بمصارعة الثيران الذي لازمه طوال حياته ولم يكد يخلو أي من أعماله من التلميح إليه. وكان يذهب إلى إسبانيا في رحلات دائمة بصحبة رفاقه لمشاهدة عروض مصارعة الثيران والتأمل في قصص المصارعين وحياتهم.


قصة «حاضرة الدنيا»

هي إحدى قصص هيمنجواي القصيرة، التي تدور في إسبانيا، يصف فيها العالم الخاص بمصارعي الثيران، يتحدث فيها طويلًا عن شكلهم وثيابهم. يقسمهم فيها إلى فئتين: (وفي الحقيقة ينطبق الأمر على البشر ككل). الفئة الأولى، هي فئة أولئك الذين يتملكهم الخوف الدائم من مجرد السعي خلف أحلامهم وطموحاتهم، فقط يرغبون في أن تمضي بهم الحياة في سلام. يمثل هذه الفئة في القصة شخصية باكو، وقد اختار له هيمنجواي أكثر الأسماء شيوعًا في إسبانيا، ربما ليعبر عن أنها فئة الأغلبية. أما الفئة الأخرى يمثلها في القصة إنريكي مصارع الثيران الشجاع الذي لا يهاب الموت، في رمز واضح إلى البشر المغامرين الساعين خلف أحلامهم وطموحاتهم بلا خوف من ألم أو أمل. القصة تتحدث ببساطة عن الطموح والحلم والشغف، في الحياة علينا أن نختار إما أن نكون باكو أو أن نكون إنريكي.


هيمنجواي كتب كثيرًا عن الموت، والواقع أنه كان أكبر ما يسيطر على تفكيره، لم يكن يخشاه بأي شكل وواجهه خلال حياته مرات عدة وفي كل مرة كان يتمسك بالحياة ويعود ليكتب عن شغفه بالترحال والمغامرة. تزوج أربع مرات، وحاز على جائزة نوبل في الأدب عام 1955 لسيطرته القوية على أسلوب كتابة الرواية في قصته «العجوز والبحر». وتحولت الرواية القصيرة إلى فيلم سينمائي في هوليود، شارك هو في إعداده واختيار فريق العمل الخاص به. أصيب باكتئاب شديد في أيامه الأخيرة جعله يفقد القدرة على التمييز بين الوهم والحقيقة. دخل تحت اسم مستعار إلى أحد دور الرعاية النفسية لكنه خرج منها بعد فترة وبعد أكثر من محاولة انتحار حتى نجح بالفعل في إنهاء حياته في الطابق السفلي من منزله بطلقة رصاص واحدة في نهار الثاني من يوليو/ تموز عام 1961 لينهي بنفسة حياته الأسطورية التي كانت أشبه بمغامرة طويلة فريدة من نوعها.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.