في المقال السابق استعرضنا الجدل القائم بين بعض الأطباء والفقهاء حول أسباب الطاعون وتفسير انتشاره والإصابة به، وأطراف الجدل هم:

ابن خاتمة (ت 770هـ): فقيه مالكي وشاعر ومؤرخ وطبيب أندلسي بارع، من مدينة ألمرية وكتب رسالة سماها «تحصيل غرض القاصد في تفصيل المرض الوافد». وهو ممن شهدوا الطاعون الجارف أو الأسود.

ابن الخطيب (713-776هـ): مؤرخ وأديب وطبيب ووزير أندلسي لُقِّب بذي الوزارتين، وهو معاصر لابن خاتمة وصديق له. ألف في الطاعون الجارف مقالة بعنوان: «مقنعة السائل عن المرض الهائل».

محمد الشّقوري (ت 776هـ): طبيب أندلسي من أسرة طبية، درس الصنعة برفقة ابن الخطيب وهو معاصر لابن خاتمة. ألف رسالة طبية عن الطاعون الجارف بعنوان: «تحقيق النبأ في أمر الوباء» لم يصلنا منها سوى مختصر الرسالة الذي سماه «النصيحة».

ابن حجر (753-852هـ): هو الحافظ ابن حجر العسقلاني المصري الشافعي صاحب فتح الباري؛ الشرح الشهير لصحيح البخاري، وهو من الجيل التالي لابن الخطيب وابن خاتمة ولم يشهد الطاعون الجارف. ألف ابن حجر عن الطاعون كتابًا سماه «بذل الماعون في فضل الطاعون».

محمد الرصَّاع (831-894هـ): هو فقيه مالكي تونسي، تولى قضاء الجماعة وإمامة وخطابة مسجد الزيتونة، وقد ألف عن الطاعون ضمن إجاباته على عدد من الأسئلة أرسلها له الفقيه المالكي محمد الموَّاق؛ عالم غرناطة وإمامها.

في هذا المقال سنستعرض باقي النقاط المتعلقة بذلك الجدل؛ كعلاج الطاعون والوقاية منه، وحكم القدوم على البلد المصابة به، وكيف نظر الفقهاء لمريض الطاعون وإرادته والحكم على أفعاله بالصحة أو البطلان.


علاج الطاعون

التداوي

احتج ابن خاتمة بالقرآن والسنة والإجماع على جواز التداوي وأن الدواء لا يفعل شيئًا بنفسه بل إن الله سبحانه وتعالى هو الذي أجرى العادة بترتب الشفاء عليها ولو شاء لرتب عليها ضدها كنار الخليل إبراهيم عليه الصلام قد ترتَّب عليها التبريد خلافًا للعادة بترتب أثر الحرق على وجود النار. ولهذا فواجب على المريض أن يتداوى وفي نيته الاقتداء بالنبي، صلى الله عليه وسلم، وأن يجمع بين العمل والتوكل، فيحصل من تداويه على صلاح دنياه وآخرته. وحملت الرسائل الطبية إشارات لتجاسر الجهال من العطارين وغيرهم على علاج الناس ووصف الأدوية لهم دون استشارة الأطباء مما أدى لفساد عظيم. ومن الملاحظ أن جواز التداوي والدعوة إليه محل إجماع أطراف الجدل جميعًا، أطباء وفقهاء، على اختلاف آرائهم.

حفلت كتابات الأطباء بالعديد من الوصفات والتدابير لعلاج المرض في مختلف أطواره ومراحله إذا نزل، مع شيوع نبرة اليأس من مداواة المريض إذا استحكم منه المرض، فنقل الرصَّاع عن الطبيب أبي العباس أحمد الصقلي أنه أقر بعجز الأطباء عن مداواة هذه الأوبئة فيغلب الظن على موت صاحبها. وكذلك عبَّر ابن خاتمة عن يئسه من إيجاد علاج ناجع للمرض وحماية نفسه وأهل مدينته إلا التوكل على الله والاستسلام لقدره، ونسب إلى أبقراط قوله إن الطاعون نوع من غضب الله، ولا يُستدفع غضب الله إلا بالتماس رضاه وذلك بالتوبة والاستغفار والصدقة. وهذا ملمح آخر من أن الطب القديم حتى اليوناني منه لم يكن علمًا منبتًا عن التصورات الدينية.

الدعاء

أورد الرصَّاع الدعاء الذي كان يعلمه ابن عرفة، الفقيه المالكي التونسي الشهير وشيخ شيوخ الرصَّاع، وهو «اللهم سكّن فتنة صدمة قهرمان الجبروت بألطاف ألطافك الخفية النازلة الواردة من باب الملكوت حتى نتشبث بلطفك ونعتصم بك عن إنزال قدرتك يا ذا القدرة الكاملة والرحمة الشاملة يا ذا الجلال والإكرام. ثم يقول بعد ذلك ألفاظًا أعجمية علم معناها عند من نقل عنه وأنها من أسماء الله: إنُومي دُومي مَر بَطَري كَنَا سَنَدَام مَمنُوًا بِنَطَاس، كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز، الرقيب المقتدر».

ونقل بعد ذلك الرصَّاع عن ابن حجر جواز الدعاء عند الشافعية وأن الدعاء لا يتعارض مع إيمان المرء بالقضاء والقدر ولا يعارض كون الطاعون رحمة وشهادة لهذه الأمة، إذ قد يكون الله قدَّر وقوع الطاعون وقدَّر كذلك أن يكون الدعاء سبب لرفعه، فيفوز من يدعو الله بالعافية بأجر الشهيد للصبر على وقوع الطاعون، ويفوز كذلك بالعافية التي قدَّرها الله إذا رُفع الطاعون بالدعاء. كما نقل الرصَّاع عن المشائخ في تونس أن قراءة البخاري وختمه في زمن الداء نافع جدًا، وأن السلطان نتيجة استشارة العلماء قد أوقف البخاري على جامع الزيتونة وروايته في المدارس في شهر رمضان، فرأوا لذلك بركة عظيمة.


الوقاية من الطاعون

نتيجة لفشل علاج الطاعون، كانت الوقاية منه أهم وأكثر فاعلية، وكانت الوقاية على نوعين؛ تقليل الاستعداد للمرض، والفرار من بلد الطاعون.

تقليل الاستعداد

وصف ابن خاتمة تدابير للتحرز من المرض وتقليل الاستعداد له قبل نزوله؛ منها شم الروائح الطيبة واتباع عادات صحية في الطعام والنوم والاستحمام والجماع واستخدام الحجامة وتنظيف المعدة بوصفات معينة، وكذلك الاهتمام بالصحة النفسية من مداومة القراءة في كتاب الله فإن لم يتوصل لذلك فسماع الأخبار الفكهية والغزليات وغيرها مما يزيل عن صاحبها الغضب والهم والغم.

ومن بعض طرق الوقاية الغريبة، وسائل الوقاية التي وردت في رسالة الطبيب الشقوري عن علم الخواص؛ إذ نصح باتخاذ خاتم بالياقوت فهو يقي من الطاعون كما قال أرسطو، كما نقل عن الطبري قوله إن تعليق قطعة من عنق ناب الفيل في عنق طفل يقيه من وباء الأطفال، ونقل كلامًا عن الرازي كذلك في أن اتخاذ حلقة من الخاتم من قضيب الآس الطري (شجر الريحان) من شأنه أن يسكِّن الورم. وهكذا يمكن أن نتصور ملمحًا آخر من الطب القديم ومدى نجاعة التجارب والاستنتاجات التي يجريها الأطباء في ذلك الزمن، حيث إن طبيعة التجارب والتحكم بها ومبدأ التجربة العمياء لم يكن متَّبعًا؛ فيمكن لشخص نجا من الطاعون يلبس خاتمًا في الياقوت في يده أن يستنتج أن هذا الجوهر النفيس هو سبب حمايته وأنها خاصية علمية للياقوت، وهكذا.

الفرار من بلد الطاعون:

ما للوباء من الدواء سوى السفر :: والبُعد عنه فذا الذي فيه اشتهر فعلى الكراهة جلّهم حمل الخبر :: والأجر يحصل للمُقيم إذا صبر

بهذه الكلمات عبر ابن الخطيب (إذا صحت نسبة الأبيات) عن يأسه من مداواة الطاعون إذا نزل بالمريض، وأن الوقاية وحدها، متمثلة في الفرار، هي الأنفع والأجدى. والخبر الذي يعنيه ابن الخطيب في أبياته هو حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها».

الجدير بالذكر أن الفقيه المالكي الأندلسي الشهير ابن رشد الجد في الجامع في البيان والتحصيل حمل النهي في الحديث على التنزيه، وبهذا الرأي استشهد الفقيه عمر المالقي الأندلسي في مقامة كتبها باسم «مقامة الوباء» دعا فيها سلطان الأندلس أن يترك عاصمة ملكه، غرناطة، لما ظهرت بوادر الوباء فيها وأن يرحل لمدينة مالقة ولا يظن بذلك أنه يخالف أمر النبي، صلى الله عليه وسلم، إذ إن النهي هنا حسب تعبير المالقي «إرشاد وأدب وتعليم. فلا إثم ولا حرج على من أقام ولا على من خرج. وقال عمرو بن العاص الأفضل الخروج لأهل الفطنة، اتقاء من اعتقاد يردي إلى فتنة».

حمل ابن الخطيب على منكري العدوى من المفتين الذين اعترضوا الناس وتسببوا في هلاكهم وقتلهم بفتاواهم ووصفهم أنهم كالخوارج الذين استباحوا دماء الناس بالسيوف، وأن ذلك استرخاص لنفوس المسلمين وذكر أن علماء من القائلين بنفي العدوى تراجعوا عن فتاواهم وأشهدوا الناس على ذلك لئلا يتسببوا في هلاكهم. وهكذا نرى ابن الخطيب كطبيب يحرص على سلامة الأصحاء من المرض، وهو انطلاق من تلك الوظيفة يختار من الفتاوى الفقهية مما يعضد فكرته هذه بأن يحمل النهي على الكراهة.

أما ابن حجر، فنقل كلام بعض أهل العلم أن النهي عن الفرار تعبدي لا يُعقل معناه وإن التمسوا له حِكَمًا منها: أن الطاعون في الغالب يكون عامًا بالبلد الذي حل به فلا يفيد الفرار منه، وأن خروج الأصحاء يضر بمصالح المرضى فلا يجدون من يعتني بهم ويكسر ذلك قلوبهم ويوقع فيها كلمة «لو» المنهي عنها مما يؤثر على عقائدهم. كما أن ذلك يُعد فرارًا من أمر الله الذي قدَّر ذلك وأمر بالصبر عليه وجعل الشهاد جزاء للميت به وللمقيم الصابر المحتسب ولو لم يمت بالطاعون. أما النهي عن القدوم للبلد المطعونة فصيانة عن الشرك لئلا يقول القائل لو لم أدخل لم أمرض أو لو لم يدخل فلان لم يمت ويعتقد أن الطاعون يصيب بنفسه.

ووافق الرصَّاع ابن حجر في ذلك وزاد عليه أن الفرار لا جدوى منه إذ إن الطاعون سببه فساد الهواء، والرصَّاع في ذلك تابع لكلام الأطباء في غير العدوى وهو كثير الاستشهاد برسالة ابن خاتمة في العموم، وقد استحكم الهواء برئة الرجل وخياشيمه فلا يفيده الفرار بشيء.

وهكذا نجد أن الفقهاء الذين حملوا المعنى على التحريم والتمسوا لذلك حكمًا لم ينظروا نظرة الطبيب الذي يريد إنقاذ الأصحاء من المرض وعدم اهتمامه بالمرضى لأنه كطبيب لا يستطيع علاجهم وهم عنده كالأموات، وإنما نظروا نظرة الفقيه الذي يعتبر المصالح الدنيوية والأخروية؛ فإذا كان نجاة عدد من الأصحاء الأقوياء القادرين على السفر قد يترتب عليه إهمال شأن المرضى ورعاية شئونهم أو رعاية الضعفاء ممن لا يقدرون على السفر وغير ذلك، فيمكن تصور الكوارث الإنسانية المترتبة على هذا بخروج كل الأصحاء، وهو فساد دنيوي عظيم إذا قورن بنجاة عدد من الأشخاص، أما المصالح الأخروية من حيث إن طاعة أمر النبي، صلى الله عليه وسلم، لمن حملوا النهي على التحريم، والصبر على البلاء له أجر كبير وثواب عظيم في الآخرة التي هي دار البقاء وذلك أعظم من البقاء في الدنيا وهي دار فناء، واعتبار مصالح المرضى أنفسهم والقيام على شئونهم والحفاظ على عقائدهم من وساوس الشيطان فتفسد دنياهم بالمرض وآخرتهم بفساد دينهم حسرة على أنهم أصيبوا وحدهم بالمرض دون غيرهم.

أما ابن خاتمة فعدَّ البقاء في البلد المطعونة من الصبر على البلاء والتوكل على الله والاستسلام لقضائه. ورغم قول ابن خاتمة بالعدوى إلا أنه حمل النهي في الحديث على التحريم ومن فوائد ذلك كما ذكرها حماية القادم على بلد الطاعون من مخالطة المطعونين والمرض به، وحماية البلد التي يأتيها الفار من الطاعون فيهلك بين أظهرهم. بهذا جمع ابن خاتمة، الطبيب الفقيه، مصالح الدنيا والآخرة من الوجهة الشرعية والطبية، فهو وافق الفقهاء في اعتبار المصالح الأخروية من طاعة أمر النبي صلى الله عليه وسلم، ومن اعتبار المصالح الدنيوية من منع حصول العدوى وهي فكرة الحجر الصحي الحديثة.


هل يتم الحجر على سكان البلد المصابة بالطاعون؟

اشتملت أسئلة الموّاق للرصَّاع على سؤال مهم متعلق، والاثنين من الفقهاء فكما تحتوي النازلة على أسباب طبية وعلمية، فهي كذلك يترتب عليها أمور شرعية متعلقة بمصالح الناس وأموالهم، وذلك في الأخذ بالاعتبار أن الفقيه كان قاضيًا ومفتيًا ومدرسًا وممثلاً شعبيًا.

كان السؤال حول ما إذا يترتب على الطاعون اعتبار جميع أهل البلد كالمريض المخوف، وهو المريض الذي لا يُتعجل موت صاحبه يقينًا، لكن يُخاف ذلك. وهو نوع من أنواع مرض الموت، ويترتب على المريض مرضًا مخوفًا أحكام وتصرفات في العطية والإرث والوصية والعتق والوقف والإبراء من الدَين وغير ذلك. ذلك أنه لا يجوز له التصرف برأس ماله كله في تلك الأحوال؛ إذ للورثة فيه حق. فيتم الحجر عليهم ورد القضاة للإجراءات التي يقومون بها في أملاكهم، ففصَّل ابن حجر والرصَّاع أقوال المذاهب وأفتى الأخير في النهاية أن الصحيح في بلد الطاعون لا يُعتبر مريضًا مخوفًا حتى ينزل به المرض.

ونقل ابن حجر من ضمن الآراء التي نقلها عن الزركشي تفصيلاً يفرِّق بين الطاعون المدمر كالطاعون الجارف الذي تنغلق فيه البيوت على الجثث لعدم وجود من هو قادر على دفنها وبين الطواعين في أزمانهم المتأخرة ذات الضرر الأقل.


الخلاصة

تُعدّ النوازل الطبيعية في التاريخ الإسلامي أحد أهم وجوه التاريخ الاجتماعي، ويُعتبر التدوين والجدل حولها من مختلف الزوايا وثائق تاريخية نفيسة، تكشف طبيعة العلاقة بين شرائح المجتمع المختلفة والنخبة على وجه الخصوص واختلاف طريقة التفكير والنظر في النازلة الواحدة، فرأينا كيف تفاعل الطب القديم مع النصوص الدينية مع الآراء الاعتقادية والفتاوى الفقهية في تشكيل مزيج مركَّب مثَّل رؤية للكون والدين والإله، وطبيعة الحياة والموت والكيفية التي تسير بها أمور الدنيا. وكيف أن هذا الجدل قد تطاول عبر الزمان والمكان فشمل أزمنة مختلفة وبقاع عدة من العالم الإسلامي فرَّقته الأسر الحاكمة ودويلاتها وجمعته ثقافته العلمية والفقهية والعَقَدية.

في المقال القادم سنتعرض لنازلة أخرى من النوازل، فننتقل من البحر المتوسط إلى أقصى الشمال، إلى ثلوج سيبيريا نقرأ أسئلة مسلمي الشيشان المنفيين وإجابات عالمهم عليها، وبين الأسئلة والإجابات يتضح الكثير من ملامح التاريخ الاجتماعي لأمة الإسلام.

المراجع
  1. ثلاث رسائل اندلسية في الطاعون الجارف – محمد حسن
  2. الأجوبة التونسية على الأسئلة الغرناطية – محمد حسن
  3. بذل المعون في فضل الطاعون – ابن حجر، تحقيق: أحمد عصام عبد القادر الكاتب
  4. مقالات ورسائل أندلسية – فرناندو دي لاجرانخا