ثلاثةُ أمور لسنا بحاجةٍ إلى مزيد من الكلام حولها، وكل ما يضاف إليها من «كلام»، هو عبث في عبث، ومضيعةٌ للوقتِ، ومذهبةٌ للعقل:

  1. لسنا في حاجة لمزيد من توصيف علل الواقع وتشريح مشكلاته وتشخيص أمراضه، ناهيك عن الشكوى من هذا الواقع؛ فجمهور الناس، لا النخبة وحدها، يعرفون علل مجتمعهم -كما يعرف الأعرابي في الصحراء علةَ جملِه- ويرددونها، ولا يملون من تكرارها حتى حفظها الجميع. ولا يكاد أحد يختلف حول أن مجتمعنا المصري -والعربي عامة- يعاني من ثلاث علل كبرى مترابطة ومتزامنة هي: الاستبداد السياسي، والفساد الفردي والهيكلي، والتحلل الاجتماعي.
  2. لسنا في حاجة لمزيد من تزكية المدخل السياسي للإصلاح وحزمة الإجراءات العملية التي تترجمه على أرض الواقع (إطلاق الحريات، وإرساء دعائم دولة القانون والمؤسسات، صيانة حقوق الإنسان، وإقرار التعددية السياسية، وتداول السلطة، والتخلص من الشللية) كذلك لسنا في حاجة إلى الإلحاح كثيراً على منهجية التغيير من أعلى، أو ما يسمى في أدبيات التغيير الاجتماعي «الإصلاح الصريح» الذي يأتي دوماً بقرارات أو بقوانين تصدرها السلطة وتعهد بتنفيذها إلى الجهاز البيروقراطي للدولة، بشرط أن يكون هذا الجهاز أهلاً لأداء هذا الدور ومؤهلاً له.
  3. لسنا في حاجة كذلك إلى التأكيد كثيراً على أن الدعوة للإصلاح لها تاريخ طويل في بلادنا، وأننا سبقنا الدنيا في كل شيء. وإذا اقتصرنا فقط على التاريخ الحديث فسنجد أن أفكار الإصلاح، وحركات الإصلاح، وسياسات الإصلاح يكاد يبلغ عمرها قرنين من الزمان، وإن كانت لم تبلغ من مقاصدها وأهدافها إلا القليل بفعل عوامل داخلية وأخرى خارجية؛ باتت هي الأخرى معلومة بالقدر الذي يدعونا إلى الانتقال مباشرة إلى ما الذي يجب عمله اليوم وهنا؟

لقد حظيت مختلف مداخل الإصلاح السياسي والاقتصادي والقانوني بما تستحقه من الاهتمام النظري والفكري، ولم تغب مداخل الإصلاح الثقافي والاجتماعي عن أجندة الفكر الإصلاحي أيضاً وإن لم تنل القدر الكافي من الجدل والحوار بين التيارات الفكرية الأساسية؛ ربما تحاشياً لما يولده الجدل في مثل هذه الموضوعات من توسيع شقة الخلاف فيما بين المتحاورين؛ كل حسب المرجعية التي يؤمن بها وينطلق منها ويحتكم إليها. وهذا هو بالضبط ما يستحق مزيداً من البحث والتفكير من أجل التوصل إلى تحقيق توافق وطني عام بشأن القضايا التي يثيرها.

ولكن ثمة بعداً يكاد يكون غائباً غياباً تاماً عن أطروحات الإصلاح وبرامجه، وهو المدخل الأخلاقي. قبل عشرين عاماً طرح المثقفون (وهم حداثيون في أغلبهم) رؤيتهم الإصلاحية في وثيقة عرفت باسم «وثيقة الإسكندرية»، وصدرت عن مؤتمر الإصلاح العربي (14/ 3/ 2004) وتضمنت تصوراً كان يصلح وقتها للمناقشة بشأن مختلف جوانب الإصلاح ومداخله وكيفية تطبيقه.

ولكن تلك الوثيقة كانت مصابة في مقتل، نبهنا إليه في حينه، وهو أنها لم تأت من قريب أو من بعيد على ذكر حالة التدهور الأخلاقي الذي يضرب البنية النفسية والسلوكية للأفراد والفئات الاجتماعية بمستوياتها الدنيا والوسطى والعليا، وقلنا في أحد اجتماعات مكتبة الإسكندرية في حينه أيضاً إن إغفال الإصلاح الأخلاقي كفيل بهدم كل جهود الإصلاح في مهدها، وربما قبل أن يكون لها مهد تتمهَّد فيه. باعتبار أن الإصلاح الأخلاقي شرط ضروري ولازم لإدراك النجاح في أي عملية إصلاحية فردية كانت أو جماعية.

ثمة معنى ضيق للإصلاح الأخلاقي يقصره –عادةً- على كيفية تقويم السلوك الفردي حتى ينضبط وفقاً لمنظومات من القيم والمعايير المستمدة من ثوابت المجتمع الدينية والثقافية. وثمة معنى واسع لهذا الإصلاح ينهض على أساس إحياء وتفعيل منظومة القيم والمبادئ التي تحض على مكارم الأخلاق وفضائل الأعمال. والإصلاح بهذا المعنى يمتد إلى البحث في كيفية إعادة التوازن والفاعلية إلى منظومات القيم والمعايير الفردية والجماعية السائدة في المجتمع.

الإصلاح الأخلاقي بهذا المعنى واجب ولازم لأن الواقع به خللٌ جسيم في تلك المنظومات على مستوى غالبية الأفراد والأسر والجماعات والتكوينات الاجتماعية والمهنية والسياسية والثقافية، كما أن القدرات المهنية والمهارات الحياتية والآداب المدنية السائدة هي في أدنى درجات فعاليتها، وأبعد ما تكون عن احترام التوجهات المعيارية الكبرى التي يجب احترامها في كل جانب من جوانب الحياة الخاصة والعامة في المجتمع. وهذا هو بالضبط ما نلمسه جميعاً، وتزيد الشكوى منه يوماً بعد يوم، ويعرفه كل أحد، ولا يقدر على معالجته أحد.

الإصلاح الأخلاقي بالمعنى الواسع يعنى بتقييم وتقويم السلوك الإنساني من منظور صواب الأفعال أو خطئها، جوازها أو عدم جوازها، وهل هي خيرة طيبة أم شريرة وفاسدة، ويعتمد أول ما يعتمد على قوة الوازع الداخلي إلى جانب المناخ الملائم والقانون العادل، والإعلام العاقل، والفن الهادف، والمؤسسات الفاعلية… إلخ. ويدعونا الإصلاح الأخلاقي أيضاً للاهتمام بكيفية معالجة أسباب ومظاهر الخلل القيمي والمعياري على مستوى السلوكيات والآداب المدنية والأخلاقيات العملية والمهنية والطبائع الإنسانية، وغير ذلك مما يندرج تحت وصف «التحلل الاجتماعي» على المستويات كلها.

«الإصلاح الأخلاقي» إذن هو المقابل المنطقي «للتحلل الاجتماعي». وفي ظل «التحلل الاجتماعي» تكون تصرفات وسلوكيات وحتى تطلعات مجموعات كبيرة من الأفراد والجماعات والتكوينات المهنية محكومة بمنظومات من القيم والمعايير السلبية -المعلنة وغير المعلنة- التي تتشكل من الآتي:

  • النفاق والكذب وإخلاف الوعد على طول الخط وعلى كل المستويات.
  • الرشوة والمحسوبية والاختلاس والنصب.
  • التسيب والإهمال واللامبالاة.
  • ضعف الميول نحو المشاركة والتنكر لكل ما له صلة بالشأن العام.
  • غلبة النزعة المادية والاستهلاك الفاجر.
  • زيادة معدلات الجريمة والعنف بكل أنواع، وأخطرها: العنف الاجتماعي المتوحش.
  • ضمور معنى المصلحة العامة إلى حد التلاشي.
  • انخفاض قدرات البشر -وأحياناً رغباتهم- على العمل المنتج النافع.
  • اختلال ميزان العدالة (في توزيع الدخل، في تطبيق القانون، في توفير فرص العمل، في رد المظالم، في الحكم على الأمور بعامة).
  • انحراف الفنون والآداب عن مقاصدها النبيلة إلى التركيز على غرائز الجنس واللذة والتفكير الخرافي، وتزييف الوعي.

إن قائمة مؤشرات التحلل الاجتماعي طويلة ومعروفة في أغلبها، ويمكن التعبير عنها بكلمة واحدة مثقلة بالمعاني السلبية وهي: «الفساد» أو «الإفساد» -الذي هو بالمناسبة عكس «الصلاح» أو «الإصلاح»- وما نود التأكيد عليه هنا هو أنها تمثل قاسماً مشتركاً أعظم بين مختلف الجوانب التي تتجه إليها جهود الإصلاح، ولا تكاد تغيب عن جانب واحد منها، الأمر الذي يعني أنها واقعة أيضاً في صميم أي عملية إصلاحية مبتغاة، وأن الإصلاح الأخلاقي يجب أن ينظر إليه لا باعتباره «دعوة إلى مكارم الأخلاق» فحسب -وهذا في حد ذاته كثير ليس بالقليل- وإنما باعتباره قاسماً مشتركاً أعظم بين مختلف مداخل العملية الإصلاحية، وشرطاً ضرورياً ولازماً لنجاحها في الواقع.

لو افترضنا جدلاً أننا أفلحنا في إنجاز الإصلاح السياسي والاقتصادي والتشريعي على النحو الذي تطالب القوى والتيارات المتحاورة أو المتناحرة، مع بقاء الأوضاع على ما هي عليه في الجوانب الأخلاقية السائدة، فإن إمكانية تفعيل برامج الإصلاح في تلك الجوانب ونجاحها في الواقع قليلة، وستكون فرصتها في تحقيق مقاصدها محدودة. و«إنَّ ليتاً وإنَّ لوَّا عناءُ» كما قال الشاعر العربي قديماً.

ماذا سيحدث مثلاً لو استجابت السلطة لمطالب الإصلاح السياسي في إطار الشراكة مع مؤسسات المجتمع المدني، أو مع ما يسمى –تجاوزاً- الأحزاب؛ إن بقي الكذب والنفاق سائدان، وإن استمرت الأثرة والأنانية مهيمنة، وإن ظلت الرشوة سارحة في كل شبر وفي كل ثقب، وإن استمرت المحسوبية مارحة بلا رادع من قانون ولا وازع من أخلاق؟ تُرى هل سيكون للإصلاح السياسي أي معنى على فرض إقراره في القوانين واللوائح والنظم والمؤسسات؟ وقل مثل ذلك في شأن بقية جوانب أو مداخل العملية الإصلاحية المنشودة.

ولكن ثمة أسئلة مهمة يمكن أن تثار بصدد عملية الإصلاح الأخلاقي وارتباطها بمداخل الإصلاح الأخرى، فمثلاً: من أين تبدأ عملية الإصلاح الأخلاقي؟ ووفقاً لأي مرجعية معرفية؟ وهل الفساد الأخلاقي هو سبب التحلل الاجتماعي فنعطي الأولوية الأولى لعمليات التنشئة والتربية؟ أم أن التحلل الاجتماعي بالمعنى الذي أوردناه هو السبب في البعد عن الأخلاقيات الصالحة، وفي هذه الحالة علينا أن نعطي الأولوية الأولى للارتقاء بمستويات الأداء والالتزام المهني والمدني؟ أم إن الأمر لا يعدو أن يكون مزيجاً من هذين التصورين معاً وإن بنسب متباينة من مكان لآخر ومن زمن لزمن؟

إن مثل هذه التساؤلات تحتاج إلى كثير من الحوار والمناقشة حتى يمكن التوصل إلى توافق فكري حول الإجابات المتصورة بشأنها، وهو ما لا يتسع له المجال هنا. وما نود التأكيد عليه مُجدداً هو أن إدماج الإصلاح الأخلاقي في مختلف المداخل الإصلاحية السياسية والاقتصادية والتشريعية والثقافية والاجتماعية، أمر ضروري ولازم، ومن دونه ستظل كل التصورات والأفكار الإصلاحية لتلك المداخل مفتقرة لواحدة من أهم ضمانات النجاح والفاعلية التطبيقية وهي ضمانة الوازع الذاتي واحترام التوجهات المعيارية والأخلاقية الكبرى التي تحفظ تماسك المجتمع وتشكل المناخ الملائم لتطوره.

ومهما كانت صعوبة عملية إدماج الأخلاق في مداخل الإصلاح المختلفة عامة، وفي الإصلاح السياسي خصوصاً؛ لكون السياسة في تعريفها الوضعي وممارساتها العملية لا تعرف الأخلاق إلا قليلاً، ولو تحققت عملية الإدماج هذه لكانت جهود الإصلاح أقرب إلى الفلاح، ولكن: «لواً عناءُ». وللحديث بقية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.