لذا، أيها الإخوة، امضوا في سباقكم، بحبور بطل يسعى نحو فتحه العظيم.

فريدريك شيلر – من «نشيد الفرح»، أخذ عنه موسيقى النشيد الوطني الأوروبي

ألمانيا تكابد مرارة الهزيمة والدمار، بريطانيا المُنتصرة على حافة الإفلاس، وفرنسا تقترب من مجاعة ستأكل الأخضر واليابس. هكذا كانت الأحوال في أوروبا بعد انقضاء أسوأ حربين عرفتهما البشرية، العالمية الأولى والثانية. ما دفع جون مونييه وروبرت شومان – الأبوين المُؤسسيين للاتحاد الأوروبي – إلى التفكير في كيفية تجنب مرور أوروبا بمثل هذه الأحداث مرةً أخرى؛ فاهتديا إلى أنّ التنافس بين القوميات الأوروبيّة كان هو السبب الرئيس لهذه النزاعات المُدمرة، وأن الحل يكمن في نزع فتيل القوميات، ووضع الدول الأوروبيّة ضمن إطار واحد يجعلهم شركاء في المغنم والمغرم، ويضع مسئولية على الدول القوية والمستقرة اقتصاديًا أن تساعد من ليس كذلك.

ومن تلك اللحظة بدأ ما نعرفه اليوم بالاتحاد الأوروبي بالتشكل، مرورًا بمُسميات مختلفة ومراحل متتابعة كلها تُشير إلى مزيد من القوة والتوسع. فبعد توقيع اتفاقية السوق المُشتركة في 1957، جاءت اتفاقية «ماسترخيت» التي وضعت أساس السياسة الأوروبية المُوحدة عام 1992، وما تلاها من تخلي عشر دول عن عملاتها الوطنية وتبني اليورو في 2002.

رافق مراحلَ التكوين تلك انضمامُ عددٍ أكبر فأكبر من الدول للكيان الأوروبي، إلا أن التوسع المطرد من 6 دول فقط إلى 28 دولة رافقه اختلاف في وجهات النظر والمصالح والتحديات، وعام وراء الآخر أصبح من الصعب احتواء هذا التنوع، وتقريب وجهات النظر ضمن أطر دستورية، ووفقًا للسياسة العامة للاتحاد.


الاتحاد الأوروبي: لا يمثل أوروبا، وعنصري كذلك

حين نضع الأمور في نصابها الحقيقي نجد أن الاتحاد الأوروبي يمثل 28 دولة فقط، بينما مجلس أوروبا المُؤسس عام 1949 يُمثل 47 دولة؛ لذا يجب التعامل مع الاتحاد الأوروبي ككيان مهم في قارة مهمة، لا كممثل عن القارة بأكملها، غير أن هذا لا يقلل من دوره كقوة إقليمية فاعلة كما سنوضح لاحقًا.

كذلك ما حدث مع اليونان يعكس أن الاتحاد لا ينظر إلى أعضائه كطبقة واحدة؛ فحين غرقت اليونان في أزمة مالية عام 2009 وقف الاتحاد متفرجًا وقتًا طويلًا، ولم يتحرك إلا حين بدا أن الأزمة اليونانية ستطال البنوك الأوروبية فمنحها قرضًا بقيمة 110 مليار يورو عام 2010. وظل الاتحاد الأوروبي متمثلًا في ألمانيا يعامل اليونان باحتقار شديد، وتجلى الأمر علانيةً عام 2015 حين طالبت فرنسا وألمانيا اليونان بالخروج من الاتحاد الأوروبي.

ما يدفع المتأمل إلى التساؤل بتشكك: هل تستطيع إدارة من هذا النوع أن تتعامل مع المشاكل العميقة التي تعصف بالاتحاد بصدقٍ وبعقلانية؟، وهل يمكن أن تعترف الدول الكبرى في الاتحاد بمسئوليتها تجاه ما آلت إليه الأوضاع في الحاضر والماضي؟، فمثلًا أزمة اليونان وإيطاليا كان من الممكن تجنبهما إذا لم يدخلا في اتفاقية العملة الموحدة.


أوروبا متعددة السرعات

شهدت أوروبا انحرافًا واضحًا عن مبدأ «التضامن الفعلي» الذي أرساه روبرت شومان في خطابه 9 مايو/أيار 1950. ولا تُبشر السيناريوهات المحتملة والمطروحة من أعضاء وقيادة الاتحاد برغبة في العودة إلى مبدأ شومان، بل تتجه نحو مزيد من التقسيم بإنشاء أوروبا مُتعددة السرعات.

وإذا اعترفنا أن أوروبا متعددة السرعات موجودة بالفعل؛ فمن أصل 27 دولة في الاتحاد وافق 19 فقط على العملة الموحدة، وتتواجد 26 دولة فقط في الاتحاد المصرفي، و21 في الناتو، و21 في اتفاقية شنجن. إلا أن الجديد الذي أعلنه جان كلود جونكر، رئيس المفوضية الأوروبية، في الأول من مارس/آذار 2017، في خطته المُسماة الورقة البيضاء التي تتضمن 5 احتمالات يجب على الاتحاد الاختيار منها أو تصورات لحال الاتحاد الأوروبي؛ هو تقسيم الاتحاد الأوروبي ذاته لفئات متعددة السرعات.

السيناريو الأول هو الاستمرار في السياسات الحالية كما هي. وكما قدّمنا لو استمر الاتحاد على النمط الراهن من السياسات المعتمدة على تهميش العديد من الدول، واختزال الاتحاد في فرنسا وألمانيا، فمن الممكن أن نقرأ نعي الاتحاد بعد بضع سنواتٍ من الآن.

أما الاختيار الثاني فكان التركيز على السوق المشتركة وإزالة أي حواجز أمام التجارة، ولكن يصاحبه سيادة أقل للاتحاد على الدول.

وجاء الثالث ليعكس شيئًا في نفوس الدول الكبرى؛ وهو السماح للأعضاء بالتعاون والاتحاد مع بعضهم على مستويات مختلفة، ما يتيح لأي مجموعة أن تتقدم دون أن تضطر إلى انتظار الدول الأخرى، أو تحمل أعباء أزماتها. وهو ما يعد أمرًا جيدًا للدول الكبرى؛ فقد كانت القاطرة الألمانية-الفرنسية هي التي تحمل عبء قيادة الاتحاد الأوروبي في أغلب الأحيان. وهو ما يسعى ماكرون إلى تقويته حاليًا، فما أعلنه أثناء لقائه مع المستشارة الألمانية ميركل في 15 مايو/آيار 2017، بأنه يرغب في برلمان واحد، وميزانية واحدة، ووزير مالية واحد للاتحاد الأوروبي كاملًا، يظهر رغبة في فرض مزيد من الوصاية على باقي الأعضاء، ورغبة قوية في تذييل باقي الأعضاء من خلال السيطرة -كدولة كبرى- على المناصب المذكورة.

والاختيار الرابع هو أن يهتم الأعضاء بمجالات دون غيرها، فيمكنهم التركيز على الاتحاد في العملة مثلًا، دون أن يعني ذلك اتحادهم في السياسات الخارجية، ويصير اسم الاتحاد رمزيًا أكثر من كونه اتحادًا فعليًا.

وأخيرًا الاختيار الخامس: أن تهتم الدول الأوروبية أكثر بتبني موقف واحد من السياسات الخارجية، أكثر من التركيز على المشاكل الداخلية.


ما لم تقله «الورقة البيضاء»

على الرغم من أن ورقة جونكر البيضاء بلغت 30 صفحة، إلا أنّها لم تضع احتمالًا – ولو ضئيلًا – لانهيار الاتحاد بشكل كامل، وهو ما يبدو أن المستقبل القريب سيضطر جونكر إلى التفكير بشأنه، فالمستقبل يحمل حتميةً مرور الاتحاد بانتكاسات عدة على المستوى الاقتصادي والسياسي، كما يشير الوضع الراهن إلى أن أقل السيناريوهات احتمالًا هو التكاتف والعمل معًا من أجل بناء أوروبا قوية، خاصةً بعد الرفض القاطع والصريح الذي قابلت به دول أوروبا الشرقية هذا الاقتراح.

وعلى الرغم من حرص الجمهوريات الست على الاقتراب من الاتحاد الأوروبي والبقاء تحت مظلته، إذ أن البديل الآخر هو الركوع أمام القيصر الروسي، إلا أنّها ترفض في نفس الوقت الانصهار الكامل في الاتحاد، وتظل شاعرةً بأن بقية الاتحاد الأوروبي ينظر إليها كدول درجة ثانية، وهو ما تجلى قبل ذلك في القضية التي أثارتها بولندا والمجر وسلوفاكيا بشأن تصدير شركات الأغذية في أوروبا الغربية لأغذية مصنوعة من مواد خام أقل سعرًا وجودةً من تلك المستخدمة في باقي دول الاتحاد.

وجاء إعلان جونكر ليؤكد هذا الظن، ما دفع رؤساء وزراء 4 دول إلى الاجتماع في وارسو لإعلان رفضهم لهذه الورقة، وتأكيدهم على حقهم بالمساواة بباقي دول الاتحاد. وإلى الإشارة أن بقاء دول أوروبا الشرقية ضمن مظلة الاتحاد مكسب اقتصادي للدول الأخرى، بسبب استقبالهم للعديد من صادرات الدول الغربية، إلا أن نفس النقطة انتقدها ماكرون بشدة واصفًا أوروبا الشرقية أنّها تتعامل مع الاتحاد كـ«سوبر ماركت».

من المتوقع أن يطال التناحر الدول الكبرى بعضها مع بعض، فسياسة الاتحاد الأوروبي المُوحدة تقتضي أن يكون له ممثل واحد فقط في مجلس الأمن. كذلك فإن الأعضاء ليسوا بحاجة إلى سياسة موحدة فيما يتعلق بالدفاع؛ فالناتو يتولى عنهم تلك المهمة، وبالتبعية الولايات المُتحدة التي تدفع للناتو أكثر من باقي الدول.