إني لأذكرُ هذه السيدة الفرنسية المسلمة، التي دخلتْ في دين الله على إثر دراستِها لجلال الدين الرومي، حياته وكتبه. إنها تتردد كثيرًا على قونية لتنعم برؤية مريدي هذا المرشد العظيم. وإذا رأيتَها وهي تحاضر عن الإسلام، ونورُها يسعى بين يديها، ترى الفتحَ الإلهيّ والقربَ من الله والبركة المباركة.
يحيى الخشّاب-1977

سيدةٌ وقورة ترتدي زي السيدات العجائز في رحلة الحجّ لا تظهر ملامحها الأوروبية ولا شيء يميّزها عن بقية النساء التي تجلس بجوارهن، لكن بمجرد الحديث معها تجد أنك إمام امرأة مثقفة من الطراز الرفيع، ومريدة تحيا جمال التصوف والروحانيات بأسلوب فريد، تنتقل من قارة إلى قارة كي تتعرّف على ملامح الإسلام عبر رجاله قديمًا وحديثًا، وتناقش أعلام المستشرقين الكبار كماسنيون، وتنعقد بينها وعلماء الإسلام كمحمد حميد الله أواصر صداقة وطيدة ويجمعهما العمل العلمي والاجتماعي، لماذا لا تُذكر كثيرًا في المصادر العربية؟ ربما يكون ذلك عائدًا إلى قلّة الترجمات عنها ونستطيع أن نفهمه بسهولة، لكننا نندهش حينما نعلم أن الدراسات الصوفية الحديثة لا تلقي بالًا لمجهودها الجبار في نقل التصوف الفارسي إلى اللغة الفرنسية، وتسلّط الأضواء على جهود حديثة هي في أساسها لم يكن من الممكن أن تخرج لولا جهود إيفا!

شاغلٌ كبيرٌ للقارئ المسلم، لماذا يكتب فلان عن الإسلام أو تكتب فلانة بشكل جيّد ولمّا تدخل الإسلام بعد؟! وأوّل سؤال يواجه القارئ العربي به الكتّاب الغربيين المنشغلون بالروحانيات والتصوف: هل أسلمت؟ لماذا لم تسلم بعد؟ كان هذا السؤال يلاحق أنّا ماري شيمل التي تخصصت في نفس المجال، لكن الأمر مختلف هنا مع إيفا، فقد التحقت بالإسلام وصارت من أهله، لذا سيكون السؤال الأول لها في أول لقاء معها كيف أسلمتِ؟ ولماذا؟

في عام 1970 سافرت إيفا من باريس إلى مصر، وهناك درّست في جامعتي الأزهر وعين شمس، وأجريت معها بعض اللقاءات، وأجابت على هذا السؤال، قائلة:

تعرّفتُ على الدّين الإسلامي بطريقة أكاديمية في بادئ الأمر، ودرستُ مؤلفات الشاعر الباكستاني إقبال دراسة عميقة. ودرست ما يتخلل شريعة الإسلام والسُّنة من أمور مبهمة على الفهم العادي، لكي أتعرّف على حقيقته، فقرأت للفيلسوف الغزّالي مثلًا وغيره كثيرين. واكتشفتُ أن الإسلام دينٌ حيّ. وقد كنتُ محبّة دومًا لتعريف البيضاوي وتفسيره للإيمان إذ يرى أن الإيمان يقتضي باختصار وتركيز (أن يتقبّل الإنسانُ الشيء على أنه حقيقي مع سلامة القلب والعقل). وقد رأيتُ أن الإسلام وحده هو الكفيل بأن يحقق لي هذا الإيمان.

أهَّل تحصيل إيفا العلمي والثقافي لتكون عضوة فاعلة في المركز القومي للبحث العلمي العالي المقام في فرنسا (CNRS) إذ حصلت على دكتوراه الدولة في الفلسفة وإلى جانب دراستها للفلسفة كانت قد درست العلوم الإسلامية واللغة الفارسية لتخرج ثمرة زكية بعد ذلك عن (التصوف والشعر في الإسلام) وبصورة خاصة عن الرومي والدراويش المولوية. وبعد حصولها على دكتوراة الدولة طلبت أن تُعفى من مهام وظيفتها الإدارية لتتفرّغ للأبحاث وحدها، ولكي تقوم على الإشراف البحثي الخاص بتلاميذها في صورة مناسبة.

تخصصت إيفا في الأبحاث المتعلقة بالفلسفة الإسلامية، ولا سيما أدبيات التصوف الفارسي، التي كانت دائمة البحث عن المخطوطات المتصلة بدراستها وتصوريها ودرسها وتلخيصها ونقلها إلى القارئ الأوربي في لغة مبسّطة ومفهومة. وتمكّنت بعد هذه الرحلة البحثية الطويلة من تأليف وترجمة عدة كتب في هذا المجال، كما نشرت الكثير من المقالات في المجلات والدوريات العلمية.

أرسلت الحكومة الفرنسية إيفا في بعثات علمية إلى المغرب وتركيا ولبنان ومصر، وفي مصر توطّدت صلتها بالدكتور طه حسين الذي كان له دور بارز في العناية بآداب الأمم الشرقية، وأشرف على نقل كثير من عيون الأدب الفارسي إلى اللغة العربية، وكان لقاء إيفا بشيخ الأزهر وقتها ( فضيلة الدكتور محمد الفحّام) ووزير الأوقاف عبد العزيز كامل مثمرًا للغاية بالنسبة لها وللأزهر، إذ أصبحت عضوًا بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وظلّت تكتب بصفة مستمرة مقالات عن الإسلام باللغة الفرنسية في مجلة منبر الإسلام، كما قُدّمت إليها منحة تفرّغ من المجلس لستة أشهر لاستكمال أبحاثها عن الإسلام.

وفي كلية البنات بجامعة الأزهر ألقت العديد من المحاضرات، التي ركّزت فيها على العوامل المشتركة بين الحضارة والثقافة الإسلامية، وسجّل لها المركز الثقافي الفرنسي بمصر محاضرة عن (التصوف في شعر إقبال) وفي جمعية (نساء الإسلام) التي ترأستها وقتئذ الأستاذة مفيدة عبد الرحمن حاضرت عن التصوف الإسلامي. وبدعم من الأستاذ محمد توفيق عويضة أسست في فرنسا ما يُعرف بالجمعية الفرنسية الإسلامية، التي كانت راعية للتبادل العلمي بين الأزهر وفرنسا.

كانت إيفا تحلم بأن تعرّف الشعب الفرنسي وجميع الدول الناطقة بالفرنسية الرسالة الجمالية للإسلام، وقد تمكنت من تحقيق حلمها عندما ترجمت أغلب أعمال مولانا الرومي، فقدمت للغرب، وللمسلمين أنفسهم، قوة ثقافية وروحية، لواحد من الرجال اللذين أحيوا الإرث الروحي لسيدنا محمد عبر القرون، وساعدت إجادتها للغة الفارسية من تمكين قرائها، ليس فقط من الفهم، بل من تذوق المعاني العميقة لنصوص مولانا جلال الدين الرومي.


كيف دخلت إيفا إلى عالم مولانا جلال الدين الرومي؟

عن طريق محمد إقبال ولجت إيفا إلى عالم الرومي، كانت البداية مع إقبال القائل: صيّر الرومي طيني جوهرا …. من غباري شاد كونًا آخرا. ففي بداية رحلة إيفا العلمية كان صديقها الباكستاني قد أهداها كتاب «Reconstruire la pensée religieuse de l’Islam»، وقد وجدت في الكتاب – كما تقول – جوابًا للعديد من الأسئلة التي كانت تطرحها على نفسها، ولكل ما وضعته بين قوسين على حد تعبيرها عن ديانتها، فقد كانت مسيحية الولادة والنشأة. كان هذا الكتاب يحاور بعض الفلاسفة الغربيين ويحلل تعددية التيارات الفكرية داخل الإسلام، ما بين التقليد والمعاصرة، التشدد وقوة التحمل، الأصولية والتطرف، ويدعو المسلمين في كافة البلاد إلى إعادة النظر في منظومة الإسلام دون تشكيل أية قطيعة مع الماضي.

من هنا أقبلت على مؤلفات إقبال وقدّمتها للقارئ الغربي، فحظي كتاب (تجديد التفكير الديني في الإسلام) وكتاب (رسالة الخلود) لإقبال بعنايتها وترجمتها، ولأن صلة قد انعقدت قديمًا بين إقبال والمستشرق الفرنسي ماسنيون استفادت إيفا بالرجوع إليه في بعض المسائل الخاصة بالكتاب، وقدّم هذه الترجمة وأثنى عليها، وما إن مرّ وقت قصير حتى تفاجأ القارئ الغربي بترجمتها لكتاب آخر يمثل باكورة أفكار إقبال النظرية، وهو كتاب (تطور الميتافيزيقا في فارس) وقد عُرف الكتاب في مصر وصارت نسخة إيفا بعد ذلك أصلًا للترجمة التي أعدّها الأستاذ حسين مجيب المصري للكتاب، قبل أن تظهر النسخة العربية للكتاب على يد الأستاذين محمد السعيد جمال الدين والشيخ الجليل حسن الشافعي. وكما نقلت القسط الأكبر من أفكار إقبال الفلسفية إلى الفرنسية، نقلت قسطًا وافرًا من أشعاره، فترجمت ديوان الأسرار والرموز الذي أثار جدلًا واسعًا وقت صدوره في عصر إقبال، ونقلت ديوانه الذي ساجل فيه الفكر الغربي (رسالة المشرق) أيضًا.

وجّه إقبالٌ انتباه إيفا إلى الروميّ، فبعد أن خدمت تراثه بشكل لائق اتجهت إلى درس الرّوميّ، فظهرت دراستها عن (الرومي والتصوف) عام 1977 بعد ما نالت درجة الدكتوراة في عام 1968 عن (التصوف والشعر في الإسلام)، كان من حسن حظّها أن نُشر كتابها عن الرّومي في سلسلة “أساتذة روحيّون” واستهدف جمهورًا مفكّرًا أكثر عددًا؛ وقد تُرجم إلى الإنجليزية على يد سيمون فتّال، وعن هذه النسخة نقله إلى العربية الأستاذ عيسى علي العاكوب ونشره في طهران عام 2000 وقد حظي بقبول عند القرّاء فقدّم له أكثر من شخص عرضًا مفصّلًا في سورية والمغرب، غير أنه لم يقدّم في هذه العروض أو يقدّم في الترجمة تعريفًا بجهود إيفا في الدرس المولوي.

ولا يملك متتبع أعمال إيفا ديفيتري ميروفيتش إلا أن يبدي دهشته بإخلاصها وقدرتها على نقل أعمال الرومي إلى الفرنسية، فبعد أن أصدرت هذه الدراسات ترجمت ديوان شمس تبريزي لمولانا جلال الدين الرومي بالتعاون مع محمّد مُقري، وهو عالمٌ كُرديٌّ كتب بالفرنسية عن أساطير النور والنار. ثم جعلت كتاب (فيه ما فيه) – وهو عمل نثري يعدّ نسخة مختصرة ومفتاحية لقراءة المثنوي – في متناول القارئ الفرنسي. كما قدّمت مختارات من رسائل الرومي التي توقفنا على الدور الاجتماعي والسياسي للصوفية في قونية. وترجمت بالاشتراك مع جمشيد مرتضوي (ولد نامه) وهو نصّ تأريخي كتبه الوارث الحقيقي لمولانا وهو ابنه سلطان ولد، ومن خلال هذا النصّ يستطيع المرء أن يتعرف بشكل دقيق على تاريخ الرومي والمولوية، ولم تنس إيفا أن تختم حياتها بعمل ضخم نُشر في عام1990م وهو ترجمتها الكاملة للمثنوي.

بدأت إيفا طريقها بفرنسا، مارة بإقليم البنجاب المشبع بالتصوف، وصولًا إلى تركيا وقونية خلال القرن الثالث عشر حيث عاش مولانا، فساهمت في نشر رؤية جديدة للإسلام بعد أن تشبّعت عقلًا وروحًا بمعاني الكونية والانفتاح، والأخلاقيات والتعايش، والاجتهاد والاستقلالية. وفي آخر محاضرة ألقتها بقونية في 26 من مايو 1998، صرّحت للحضور قائلة: «أودُّ أن أدفن بقونية كي أبقى تحت ظلال بركات مولانا إلى يوم الحساب» وكانت هذه آخر رحلة إلى تركيا. رحلت إيفا في 24 من يوليو عن عمر 89 ودُفنت بمقبرة Thiais بالقرب من باريس.

رغبتها في أن تكون قونية المحطة الأخيرة للروح المحبّة، حتى تنعم بالقرب من مولانا وأقربائه جعلت بعض أصدقائها الأتراك (يلدز آي والدكتور عبد الله أوزتورك)، يساهمون في نقل جثمانها إلى قونية في 17 من ديسمبر 2008 في ( احتفالية يوم العُرس) ذكرى رحيل مولانا. وهناك تمت مراسيم الدفن على الطريقة الإسلامية ودُفنت بمقبرة Uçler المتواجدة أمام ضريح مولانا. هناك التف المئات من المحبين من جنسيات مختلفة ليودعوا تلك التي استطاعت أن تبني جسرًا لا يقدر بثمن بين الشرق والغرب.

وفي الختام أجد لزامًا عليّ أن أشكر السيدة عائشة موماد التي تفضلت بتعريفنا بثمار هذه السيدة العاشقة للإسلام ومولانا الرومي ونقلها لجزء من أعمالها إلى العربية*، راجيًا أن تكمل المسيرة وتنقل لنا بقية هذه الثمار المفعمة بالإخلاص والجمال.


*نصوصٌ مترجمة لإيفا:حضور الرومي في حياتيالمذهب الشّعري في الإسلام.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.