إن قراءة سطحية لنص «حنة آرنت» «نحن اللاجئين» قد تعتبره نمطًا من النصوص السردية والأدبية حول معاناة تجربة اللجوء، خاصة في أبعادها الإنسانية. لكن قراءة متعمقة لهذا النص تقود إلى توليد إشكالات وأسئلة دقيقة ومحرجة للمفاهيم والتصورات المؤسسة للعصر الحديث، كمفهوم حقوق الإنسان ومحدداته، ومفهوم دولة الأمة وتطبيقاته.

أول ما يلفت النظر في تجربة اللاجئين هو تلك الحمولة السلبية لمفهوم اللاجئ، كوصم اجتماعي، يحيل إلى الدونية في الرتبة الإنسانية تجاه المواطن الأصلي.

استطاع «جورجيو آغامبين» في مؤلفه «حالة الاستثناء: الإنسان الحرام» – الذي ترجمته مدارات للأبحاث والنشر – أن يَسْتَنْطقَ إلى حد بعيد ظروف اللجوء – التي وصفتها حنة آرندت – لتشييد بارادايم معرفي يؤسس لوعي تاريخي جديد حول مفاهيم دولة الأمة والمواطنة والسيادة وحقوق الإنسان. وذلك من وجهة نظرنا هو البعد الإشكالي والجوهري المهم في نص «نحن اللاجئين» الذي ينبغي البناء عليه نظريًا على الأقل، لتطوير موقف جديد من أوثاننا السياسية الحديثة، ومنها وثن الدولة الأمة، ووثن المواطنة، في مسعى لأنْسَنَتها أكثر.

هاهنا تقفز إلى الذهن عدة أسئلة لعل أهمها: كيف يشكل وضع اللاجئ عنصر قلق في النظام المكون لدولة الأمة؟ وكيف يقود القلق من اللاجئين إلى إسقاط أبسط حقوق الإنسان عنهم؟ بمعنى آخر هل إن من لا وطن له – بمحددات المواطنة الحديثة – لا حقوق له؟ وهل ذلك هو مصدر إخفاق اللاجئين في الاندماج؟


اللجوء مأساة مؤبدة

إن اللاجئ حسب حنة آرنت يقع في مأزق وجودي مضاعف، فهو من ناحية فاقد لمقومات هويته الأصلية، ومن ناحية أخرى يتلقى معاملة سيئة في بلد اللجوء.

إن أول ما يلفت النظر في تجربة اللجوء واللاجئين هو تلك الحمولة السلبية لمفهوم اللاجئ، كوصم اجتماعي، يحيل إلى الدونية في الرتبة الإنسانية تجاه الآخر «المواطن الأصلي». ومع أن آرنت جعلت عنوان نصها «نحن اللاجئين» كشكل من أشكال إعادة الاعتبار لهؤلاء المنسيين المنبوذين، إلا أنها كلاجئة كانت تفضل تعبير «الوافدين الجدد» أو حتى «المهاجرين»، في استحضار لمفهوم الضيافة، الذي حاول «إيمانويل كنط» و«جاك دريدا» رد الاعتبار لأخلاقياته المفقودة، والتي على رأسها قيمة العيش المشترك وتقدير الجوار ولو كان غريبًا.

إن اللاجئ حسب حنة آرنت يقع في مأزق وجودي مضاعف، فهو من ناحية فاقد لمقومات هويته الأصلية: الوطن، اللغة، الجماعة الأهلية، ومن ناحية أخرى يتلقى معاملة سيئة في بلد اللجوء، ويفشل مرارًا وتكرارًا في الاندماج ضمن النسيج الاجتماعي للبلد المستقبِل. خاصة ذلك الصنف منهم، الذي يُعزل عن المجتمع العادي، في مخيمات وملاجئ خاصة، حيث يتم إسقاط أبسط حقوق الإنسان عنه ويجرد من حقه في العيش بكرامة كإنسان.

هذا الوضع بالذات، الذي تكون فيه كرامة الإنسان وحقوقه مستباحة، لا لشيء إلا لأنه لاجئ، هو ما سيقود إلى طرح الأسئلة المحرجة حول النظام السياسي لدولة الأمة القلقة من اللاجئين، الذين تحرمهم من حقوقهم، على الرغم من أنهم يمثلون أقرب مثال لذلك النموذج العاري من الإنسان، الذي صيغت حقوق الإنسان على أساسه ومن أجله.

إن هذا المستوى من القلق الذي تتعامل به الدول الوطنية مع اللاجئين – وينعكس على التعامل السلبي تجاههم – يعيد التفكير حول مسألتين:

المسألة الأولى: هي مسألة ربط الحقوق بالولادة والانتماء الأصلي للأرض، بدل ربطها بالإنسان المجرد، وبالتالي يكون اللاجئ غير المتمتع بمتطلبات الانتماء الأصلي لهوية الدولة الأمة – عبر ثالوث: الأرض، الدولة، الأمة – غير مشمول بتلك الحقوق.

إن الحق إذن بهذا المعنى هو مقايضة تنهي افتراض وجود الإنسان المجرد لمصلحة أن يكون مواطنًا؛ ويترتب عن ذلك أن الحقوق هي حقوق المواطن، وليست حقوق الإنسان العاري المجرد الذي لم يكن طرفًا في معادلة عقد المواطنة.

هذا النقاش يعيدنا لمربع الجدل الفلسفي، لفلسفة العقد الاجتماعي، حول مرحلة «حالة الطبيعة» والانتقال إلى مرحلة «حالة الاجتماع السياسي». بمعنى هل أن الانتماء للمجال السياسي هو ما يؤسس للحقوق؟ أم أن الالتحاق بالمجال السياسي لا يعدو كونه تنظيمًا للحقوق الأولية التي يتمتع بها جميع البشر في حالة الطبيعة كحق الحياة والملكية.. إلخ؟

فلسفيًا كلا الاحتمالين وارد، بل إن الاحتمال الثاني أكثر وجاهة، لكن الواقع الفعلي للدول الحديثة يعترف فقط وبشكل فعلي بحقوق المواطن المنتمي لدولة الأمة، بحدودها وإقليمها الخاص، بينما تظل فكرة حقوق الإنسان مثالًا صعب المنال والتحقيق.

المسألة الثانية: هي مسألة متعلقة بالدولة الأمة القلقة على حدودها، وهو قلق يعود بالأساس إلى كون اللاجئ يقوم برمي المفهوم المتخيل للسيادة، الذي يعترف للدولة الوطنية الحديثة بسلطة مطلقة على رقعة ترابية معينة هي بشكل حصري لرعايا الدولة – الذين سمتهم مواطنيها – فقط.

الدول إذن ومن خلال التنكر للاجئين ورفضهم، تُسيّج حقوقها أمام هؤلاء الوافدين الغرباء حسب تعريفها لهم. ولذلك رأت حنة آرنت أن اللاجئ يفشل دائمًا في محاولته الاندماج في النسيج الاجتماعي لوطن اللجوء، وذلك لسببين: أولهما، ذلك الرفض الذي تتم مجابهته به، وثانيهما، لأن هويته تبقى تطارده، حتى مع بذله جهودًا مضنية لكيلا يكون مختلفًا عن مجتمع اللجوء.

لقد اعتبرت حنه آرنت، في أسلوب لا يخلو من القساوة والتهكم، أن كسب شخصية جديدة تشبه في صعوبتها – وانعدام الأمل فيها – عملية خلق جديد للعالم. فالوطنية في البلدان المستقبلة للاجئين ليست قائمة على الالتزام بسلوك وممارسات تكتسب، بل هي انتماء بالولادة، ولذلك أصبحت شهادة الميلاد وجوازات السفر مادة التمييز الاجتماعي الوحيدة بين المواطن وغير المواطن.

لكن حنه آرندت بإصرارها على حتمية فشل كل تجارب اللاجئين في الاندماج، تؤسس لشكل من أشكال جوهرانية الهويات، التي هي أساس فكرة رفض الآخر بحجة الاختلاف في الهوية، وهو ما يعني أيضًا رفضًا للمبدأ الإنساني المجرد، كقاعدة للهوية الوحيدة والثابتة للإنسانية.

إن المفارقة الكبيرة في مسألة اللاجئين، تتمثل في أن ذلك اللاجئ «الهامشي» جعلنا نعيد التفكير في مبادئ التاريخ السياسي، بإعادة طرح مبادئ «دولة الأمة» للنقاش، فتزايد أعداد البشر المهاجرين والنازحين واللاجئين أبان عن عجز في نموذج الدولة الأمة، إلى الحد الذي جعله لا إنسانيًا. ومن هنا اعتبر البعض أنه لا سبيل إلى نجاة الإنسان السياسية اليوم، إلا حيث تكون أراضي الدول متداخلة ومشوهة طوبوغرافيًا، وحيث يكون المواطن قد تعلم الاعتراف باللاجئ الذي هو ذات المواطن!

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.