الكلمات المَاثِلة على الصفحة أمام القارِئ يُعدُّ كل منها مُجرد تَمثِيلٍ لأصلٍ غَائبٍ ماديًا، سواء كان فِكرة أصلية في ذِهنِ الكاتبِ أو موضوعًا أصليًا في العالم الواقعي.

الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا يفرق بين عنصرين رئيسيين في التعامل مع النصوص، وهما: المعنى الواقع في ذهن السامع أو القارئ -وذلك بما يتوافق مع نسقه المعرفي الذي يحلل المفهوم من خلاله- والواقع الذي هو الأصل الذي نشأ المفهوم داخل نسقه المعرفي، وأصبح ذا معنى واضح محدد داخله.

منذ الحملة الفرنسية على مصر ظهرت في المجتمع المسلم بعض المفاهيم والمصطلحات القادمة من النسق المعرفي الغربي وتم إلصاقها -حُمقًا وجهلًا- بالنسق المعرفي الإسلامي؛ حتى نقول للغرب إن قيمًا مثل: الديموقراطية-الحرية-الإنسانية-العدل-الوطن-القانون موجودة عندنا نحن المسلمين؛ فأصبح المسلمون يساوون بين الفقه والقانون، وبين الشورى والحرية، وبين الأمة الإسلامية وبين الدولة القومية.

ولكنهم في ظل هذا الخضوع للغرب، لم يفكروا ولو للحظةً واحدة، أن كل مفهوم قادم من الخارج قد تربى ونشأ وأخذ دلالة معجمية وفقهية وشرعية تختلف اختلافًا جذريًا عما كانت ستصبح عليه لو ظهر من داخل عالم أفكار المسلمين.

ونتيجةً لهذا التشوه المعرفي؛ أصبح هناك مفاهيم شتى يتم استخدامها من قِبل المسلمين على أنها ذات دلالة واضحة داخل العقل المسلم، ولكنها للأسف لا تؤدي إلا إلى فساد في عالم أفكار المسلمين؛ وذلك لاختلاف دلالة هذا المفهوم في نسقه الذي ظهر منه عن النسق الذي يريد المسلم أنه يُدخله إليه.

عملية حصر هذه المفاهيم عملية مرهقة، لذلك آثرت أن أقوم بدراسة مفهوم واحد مهم له دلالات مختلفة في النسقين المعرفيين الغربي والإسلامي؛ ألا وهو التعليم.


إشكالية تعريف المفهوم

لطالما طرقت آذاننا كلمة التعليم، فكان وقعها ذا خط ناظم ثابت لا يكاد يتغير من فرد إلى آخر، حيث يمكن الاستدلال على حصول العملية التعليمية من خلال عدة مؤشرات هي مفاهيم أخرى في ذاتها، ولكن تفاعلها فيما بينها قد يؤدي في النهاية إلى إطلاقنا على هذه العملية التعليم.

فما سأقوم بطرحه هو عملية تفكيكية لمفهوم التعليم، وذلك من خلال مناقشة بعض من المؤشرات التي تؤدي إلى صياغة العملية التعليمية، وذلك بالاعتماد على مراجعة كُلٍ من هذه المؤشرات داخل النسق الإسلامي وداخل النسق العلماني، وذلك من خلال الرجوع إلى المفهوم الدلالي لكل مؤشر في المعجم العربي وما تقابله ترجماتها الحرفية في المعجم الإنجليزي، كل على حِدة ومنفصل عن الآخر وعن مفهوم التعليم.

كنت قد اخترت خمسة مؤشرات لأطبق عليها هذه الأطروحة، ألا وهي:

-المُعلِّم.

-الطالب.

-المنهج.

-مكان الدراسة (المدرسة).

-الهدف.

التعليم في المعجم:

تعليم [مفرد]: ج تعاليم (لغير المصدر) وتعليمات (لغير المصدر):

1- مصدر علَّمَ/ علَّمَ على.

2- فرع من التَّربية يتعلّق بطرق تدريس الطلاب أنواع المعارف والعلوم والفنون.

Education:

The ACT OR PROCESS OF EDUCATING.

A DEGREE, LEVEL, OR KIND OF SCHOOLING: A COLLEGE EDUCATION.

Education THE SCIENCE OR ART OF TEACHING; TEACHING METHODS AND THEORY.

المُعلِّم في المعجم:

معنى معلم في معجم اللغة العربية المعاصرة: 1 – اسم فاعل من علم / علم على . 2 – من مهنته التعليم دون المرحلة الجامعية

Teacher:

A PERSON WHO TEACHES OR INSTRUCTS, ESP. As A PROFESSION;

INSTRUCTOR.

الطالب في المعجم:

معنى طالب في معجم اللغة العربية المعاصرة:

طالبَ يُطالِب، مطالبةً وطِلابًا، فهو مُطالِب، والمفعول مُطالَب، وطالبه بالشّيء: سأل بإلحاح ما يعتبره حقًّا له «طالبه بحصّته/ بوفاء دينه/ بإرثه/ بحقِّه».

Student:

One WHO IS FORMALLY ENGAGED IN STUDYING, LEARNING, OR TRAINING AT A SCHOOL.

One WHO STUDIES OR EXAMINES AN ART, SCIENCE, ETC.

المنهج في المعجم:

معنى منهج في معجم اللغة العربية المعاصرة منهج / منهج [ مفرد ] : ج مناهج ومناهيج :

1 – منهاج، طريق واضح منهج الإسلام – يتبع في حياته منهجا قويما .

2 – منهاج، وسيلة محددة توصل إلى غاية معينة مناهج البحث العلمي – منهج الدراسة – لكل علم منهجه، المنهج العلمي: خطة منظمة لعدة عمليات ذهنية أو حسية بغية الوصول إلى كشف حقيقة أو البرهنة عليها – مناهج.

Curriculum:

All THE COURSES OF STUDY GIVEN IN A SCHOOL, ETC.

The COLLEGE OFFERS A WIDE CURRICULUM IN MANY DISCIPLINES.

The REGULAR COURSE OF STUDY IN A SCHOOL, ETC.

The SOCIAL STUDIES CURRICULUM.

مكان الدراسة في المعجم:

المدرسة: مكان الدَّرس والتعليم. وجماعة من الفلاسفة أو المفكرين أو الباحثين، تَعْتنق مذهباً معيناً، أو تقول برأيٍ مشترك. ويقال: هو من مدرسة فلانٍ: على رأيه ومَذْهَبهِ. ( ج ) مَدَارِس.

School:

place for teaching people under college age

an academic department for instruction in a particular field

A group of pupils having a certain master, system, etc.

الهدف:

معنى هدف في مختار الصحاح: الهَدَفُ كل شيء مرتفع من بناء أو كثيب رمل أو جبل، ومنه سُمِي الغرض هدفا.

Goal:

The result or achievement toward which effort is directed;

aim; end.

An area or point toward or into which players of various games attempt to propel a ball or puck to score points.


ما هو التعليم في النسق العلماني؟

من خلال إدخال التعريف المعجمي للمؤشرات السباق ذكرها في كل من المعجم العربي والمعجم الإنجليزي؛ يمكننا أن نحصل على ما يمكن تعريفه على أنه عملية التعليم داخل النسق العلماني.

تقوم عملية التعليم في النسق العلماني على مدرسٍ يملك كمًا كبيرًا من المعلومات، والتي أنتجت داخل عقله نظامًا معرفيًا قد تَكَوَّنَ عبر سنوات عِدة، ولكن أهم ما يميز هذا الفرد؛ أنه يملك مهارة توصيل المعلومات إلى الطلاب، ولكن هذه المهارة لم يكتسبها من تلقاء نفسه، ولكنه خضع لعدة سنوات لنظام تعليمي آخر، جعلته في النهاية قادرًا على أن يقف أمام الطلاب ليصب في صفحات عقولهم ما هو مُقرر عليه وعليهم أن يسمعوه، وقد تم تعيينه من قبل إحدى الآلات التي تخدم الدولة القومية الحديثة.

أما الطلاب فهم مجموعة ممن ولدوا في الامتداد الجغرافي الذي تحتله الدولة، وقد اكتسبوا صفة المواطنة من خلال تسجيلهم لحظة ولادتهم في صورة أرقام في ذاكرة النظام المعلوماتي للدولة، فإذا ما وصلوا سِنًا محددًا –قد حُدد من قبل الدولة- أصبح لِزامًا عليهم أن يلتحقوا بالآلة التعليمية للدولة، فيتم ضخ معلومات كثيرة –منها الصالح والطالح- لتُكَوِّنَ هذه المعلومات في سياق ما نظامًا معرفيًا لا يختلف عن النظام المعرفي الذي وُضِعَ داخل عقل أُستاذهم.

يعرض الأستاذ مجموعة من المعلومات التي تمت صياغتها من قبل متخصصين في التربية، في ترتيب منهجي لتُكَوِن في عقول الطلاب هيكلًا معرفيًا يتناسب مع الأخلاق والسلوكيات والأفكار والتصورات التي فُرِضَ عليهم تلقيها من قبل الجهاز البيروقراطي للدولة، ليصبحوا بعد عدة سنوات من التربية العقلية واكتساب المعلومات البسيطة مواطنين صالحين جاهزين ليتم تسكينهم داخل النظام الذي أنتجهم ويصيروا جزءًا منه.

عملية انتقال المعلومات وصبغ العقول بما تريده الدولة كانت تتم داخل إطار خاص صنعته الدولة لهذه الوظيفة؛ ألا وهو المدرسة.

يبدأ الطلاب يومهم الدراسي بطابور الصباح، الذي يتم فيه زرع قيم محددة من خلال وسائل شتى، أهمها النشيد الوطني، ثم يدلف الطلاب إلى فصولهم الدراسية، وهي حجرات بها لوح خاص بالأستاذ ليشرح عليه المنهج، وأمامه مقاعد مرتبة في صفوف أفقية ورأسية ليجلس عليها الطلاب، في نظام لا يختلف عن النظام الكنسي.

وعليه؛ فإن الهدف الرئيسي لهذه العملية: هو إخراج مواطنين لا يعلمون إلا ما يتلقونه داخل الأبنية الكنسية، ولا يخطر على بالهم أن هناك أفكارا أخرى غير التي عُرضت عليهم، وبالتالي يتم تشكيل عالم أفكارهم بما لا يخرج عن هذا النسق الموضوع من قِبَل آلة الدولة، وذلك باستخدام التكنوقراطيين المتخصصين في تهيئة العقول لهذه المهمة وهذا الهدف.

ولكن للوصول لهذا الهدف بهذه الصورة سوف يجعل الطلاب والمدرسين وكل الأفراد المشاركين في هذه العملية يفقدون العامل المُحفز للاستمرارهم في هذا العمل، إذ إن هذا النظام يفتقد القيمة الأخلاقية غير المقدرة ماديًا والتي تساعد على إتمام العمل، فجاء رد وسائل المتعة –من وسائل إعلام وسينما ومسرح وتليفزيون- سريعًا، فظهرت قيم أخرى تكون في ظاهرها أخلاقيًا، ولكن هي قيم مادية بالأساس، فكانت المكانة المجتمعية قيمة في ذاتها، وكان الحصول على وظيفة قيمة في ذاته، وكانت السيارة الفارهة قيمة في ذاتها، وكان كل من المنزل المزخرف والزوجة الجميلة والحساب البنكي قيمة في ذواته، فلم يأخذ الأمر من الدولة جهدًا كبيرًا حتى تَبُث تلك القيم داخل المجتمع المسلم.


ما هو التعليم في النسق الإسلامي؟

من خلال تتبع السياق المعجمي في المعجم العربي يمكننا أن نصل إلى ما يتم وصفه بأنه التعليم الإسلامي.

قال الله عز وجل في سورة فاطر: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)؛ فكان هذا هو الدافع والمُحرِك والأساس الذي قام عليه نظام التعليم الإسلامي، ألا وهو زيادة الخشية من الله ربهم وخالقهم ورازقهم ومُدبر أمرهم، فطبع ذلك على النظام التعليمي.

عندما بدأ رسول الله بالدعوة سرًا في مكة أخذ يلتقي المسلمين في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وقسم المسلمين إلى مجموعات، كل مجموعة تجلس في حلقة حول الرسول يتعلمون منه الدين وتعاليمه، وانتشر النظام الحلقي هذا في مسجد المدينة المنورة وفي المساجد التي أصبحت بعد ذلك مراكز انتشار الإسلام كالجامع الأزهر.

يتحلق الطلاب حول شيخ أسند رأسه إلى أحد أعمدة المسجد ثم يبدأ في إعطاء الدرس. الشيخ هو رجل قد حفظ القرآن والسنة، وقضى ردحًا من الزمن يدرس علوم المقاصد، وينهل من علوم المصادر، ويُعمل عقله في النصوص الشرعية باستخدام علوم الآلة، حتى كَوَّن ذلك التحصيل في عقله هيكلًا معرفيًا يرتكز على ركيزتين أساسيتين:علوم الوحي وعلوم الآلة. ثم تدرج في العلم والمعرفة حتى زكاه شيوخه ووصل إلى درجة العالِمية.

كان منهاج التعليم علومًا طبيعية مادية أو علومًا شرعية، وهذا على عكس ما كان ينتشر أن التعليم كان شرعيًا فقط، بل ذكر عبد الرحمن الجبرتي أن والده الجبرتي الكبير كان يأتي إليه الطلبة ليتعلموا علوم النجارة والبناء.

أما العلوم الشرعية فقد كان الأزهر أوضح الأمثلة التي تُظهر كيف أن النسق المعرفي المنطلق من القرآن والسنة قد أنتج إلى الواقع نظامًا ماديًا غير مخالف لمنطلقاته، فترتيب الدروس في الأزهر من بعد الفجر هي كالتالي: القرآن، ثم الحديث، ثم شروح القرآن والحديث، ثم أصول الدين، ثم أصول الفقه، ثم الفقه، في تتابع منهجي يأخذ الوحي مركزا ينتقل منه إلى باقي الفروع.


متى كان التحول؟

لا يُمكن أن نُجزم أن التحول من الشكل الإسلامي إلى الشكل العلماني أتى على حين غفلة من المسلمين، ولكنه أخذ خطوات متأنية لينشر سُمه داخل هذا المجتمع المسلم ويزيح التعليم الأزهري ويصير هو التعليم الأساسي في بلاد المسلمين.

أزعم أن هذا التحول بدأ على يد عبد الرحمن رشدي، الذي كان قد تخرج في مدرسة لانكستر الإنجليزية، وجاء إلى مصر ليطبق نظامها التعليمي، حيث صدر أمر بإنشاء مدرسة على غرار مدرسة لانكستر عام 1847.

كانت مدرسة لانكستر هي مثال يُحتذى به في الانضباط والالتزام؛ فقاعة الدراسة عبارة عن قاعة كبيرة تتكون من صفوف، كل صف به عدد من المناضد، كل منضدة عليها 8-10 طلاب، وهناك عريف يعطيهم الدرس، وآخر يتابع نظافة ألواحهم، وآخر يتابع نظافة الأيدي، وآخر يتابع انتقالهم من المنضدة إلى مكان شرح الدرس، وكان يُطلب منهم حساب خطواتهم صامتين لضمان الالتزام بالنظام وضمان عدم حدوث شغب.(1)

كان خريجو النظام التعليمي الجديد يحظون بمكانة اجتماعية مرموقة، وذلك لمحاولتهم التشبه بالغرب، وذلك تماشيًا مع التوجه العام الذي كان سائدًا تلك الأيام، كما أن هذا الخريج كان يحصل بعد تخرجه والتحاقه بوظيفته على مرتبات تضمن له رغد العيش ورفاهيته.

على عكس خريج الأزهر الذي كان أقصى ما يمكن أن يصير إليه هو إمام مسجد وخطيبه، ولا يحصل إلا على مبلغ زهيد من المال لا يستطيع دفع ثمن طعامه وشرابه منه.

فأصبح الناس ينفرون شيئًا فشيئًا من التعليم الأزهري، ويتجهون بسرعة كبيرة نحو المال والمكانة الاجتماعية ورغد العيش، فقل دور الأزهر كفاعل حقيقي في المجتمع، وأصبح معظم الأهالي يرسلون أولادهم إلى المدارس الجديدة، وحدث التحول داخل المجتمع المسلم، فبعد أن كان نظامه التعليمي موافقًا وناتجًا من نسقه المعرفي النابع من مركزية الوحي، أصبح النظام الجديد النابع من نسق مادي علماني هو المسيطر على ساحة المجتمع وعلى عالم أفكارهم دون أن يعي الناس -أو حتى مثقفي هذه الفترة الزمنية- أنه لا يمكن أن يقبل المجتمع هذا النظام الجديد إلا بعد أن يتخلى عن ثوابته ويتحرر من قيوده التي تمنعه الولوج في هذه المساحة التي لا تتماشى مع أفكاره ومعتقداته.


خاتمة

كنت قد بحثت في معجم لسان العرب عن كلمة التعليم، ولكنِّي صُدمت عندما لم أجد لهذه الكلمة بهذا التكوين اللغوي الماثل في أذهاننا أصلا في معجم أصيل كلسان العرب، فرحت أبحث عنها في المعاجم الجديدة، فوجدتها ذُكرت في معجم اللغة العربية المعاصرة.

يبدو أن التغيير الذي حدث في المجتمع لم يُصِب نظامنا التعليمي بل أصاب لغتنا العربية، فأوجدنا لهذا الشكل الجديد تركيبًا لغويًا جديدًا داخل المعجم العربي، وهذا التغيير لم يحدث فقط في مفهوم التعليم، ولكن هناك العديد والعديد من الدواخل التي غيرت في عالم أفكارنا التي لابد من تقصي حقيقتها ومنشئها في النسق العلماني، ومعرفة كيف دخلت إلى مجتمعنا الذي كان إسلاميًا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.