إذا قررت أن تلملم حقائبك مرتحلًا إلى شمال الضفة حيث العاصمة الأثرية والتباين الجغرافي من ارتفاع الجبال وعمق السهول، ستجد لافتة على الطريق الجبلي باسم «شخيم»، لا تقلق فاتجاهك صحيح، أنت في «نابلس» سابقًا. وإذا أردت استكمال الرحلة فجهز نفسك على مصادفة أكثر من ألفي بلدة ومدينة بلافتات جديدة وأسماء مغايرة، فوجه فلسطين التي نعرفها لم يعد كما كان.

لا عجب ففي مايو/أيار الماضي، أقرّت الهيئة التشريعية الإسرائيلية للكنيست، مشروع قانون أُطلِق عليه «قانون القومية للشعب اليهودي» في قراءته التمهيدية، الذي يصف إسرائيل بأنها «الوطن القومي للشعب اليهودي»، جاعلًا من مواطني فلسطين 1948، رعايا في أوطانهم.

وإذا عدنا للوراء لأكثر من خمسمائة عام خلت، وتحديدًا سنة 1492، حينما سقطت غرناطة، لتطوي بسقوطها آخر صفحة من تاريخ الحكم الإسلامي في الأندلس، وأصدر حينها فيليب الثاني ملك إسبانيا أمرًا ملكيًا، يُجبر «الموريسكو» (المسلمون الذين بقوا في إسبانيا) على ترك استخدام العربية في جميع المناسبات حديثاً وكتابةً، حيث اعتبر استخدامها جريمة، بعدها تم التخلص من كل المواد المكتوبة باللغة العربية.

وعلى خطى الأندلس، يجري وأد لغة الضاد، عبر تهويد المشهد اللغوي بوساطة هيمنة اللغة العبرية وحضورها في الحيز الزماني والمكاني دون منازع، وبالمقابل تُهمّش اللغة العربية وتُطمس معالمها في البلاد عامة.


1948: فاتحة رحلة الضاد للاندثار

توالي العصور الغابرة نفح آثار مستْ اللغة المتداولة على ألسنة المواطنين الفلسطينيين هذه الأيام، وتحظى العربية في إسرائيل باعتراف كلغة رسمية بموجب «مرسوم ملكي»، ويسري القانون حتى يومنا هذا في إسرائيل، وإن كان احترام هذه التعليمات محدودًا للغاية.

بدأت أولى محاولات طمس اللغة العربية، عبر تغيير المعالم إلى أسماء تلمودية، وتسميات تعود إلى حاخامات ورموز يهودية، منها تغيير أسماء بوابات القدس التاريخية إلى أسماء عبرية، مثل: «باب الخليل» إلى «شاعر يافو»، و«باب الجديد» إلى «شاعر هحداش»، و«باب العمود» إلى «شاعر شكيم»، بالإضافة لتغير أسماء الأحياء العربية: «حي الشيخ جرّاح شمال غرب القدس» إلى «رمات إشكول»، و«الشيخ جراح تل الذخيرة» إلى «جفعات همفتار»، و«جبل الزيتون» إلى «هار هزيتم»، ومن جملة التهويد التي طالت معالم بارزة فتحول «جبل الرادار» إلى «هار دار».

وتصاعدت وتيرة العدائية لمحو لغة الضاد بعد نكسة 1967 فتم إلغاء المناهج التدريسية الفلسطينية والاستيلاء على المتاحف سعيًا لتهويد القدس لغويًا. إضافة إلى ذلك، أقامت الحكومة الإسرائيلية مركز الخرائط الإسرائيلي والذي انبرى إلى «عبرنة» الخرائط والاستيلاء على الحيز الجغرافي، وبالرغم من تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان، إلا أن 20% من المواطنين الإسرائيليين هم عرب فلسطينيون بقوا في المناطق الفلسطينية المحتلة، وشكلت ولا زالت مشكلة سياسية وديموغرافية أعاقت تنفيذ مخططها في توطيد مشروعها الاستيطاني على كامل فلسطين التاريخية.

وبعد مرور نصف قرن على احتلال 1967، نشأت في الضفة الغربية أقلية استيطانية، تسعى إلى الهيمنة على أغلبية سكانية بقوة الاحتلال وعبر آليات وتشريعات تفضيلية، صُممت لتشكل بنية تحتية لنظام أبرتهايد، يحوي مدنًا فلسطينية منعزلة تتمتع بحكم ذاتي يفصلها مساحات جغرافية شاسعة، فتسيطر تلك الأقلية على غالبية مساحات الأرض، أكثر من 60% التي تعرف بالمنطقة «ج»، وتستولي بقوة الجيش على جميع الموارد والممرات الحيوية وتتحكم بتفاصيل حياة الفلسطينيين في هذه المعازل.


طمس اللغة العربية: حجر أساس الأبرتهايد

مشروع «قانون القومية» يعد من أخطر القوانين التي جرى طرحها في العقود الأخيرة، وهو بمثابة إعلان حرب على المواطنين العرب في إسرائيل.

هكذا وصف النواب العرب في الكنيست الإسرائيلي، مشروع القانون الذي تقدم به عضو اللجنة التشريعية من حزب «الليكود» اليميني الحاكم، أفي ديختر، رئيس جهاز الأمن العام الإسرائيلي الأسبق، المعروف بـ «يهودية الدولة»، صوّت إلى جانبه (48) نائبًا من أصل (120) عدد نواب الكنيست، وعارضه (41) نائبًا.

ويعتبر القانون أن «دولة إسرائيل» هي الوطن القومي للشعب اليهودي، لغتها الرسمية العبرية وعاصمتها القدس، وينص على أن حق تقرير المصير يقتصر على الشعب اليهودي، وسيكون القضاء العبري مصدر الأحكام في المحاكم الإسرائيلية، كما أن النشيد الوطني للدولة هو «هتيكفا».

وحسب نص صيغة هذا القانون العنصري، فإن علم الدولة أبيض مع خطين سماويين في جانبيه، تتوسطهما شارة نجمة داوود باللون السماوي، وأن رمز الدولة هو الشمعدان السباعي وعلى جانبيه غصنان للزيتون وأسفله كلمة إسرائيل، ويؤكد القانون على مبدأ حق العودة، لأي يهودي في العالم والحصول على الجنسية الإسرائيلية بمقتضى القانون، ضمن مبدأ جمع الشتات اليهودي، وأن التقويم العبري يعتبر التقويم الرسمي للبلاد.

ولم يكن هذا القانون هو الأول من نوعه، فقد شهدت الساحة الفلسطينية مجموعة كبيرة من القوانين والمشاريع العنصرية في السنوات الأخيرة التي تود طمس حقوق الفلسطينيين مثل مشروع «كيمنتس»؛ الذي يسرّع من عملية تفريغ الحضور الفلسطيني وتقييد العرب وشرعنة هدم مساكنهم ومصادرة أراضيهم، كما اقترحت وزيرة الثقافة مؤخرًا عدم الاعتراف بالجمعيات الأهلية في حال عدم الولاء ليهودية الدولة، إضافةً إلى اقتراح قانون منع الآذان العام الحالي.


لماذا الآن؟

عند استرجاع فصول مأساة الأندلس، تتكرر مشاهدها في الجانب الآخر من المتوسط، ويُعزى التطهير العرقي الذي مورس على الفلسطينيين، إلى هدف انطوى عليه خلق إسرائيل عام 1948، وهو تشتيت الفلسطينيين في دول عدة، لكن هذا التطهير لا يزال مستمرًا، وإزالة العربية كلغة رسمية مجرد خطوة أخرى في هذه الرحلة الطويلة، بحسب ما رأى المؤرخ إيلان بابيه.

تعتقد الحكومة الإسرائيلية أنها حلّت بهذه الطريقة إشكالية الأغلبية والأقلية، وصار بإمكانها تأسيس نظام حكم، وفق ما نص عليه قرار الأمم المتحدة 181 المعروف بقرار التقسيم، والذي طالب بأن تلتزم الدولة بمنح حقوق إنسان لكل مواطن، دون تمييز في الدين والعرق والجنس.

ومنذ أكثر من عقد، تحاول الأحزاب اليمينية تمرير تشريع يلغي الهوية العربية، فالحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتانياهو اشترطت اعتراف الفلسطينيين بيهودية الدولة كشرط لأية تسوية، لكن اللافت للنظر أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لم تضع مثل هذا الاشتراط لدى مفاوضاتها مع بعض الدول العربية الأخرى.

إلا أن تحرك مجلس الوزراء عبر موافقة اللجنة التشريعية بالمجلس على القانون وإحالته للكنيست يمكن أن يساعد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على تعزيز العلاقات مع يمينه المتطرف أعضاء حزب «الليكود»، وإذا أصبح مشروع «قانون القومية» قانونًا ساريًا، سيُرسّخ اللغة العبرية باعتبارها اللغة القومية لإسرائيل، وسوف يتخلص في الواقع من اللغة العربية، مما ينذر بانتهاكات للحقوق اللغوية، مشكلاً تهديدًا يتخطى اللغة وصولاً لإنكار تاريخ العرب في دولة فلسطين التاريخية.

وعلى الصعيد الإسرائيلي، تجدر الإشارة، إلى أن القانون حمل في طياته موضع خلاف عقائدي بين التيارات الدينية، ويثير خلافات يهودية-يهودية وتحفظات كثيرة لدى أوساط تلك الديانة في العالم، بما يشمل منظمات وجمعيات ناشطة في اللوبي اليهودي الأمريكي، وأن هذه الخلافات ظهرت لدى التيار الديني المتزمت «الحريديم» المناهضين للصهيونية، مع أن قسمهم الأكبر يعترف بإسرائيل ككيان فقط ويشارك في الحكم، وانتقادهم للقانون كونه لا يمنح مكانة كاملة وحاسمة للشريعة اليهودية، كمرجعية أولى للتشريعات، أما العلمانيون فهم يتخوفون من هيمنة الشريعة اليهودية على الحياة المدنية العامة في إسرائيل.

وقد وصف النائب يائير لبيد، رئيس حزب «يوجد مستقبل»، بأن قانون القومية هو «قانون كراهية، وتحريض فئات المجتمع ضد بعضها البعض»، ومن أبرز الانتقادات ما جاء في افتتاحية صحيفة هآرتس الإسرائيلية، حينما قالت:

هذا القانون سيئ، ويتناقض مع الديمقراطية؛ لأنه يسعى لترسيخ سيطرة أقلية يهودية على أكثرية عربية، وهو حجر الأساس القانوني في نظام الأبرتهايد لإسرائيل الكبرى.