على مدار العشر سنوات الأخيرة شكّلت كوريا الشمالية وحشًْا مُخيفًا للولايات المتحدة الأمريكية وأغلب دول العالم، فلا يخفَى على أي مُطّلع مدى غرابة قوانينهم وقائدهم، وبالتأكيد لا يخفى مدى الحِرمان الذي يعيشُه الشَعب حيث لا يوجد كهرباء أو إنترنت أو قنوات فضائية، حتى خياراتهم الغذائية محدودة فالدجاج واللحم والبيتزا والنبيذ والبيبسي والكولا غير متوفرين إلا في نطاق يكاد أن يكون معدومًا، حتى أنك لن تجد ماكدونالدز أو كنتاكي أو ستاربكس… إلخ. حتى السفر الداخلي لسكانها يستلزم موافقة من الدولة والسفر إلى الخارج غير مُتاح إلا نادرًا، وكذلك فإن حياتك العملية لن تمارسها إلا بعد أن تقضي 10 سنوات في الخدمة العسكرية بمُجرَد إنهائك للمرحلة الثانوية.

 ولكن لماذا تُمارس كوريا الشمالية كل هذا القمْع؟ وهل هو قمْع حقًا أم محاولة لبنَاء مدينة فاضِلة؟

مَملكة الراهب

حتى يمكننا بكل أمانة الحُكم على ما يحدُث في كوريا الشمالية، علينا أن نتقصَّى تاريخها، لنعرِف متى بدأ كل هذا؛ يحفل تاريخها القديم بالانقسامات والتقلُبات السياسية فقد كانت 3 ممالك مُنفصِلة ومن ثَمَ أصبحت مملكتين (شمال وجنوب)، وفي تلك الفترة زارها العرَب للتجارة وكتب عنها الرحَّالة العباسي «ابن حرداذبة» قائلاً:

تقع أقصى نهاية الصين فهي بلد غني بـِ الذهب، والمسلمون الذين زاروها مفتونون بها ويميلون إلى الاستقرار فيها للأبد، ولا يُعلم مَا وراءها من البلاد. [1]

ثُم بعد ذلك بفترة قصيرة استطاعت المملكتان أخيرًا لملَمة شتات أنفسهم وصَارتا مَملكة واحِدة تم تسميتها (غوريو)، وفي تلك الفترة ازدهرت التجارة الخارجية والتي لم تكن إلا مع اليابان والصين والعرَب الذين بدأوا بالتوافد والاندماج مع المجتمع الكوري. ويُروى أن هناك رجلاً عربيًا مُسلمًا تزوَّج من امرأة كورية ومُعتَرف به الآن على أنه الجد المؤسِس لعشيرة جانغ والموجودة حاليًا في كوريا الشمالية.

وبعد فترة قليلة تحولت مملكة (غوريو) إلى اسم جديد وهو (جوسون) وكان ذلك عام 1392، ومنذ ذلك الحين وحتى عام 1589 (أي لمُدة 200 عام) لم ترِ المَملكة إلا تقلبات ونزاعات، حيث وقعت 4 مذابح تطهير، تمّ القضاء فيها على العلماء والسياسيين والمؤرخين ورجال الدين والمُعارضين، وعاشت المملكة أيضًا تمردين للأمُراء على الحُكم.

وكان نتيجة تلك الأحداث هو انشغال تام من المملكة بشئونها الداخلية لحل النزاعات والتقلُبات السياسية والدينية. في تلك المرحلة بدأت المملكة تعتمد على التعاليم الكونفشيوسْية مما جعلهم يقطعون العلاقات التجارية العالمية مع العرَب واكتفوا بالتجارة مع اليابان والصين، وبدأوا حالة من الانعزال والاكتفاء الذاتي في محاولات للوصول للاستقرار، ولكن لم يُتحْ لهم الوقت لتحقيق ذلك، حيث أنه مُنذ عام 1592 وحتى عام 1636 تعرضت المملكة لـ 3 غزوات حربية مِن اليابان ثُم غزوتين من شعب المانشو الصيني، ولكن المملكة صمدت وعقدت معاهدة سلام لتنعم بالسلام الخارجي، وتتفرغ مرة أخرى للقضاء على صراعاتها الداخلية في محاولة جديدة للاستقرار.

خلال الفترات السابقة، كانت كوريا تترنح باحثة عن الاستقرار وإنشاء دولة قوية، واستمرت في تلك المحاولات -التي كانت تبوء بالفشل بسبب النزاعات والمؤامرات الداخلية- حتى جاء العام 1853 وقررت الولايات المتحدة الأمريكية التوسع التُجاري في أسيا، فأجبرت اليابان ثم جاء دور كوريا الموحَدة تحت اسم (جوسون)، ووصلوا إلى حدودها عام 1866، فرفضت كوريا بشِدة تلك البعثة التي قادها الجنرال شيرمان، وأعطوهم الهدايا مُقابل الرحيل دون صراعات، ولكن ما حدث هو أن البعثة قتلت مجموعة من الكوريين، فكان الرد هو إغراق السفينة الأمريكية.

ثم بعد ذلك بعامين –أي في عام 1868- جاء إلى كوريا تاجر ألماني يُدعَى «أرنست أوبيرت» وحاول سَرقة قبْر مَلكي في حادثة عُرفت باسم سرقة رفات الأمير ناميون، وذلك كان لإجبار كوريا على توقيع المعاهدات والدخول في التجارة العالمية، ولكن تم اكتشاف أمرُه فأصرّت كوريا أكثر على الانعزال عن العالم، مما جعل الكثيرين في العالم الغربي يُطلق عليها «مملكة الراهب»، ولم تنتهِ الأمور عند ذلك، ففي الفترة ما بين عام 1871 إلى عام 1882 استطاعت اليابان والولايات المتحدة الأمريكية إجبارها بأن تعقد معاهدة مع كل منهما وتوافق على التبادل التجاري تحت تهديد السِلاح.

هل انتهت الأمور عند ذلك؟

لا… ففي عام 1905 اعتبرت اليابان أن كوريا محمية خاصة بها، وبدأت في حكمها بشكل غير مُباشر، ولكنها لم تكتفِ بذلك، وفي عام 1910 ضمّتها رسميًا واحتلتها، وبقي الوضع كما هو حتى جاء عام 1945، وألقت أمريكا القنابل النووية على اليابان وفي نفس الوقت هاجمت روسيا القوات اليابانية الموجودة في كوريا فاستسلمت اليابان في الحرب لتُصبِح كوريا وليمة سياسية تم تقسيمها بين أمريكا -التي أخذت الجزء الجنوبي- وروسيا -التي أخذت الجزء الشمالي- ومن هنا ظهرت كوريا الشمالية.

حاولت كوريا الشمالية بعد فترة قليلة ضم كوريا الجنوبية ليعودا دولة واحدة، فردّت الولايات المتحدة بقصف كوريا الشمالية عام 1950، وهو القصف الذي وصفة قائد سلاح الجو الأمريكي «كورتيس ليماي» بأنه حرفيًا أدى إلى قتل 20% من الشعب الكوري الشمالي وتفجير كل محطات الطاقة وكل المباني الظاهرة وإغراق الأراضي الزراعية والمحاصيل.

نقطة تحول

بعد هذا التاريخ الطويل من التمرد والصراعات الداخلية والهجمات الخارجية، تعزّزت النزعة الانعزالية في العقل الكوري، بالإضافة إلى الكُره الشديد للحركَات الإمبريالية اليابانية والأمريكية، سواء من خلال التوسع العسكري أو الثقافي، وكأنهم شعروا بأن العالم يريد طمس هويتهم، لذلك بدءًا مِن الخمسينيات وحتى أواخر السبعينيات جاهدت كوريا الشمالية إلى أن استطاعت أن تصبح ثاني أقوى دولة صناعية في أسيا.

ففي تلك الفترة كانت الصين وروسيا تغدقان عليها المساعدات المادية والعسكرية لأسباب سياسية، وقد أحسنت كوريا استخدام تلك المُساعدات، فتطورت بشكل مُتسَارع، حتى أن رئيس أركان حرب الجيش المصري «سعد الدين الشاذلي» استعان بالطيارين الكوريين في حرب أكتوبر لمهاراتهم، وقد تحدث عن زيارته لكوريا الشمالية قائلاً:

مؤسساتهم العسكرية والمصانع والمطارات تُبنى في مغارات داخل الجبال؛ وتم تنظيم الشعب الكوري وكأنه في ثكنة عسكرية، فكل فرد يتحتم عليه أن يؤدي ساعات عمل محددة لمصلحة الدولة دون أجر، وكانت النتيجة أنهم لم يعيدوا بناء بلادهم فقط بعد أن هدمتها الحروب، بل أصبحوا قادرين على إنتاج ما يحتاجون إليه عسكريًا ومدنيًا، حتى أنني حين قابلت الرئيس الكوري قلت له «إذا قامت حرب نووية… أظن أنها سُتدمَر العالم إلا أنتُم»، فضحك قائلاً «أعرف تمامًا أنني لا أستطيع تحدي الأمريكان في الجو، لذلك قُمنا ببناء الأنفاق لنتلقى ضرباتهم دون خسائر». [2]

حتى أن الصحفي الأمريكي الشهير «هاريسون سالزبوري» بعد زيارته لكوريا الشمالية عبّر عن إعجابه بها قائلِاً:

أنا لم أرَ أبدًا شيئًا مثل كوريا الشمالية؛ حتى أن «كيم» بدا رجل مُنفتحًا، بل أنه يتمتع بشخصية كاريزمية فيتمتع بسُلطة مُطلقة، ورغم ذلك يبدو عليه الرِفق. إنه شخص استثنائي حَقًا.

ولكن مع بداية الثمانينيات تغيرت الظروف وتوقفت روسيا والصين عن دعْم ومساعدة كوريا الشمالية، بسبب انشغالهم بأزماتهم الداخلية، مما جعلها دولة وحيدَة عليها الاعتماد على نفسها.

الطريق إلى المدينة الفاضلة

في الحقيقة إذا كنت فيلسْوفًا كـ أفلاطون وتوماس مور فرُبمَا تجد الفرصة لبناء «المدينة الفاضلة» أصبحت سانحة، وربما هذا ما حاول «كيم إيل سونج» أول رئيس لكوريا الشمالية القيام به، بقصد أو دون قصد، فقد أصدر في تلك الفترة وتحديدًا عام 1982 بيان مُفصَل عن عقيدة «زوتشي» التي كان قد أشار لها قبل ذلك في أكثر من خطاب، وهي الفلسفة التي سيتبعها ومعه الشعب وتتكون من 3 مبادئ رئيسية:

  • استقلال في السياسة (شاجو).
  • اكتفاء ذاتي في الاقتصاد (شارب).
  • دفاع وطني ذاتي (شاوي).

ولم يكتفِ «كيم» بهذا، بل أنه أخبر الشَعب مُنذُ تولية الحُكم بأنه ناضل من أجلهم ضد الاستعمار الياباني، وأنه من سُلالة القادة في مملكة «جوسون» القديمة، مما يعني أنه من سلالة مُقدسَة، وهاتان الروايتان تُشكِك فيهما الولايات المتحدة، لكن بغض النظر عن صدق أو كذب روايته إلا أنه بهذا اتبع أول قواعد تأسيس «المدينة الفاضلة» وفقًا لأفلاطون الذي قال:

سنُخبر شعبنا بلغة ميثولوجية (أسطورية) أن كلكم إخوان، ولكن بعضكم خُلق ذهبًا ليكون حاكمًا وبعضكُم فضة ليكونوا مُساعدين، والآخرين نحاسًا وحديدًا وهم الزُرَّاع والعاملون. [3]

وكانت تلك الكذبة في نظر أفلاطون هي ما ستسمح للحاكم الفيلسوف بأن يمتلك زمام الأمور دون مُعارضة، حتى يتمكن من الإصلاح، بل إنه سيحظى بالمباركة والاحترام الدائمين. والحقيقة أن هذا ما حصل عليه فِعلاً الرئيس الكوري، بل إن الأمر تخطى الاحترام ووصل للتقديس.

صحيح أن «كيم» أوضح خطوات تأسيس مدينة تشبه «المدينة الفاضلة» في الثمانينيات، ولكنه كان يقوم ببعض الخطوات في السبيل إلى ذلك مُنذ فترة طويلة؛ ففي 1961 بدأ الاعتماد على Vinylon، وهي مادة خاصة تدخُل في تصنيع الملابس، وعليه أصبحت الملابس الكورية متشابهة، فهي إمّا زي رسمي أو زي عسكري، وهذا تحديدًا ما أشار إليه «توماس مور» حين تحدث عن تصوره للمجتمع في المدينة الفاضلة قائلاً:

تتخذ الملابس شكلاً موحدًا في كل المدينة، وبالطبع تختلف ملابس الرجال عن النساء، وجميعها مريحة للعيون وملائمة لحركة الجسم. [4]

ولم يقف الأمر عند ذلك، بل أنه قام بإلغاء أنواع الموسيقى واعتمد على نوع واحد بنمط كلمات مُعين، حيث ذكر في خطابه عام 1955 أنه يجب إعادة تشكيل التقاليد الفنية وجعلها مرتبطة بالوطنية، وهذا مشابه جدًا لما ذكره أفلاطون حين تحدث عن الموسيقى في المدينة الفاضلة، قائلاً:

يجب أن يُسَن نظام شديد التدقيق في الأغاني والألحان، فنُحظر الألحان المُركبة وكل الآلات الموسيقية إلا أبسطها، وغرض هذا أن يولد في عقول التلاميذ الشعور بالجمال والاتزان، وهي صفات تُحسِّن في سجيتهم، وعلينا أن نعلم أن التنوع الموسيقي قد يخلق فجورًا في النفسْ. [5]

كُل تلك الخطوات وغيرها كان مِن اليسير تنفيذها داخليًا بحُكم إيمان الشعب به كقائد، ولكن الخطوة التالية هي الأصعب، فالعمل على تحقيق الثلاثة مبادئ الرئيسية يجب أن تبدأ بالقُدرَة على الدفاع الذاتي، فإن لم تكُن قويًا لن تتمكن من تحقيق المبدئين الآخرين المُتمثِلين في استقلال (السياسة والاقتصاد)، لذلك سعت كوريا الشمالية إلى امتلاك السلاح الذي يمكّنها مِن الوصول إلى الاستقلالية للعمل من دون ضغوط خارجية، ومن هنا بدأت مشاكل كوريا الشمالية فـ امتلاك سلاح نووي سيُشَكِل أزمتين:

  • تهديد من الدول العظمى.
  • التكاليف الهائلة لصنع ذلك السلاح النووي.

وللتغلُب على هاتين المُشكلتين كان الحل في نظر رئيسها هو عزل كامل لـ كوريا، وحرمان الشَعب من بعض الرفاهيات توفيرًا لنفقات الدولة حتى تتمكن من الحصول على ما سيمكنها فيما بعد من الحصول على الاستقلالية والرفاهية، ولكن الخبر السيئ في ذلك هو أن تلك الحال ستستمر لأعوام كثيرة، ولعل «كيم» اقتدى في ذلك بما قاله الرئيس الباكستاني «ذو الفقار بوتو» حين شعر بالتهديد من قوة أكبر منة حيث قال:

إذا صنعت الهند القنبلة النووية، فسوف نأكل العشب، بل سنجوع، لكننا سنحصل على قنبلتنا.

لذلك مع بدايات الثمانينيات بدأت أحوال كوريا الاقتصادية في الانهيار بسبب تخلي روسيا والصين عن دعمها، بالإضافة إلى عزمها على الحصول على سلاح نووي، مما أوقعها في أزمات غذاء وطاقة حتى يومنا هذا.

ديماغوجية الإعلام

من الطبيعي أننا كمشاهدين للوضع الكوري، ومن منظور فردي بحت، سنشعُر بالشفقة على الشعب الكوري، وهذا ما يُعزّزه الإعلام الغربي وبالطبع الإعلام العربي الذي ينقِل عنهم، وهذا ما يُسَمى بـ «الديماغوجية»، والتي تعني استخدام مخاوف الجمهور وأفكارهم المُسبقة من خلال إثارة مشاعرهم للحصول على سلطة أو مكسب سياسي، وهذا بالتحديد ما يفعله الإعلام الغربي، الذي يُصوِّر كوريا الشمالية وقاداتها على أنهم حكام ديكتاتوريون، فيشرحون في العديد من وسائل الإعلام مدى صعوبة الحياة التي يعيشها ذاك الشعب المقهور، ويستندون إلى مخاوف الجمهور، فـ تخيل أنك:

  • تعيش بدون إنترنت دائمًا، وبدون كهرباء أغلب الأوقات.
  • لا يحق لك السفر إلا نادرًا، ولا يُسمح للنساء بارتداء المجوهرات.
  • الملابس مُتقاربة ولا توجد براندات، والطعام مَحدود وغير متنوع.

لكن لا أحد مُطلقًا يشير إلى مدى الظلم والقهر الذي عانته كوريا طوال تاريخها بسبب الاستعمار، وأنها بسبب ذلك تَسْعى إلى الاستقلالية، ولا يشير أحد إلى خوف أمريكا تحديدًا من ذلك، لأنهم على مدار الـ 200 عام الأخيرة لم يتركوا كوريا تنعم بالاستقرار، لذلك يخشون الانتقام! ولا يشير أحد إلى كيف أن الغرب يُحاصِر كوريا الشمالية اقتصاديًا بالعقوبات، وأن ذلك سبب رئيسي في نقص الموارد الغذائية التي يحصل عليها الشعب الذي يتحدثون عن معاناته.

لم يشر أحد إلى أن ما يحدثُ في كوريا الشمالية يحدث أيضًا في كوبا التي لا توجد بها خدمة إنترنت ولا اتصالات دولية إلا نادرًا، وأنها تعيش في فقر وحصار اقتصادي مُنذ حوالي 55 عامًا لأنها أرادت يومًا ما أن تكون دولة قوية مُستقلة، والسبب في عدم الإشارة إلى أي مما سبق هو «أمريكا» صاحبة البروباغندا الإعلامية، فمنْ يستطيع أن يضاهيها في ذلك؟ وهذا ما أشار إليه الفيلسوف الأمريكي المُعاصر «نعوم تشومسكي» حين تحدث عن السياسة الأمريكية قائلاً:

من الضروري أن تُزيِّف الحقائق حتى يبدو أن ما نفعله نبيل وصحيح، وأنه بدافع الوقوف أمام المعتدين والوحوش، ولذلك فإن صورة العالم التي تُقدَم إلى الجمهور هي أبعد ما تكون عن الحقيقة التي تم دفنها تحت طبقات من الأكاذيب. [6]

والحقيقة أن كوريا الشمالية فَطَنت إلى تلك الحقيقة مُبكرًا، مما جعلها تماطل كثيرًا في التخلي عن سلاحها النووي، حتى أنها أظهرت مَدى تعلمها مِن التاريخ، ففي تصريح مُباشر أعلنت كوريا للإعلام الأمريكي أنها ليست كـ العراق وليبيا، مُصِرحةً أنهما لولا تنازلهما عن برنامجهما النووي لكان رؤساؤهما على قيد الحياة حتى الآن.

أزمة المنظور

رغم كل شيء، هذا لا ينفي حِرمان الشعب الكوري، ولكن عَدِّل منظورك، فـ أنت تعلم مدى احتياجك إلى الإنترنت، أمّا من لم يستخدمه لا يدرك قيمته ولا يشعُر بالحاجة الشديدة إليه مِثلَك؛ أنت ستشعُر بالغضَب لانقطاع الكهرباء لمدة ساعة لأسباب مُختلفة ما بين (عمل، محادثة، مشاهدة فيلم… إلخ) أما مَن يوجد في كوريا الشمالية لن يشعر بذلك بل أنه رُبما سيشعُر بالامتنان لوجود الكهرباء لمدة ساعة في الليل!

حين تنظُر للأمور بمنظور فردي سيكون بالتأكيد ما يحدثُ في كوريا الشمالية ما هو إلا قمع وقهر، ولكن إذا عَدّلتْ منظورك فبالتأكيد سترى أنها دولة مُثابرة ساعية للوصول إلى المكانة التي تسْمح لها بالاستقلالية والرفاهية، حيثُ أدركَت أن فاتورة ذلك سنوات مِن الحِرمان والعُزلة.

رُبما لم يكُن «كيم إيل سونج» يسعَى إلى تحقيق «المدينة الفاضلة»، ولكنه رغم ذلك أرسى قواعدها بقصد أو دون قصد، وذلك أثناء سعيه لتشكيل دولة تملك قرارها، وما نراه الآن من تخبُط وخوف لدى الأمريكان لا يدُل إلا على اقتراب نجاح ما أرادت كوريا تحقيقه، ليبقى السْؤال: هل بعد أن تُحقِق مبادئها الثلاثة وتُصبِح قوة كُبرى لأول مرة في تاريخها، ستلتزم بمبادئها مع توفير الرفاهية والاستقرار للمواطنين، وتعويضهم عن كُل ما سَبق لتكون بذلك «مدينة فاضلة» بحق كما تخيلها أفلاطون وتوماس مور؟ أم أنها سَتُعيد تكرار خطأ من سبقوها وتتحول هي نفسها إلى نُسْخة استعمارية؟

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. ابن حرداذبة، “المسالك والممالك” دار بريل للنشر، مدينة ليدن المحروسة، 1889، صـ70 – صـ 170.
  2. سعد الدين الشاذلي، “مذكرات حرب أكتوبر”، الطبعة الرابعة، دار بحوث الشرق الأوسط الأمريكية، سان فرانسيسكو، 2003، صـ 64.
  3. أفلاطون، “الجمهورية”، ترجمة: حنا خباز، الطبعة الأولي، مؤسسة هنداوي، القاهرة، 2017، صـ 119.
  4. توماس مور، “يوتوبيا”، ترجمة: أنجيل بطرس سمعان، الطبعة الثانية، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1987، صـ 151.
  5. أفلاطون، “الجمهورية”، ترجمة: حنا خباز، الطبعة الأولي، مؤسسة هنداوي، القاهرة، 2017، صـ 83 – صـ 108.
  6. نعوم تشومسكي، “السيطرة على الإعلام”، ترجمة: أميمة عبد اللطيف، الطبعة الثانية، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، 2005، صـ 20.