قد تبدو مشاكل مثل الاحتباس الحراري، أو انحسار البقعة الخضراء، وخاصة الغابات التي خسرت 129 مليون هكتارا من مساحتها منذ عام 1990 مصلحة بناء هياكل شاهقة، أو انخفاض كميات الماء العذبة الصالحة للشرب التي لم يعد بمقدور 663 مليون إنسان الوصول إليها؛ قد تبدو هذه المشاكل أمورًا غير مؤثرة على حيواتنا اليومية -المعتمدة على الاستهلاك- أو مصيرنا كما تفعل المشاكل الاقتصادية على سبيل المثال. إننا نظن أن هذه المشاكل بعيدة عنا طالما كنا لا نعيش في هاييتي أو الصومال.

يخبرنا تاريخ النوع البشري بصورة مختلفة تمامًا عن استمرارنا في الأنانية، فكل ما نستخدمه لتعريف البشرية أو لوصفها أتي نتيجة تطور النوع طبقًا للتغير في نفس هذه الأمور التي لا يلقي لها بشر ما بعد الثورة الصناعية بالاً.

صنعت الظروف البيئية من البشر أعراقًا اختلفت في سماتها الظاهرة والجينية، فجعلت أمورًا مثل التطهير العرقي واقعًا في تاريخ العديد من الأمم. كان هذا في الماضي عندما كانت الطبيعة تصنع فصيلتنا بروية.

أما الآن، فيبدو أننا استغرقنا أكثر مما يراد لنا واستهلكنا أكتر مما نستحق وجعلنا من أنفسنا أعداء لدودين لمحيطنا الطبيعي. فما مصيرنا إذن إذا قررت الطبيعة أن ترينا المدى الكامل لأسلحتها؟.

من حسن الحظ أن لدينا ميزة تؤهلنا على الأقل لخوض الصراع، فلطبيعتنا القدرة على التأقلم مع ظرف متطرف بطريقة تؤدي للتأقلم مع ظروف أخرى في الوقت ذاته.

في حديثنا هذا نتعرف على أوجه من مصائر البشر في ظروف بيئية آخذة في التطرف شيئًا فشيئًا مع استمرار النزوح، النزوح هربًا من أماكن كانت وطنًا فيما مضى ولم تزل، لكنها ستجبرنا على الفرار عاجلاً أم آجلاً.

الماء

يختلف البشر اختلافًا واسعًا في احتياجاتهم اليومية من الماء والأملاح؛ الأمر الذي يجعل فكرة وضع قيمة محددة للاستهلاك البشري الطبيعي منهما أمرًا مستحيلاً. يمكن للدراسات أن تحدد قيمة تقريبية للاستهلاك الأمثل من الماء والأملاح بالنسبة لمجموعة معينة من البشر تعيش في مكان معين ولها نمط حياة ونشاطات متشابهة، ولكن هذه القيمة لن تمثل خطًا أحمر لجماعة أخرى تحيا حياة مختلفة.

على الجانب الاّخر، نجد قيم واضحة لتركيز بعض العناصر –التي يحصل عليها الجسم من استهلاك أملاحها- في بلازما الدم مما يعطي إشارات إلى نسبة الماء-إلى-الملح التي يحتاجها الفرد لكيلا يختبر أعراضًا مرضية.

فمثلاً، على تركيز الصوديوم في الدم أن يكون 135-147 مللي مكافئًا لكل لتر بينما على الكلور أن يكون تركيزه ما بين 98 إلى 106 مللي مكافئًا لكل لتر. مع تغير كمية الملح المستهلك تتغير كمية المياه المطلوبة لتحقيق التركيز المطلوب والعكس بالعكس، وفي الحالتين تتأثر العمليات الحيوية بأي حيود.

في ظل خطر انخفاض كميات المياه القابلة للشرب في مستقبلنا، أصبح من الضروري أن نراجع أساطيرنا. علينا أولاً النظر إلى مفهوم الجفاف بالنسبة للجسم البشري، حيث يمثل العطش الشديد صرخة استغاثة تأتي من داخل الخلايا. عكس ما يكمن في بديهة الغالبية، فإن الجفاف لا يعني انخفاضًا في كمية الماء ولكنه أيضًا يعني زيادة في تركيز الصوديوم فيه، هذا الصوديوم المسئول عن حالات الهلوسة التي تصاحب المصابين بالجفاف الشديد.

عندنا يفقد الجسم كميات من الماء ولا يتم تعويضها، يبدأ السائل الما بين الخلوي في التناقص على مهل مما يرفع تركيز الصوديوم في الدم. بواسطة الخاصية الأسموزية –انتقال المذيب من منطقة ذات تركيز أعلى من المذاب إلى منطقة ذات تركيز أقل من المذاب-ينتقل الماء من السائل الخلوي داخل الخلايا إلى السائل ما بين الخلوي خارج الخلايا من خلال أغشية الخلية. تحاول الخلايا بهذه الطريقة صنع حالة من التوازن بين تركيز الأملاح خارج وداخل جدرانها.

مع استمرار فقد الماء من السائل ما بين الخلوي، يزيد سحب الماء من السائل الخلوي بحيث يصبح عبء الجفاف طاحنًا على كل من بيئات داخل وخارج الخلايا. يفسر هذا خطأ الاعتقاد الشائع بأن شرب الكثير من الماء يستطيع علاج الجفاف الناشئ عن التعرق الشديد.

ففي حالة التعرق، تنخفض كمية الأملاح في بلازما الدم مما يؤدي لتخفيف تركيزها. هنا يؤدي شرب الماء فقط إلى المزيد من التخفيف لكمية شقوق الأملاح –خاصة الصوديوم- المتاحة للجسم مما يجعل الخاصية الأسموزية تضخ المياه إلى داخل الخلايا وتصيب السائل ما بين الخلوي بانعدام الاتزان.

يعني هذا أنه إذا أردت مداواة حالة من التعرق الشديد، عليك إمدادها بمياه تحتوي على كمية من الأملاح. هل يعني هذا أن «نشرب من البحر» حرفيًا؟.

في الواقع، يعني هذا العكس تمامًا، علينا بكل السبل ألا نلجأ لشرب الماء المالح على الأقل في صورته الطبيعية دون تحلية. بالطبع يختلف مدى تحمل الأفراد للماء المالح بينهم وبين بعض لكن ف النهاية فإن الحد الأقصى لتحملنا كبشر للماء المالح لا يسمح بالتعود على استهلاكه أو التأقلم مع تركيزاته من الأملاح، هذا إن كنا نريد للحضارة البشرية إلا تذهب في طيات الجنون.

كما في حالة التعرق الشديد، ولكن بأضعاف التركيزات، يؤدي استهلاك مياه البحر إلى ارتفاع غاشم في مستوى الأملاح في الدم مما يعود بنا إلى الأسموزية التي ستقوم بسحب المياه من الخلايا لتعطيها إلى السائل ما بين الخلوي. ولأن كمية الملح في الماء المستهلك ضخمة نسبيًا، فإن مخزون الماء الخلوي سيتناقص بحدة تهدد حياة الخلايا وتؤدي لانكماشها بغتة بما في ذلك التأثير على خلايا المخ. في المعتاد، لن يتحمل الإنسان هذه الحالة لوقت طويل حتى يخر صريع الملوحة.

عالم حار.. فضاء بارد

إذا كان مصطلح «ذوات الدم الحار» قد ألقي على مسامعك قبلاً، فإن ستعلم أنه يعني كائنات تستطيع الاحتفاظ بدرجة حرارة أعلى من درجة حرارة محيطها بفعل الحرارة الناتجة من عمليات البناء والهدم للغذاء.

إن كنا كبشر لا نستطيع التأقلم بحيث نقلل من احتياجاتنا الدنيا من الماء بالتدريب عكس ما يشاع عن سكان الصحراء، فإنهم –ولحسن الحظ- يستطيعون التأقلم مع عالم يزداد حرارة أو يبرد بعض الشيء.

يحاول الجسم البشري الاحتفاظ بدرجة حرارة 37 درجة مئوية في الظروف المثالية، تنخفض بمقدار نصف درجة مئوية بدون أعراض مرضية بالضرورة وتصل إلى 40 درجة في حالة ممارسة الرياضة.

لكن في الظروف العادية فإن درجات الحرارة الأعلى من 38 تعنى حمى في حين أن درجات الحرارة أعلى من 41 تسبب صدمة حرارية أو ما نعرفه باسم «ضربة الشمس» والتي قد تكون قاتلة. ليس بمقدور البشر تحمل ما هو أعلى من 44 درجة مئوية حيث إنها درجة الحرارة القاتلة لأجسامنا الهشة.

على الجانب الاّخر، عند انخفاض درجة حرارة الجسم فإنه يظل يحاول العودة لوضعه الطبيعي بواسطة الارتعاش والقشعريرة. ما إن تصل درجة حرارة الإنسان إلى 30 درجة فإنه يتوقف عن محاولة إعادة التوازن ويستسلم لدرجة الحرارة المحيطة به.

عند درجة حرارة 30 درجة مئوية، يتوقف الجسم البشري عن توليد الحرارة بواسطة القشعريرة ويتخذ درجة حرارة البيئة المحيطة، إنه يصبح من ذوي الدم البارد.

كلود بيانتادوسي، أستاذ الطب وعلم الأمراض بجامعة ديوك الأمريكية

هل يعني هذا أنه بارتفاع درجة حرارة محيطنا سنندثر جميعنا في لحظة واحدة؟، حسنًا ليس بالضبط، تختلف كمية الحرارة التي يكتسبها كل إنسان عن الآخر باختلاف كتلتيهما ومعدل تخزينهما وتوليدهما للحرارة داخل جسميهما بل وحتى الفارق في كمية تعرقهما ومساحة جسميهما المعرضة للحرارة.

عند التعرض المباشر الطويل لدرجات حرارة مرتفعة نسبيًا –كما في المناجم- في بيئات ترتفع فيها درجة الحرارة بشكل تحت التحكم، فإن الجسم البشري قادر على اكتساب قدرة إضافية على منع ذاته من الوصول لدرجة الحرارة الحرجة القاتلة بسرعة.

لا يعني الاحتباس الحراري ارتفاع درجة حرارة الكوكب فقط، بل تقلبها. يعني هذا أنه ربما علينا مواجهة شتاءات عصيبة تنذرنا بانخفاض درجة حرارة أجسامنا لدرجة الخطورة. ربما نضطر لمواجهة ما يعرف باسم Hypothermia.

لأننا كائنات نشأت في الأصل في أفريقيا، فإننا نتعامل مع الأجواء الحارة بصورة أفضل من البرودة. مع انخفاض درجة الحرارة تحت علامة 35 درجة مئوية نصبح في خطر فقدان السيطرة على الجسم، غياب الوعي المنضبط وانخفاض في أداء الجهاز العصبي يصل إلى الغيبوبة المصحوبة ببطء في ضربات القلب عند علامة 27 درجة مئوية. هنا يصبح تعافي الضحية مرتبطًا بإنعاشه وتدفئته بواسطة آخرين حيث لا يستطيع جسمه هو فعل شيء.

كانت هذه مشاهد مما يواجه البشر إذا اختلفت بيئاتهم دون أن تكون ميكانيكيات أجسامهم على أهبة الاستعداد. علينا إدراك أننا نحن البشر نحمل هشاشتنا في جيناتنا بمستوى لا يعطينا رفاهية عدم الاهتمام بالمحيط بنا.

إن مثل هذا التغافل هو بمثابة انتحار أكثر منه حكمًا من الطبيعة بإعدامنا. فنحن نستطيع التوقف عن جعل الطبيعة تعجل بدمارنا، علينا فقط ألا نستنزف حظنا معها.

المراجع
  1. The biology of human survival- C. A. Piantadosi
  2. Essential Cell Biology, Fourth Edition- Alberts, Bray, Hopkin
  3. Investigations operations manual 2015- Blood serum chemistry – Normal Values
  4. water.org
  5. FAO