في عام 1985 نشر الروائي العالمي جابريل جارسيا ماركيز روايته الشهيرة «الحب في زمن الكوليرا»، والتي تدور أحداثها في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ومن حيث انتهت أحداث الرواية الأدبية كانت رواية أخرى تُكتب في عالم الساحرة المستديرة، حيث عرفت كرة القدم وربما للمرة الأولى «المهاجم الوهمي» False 9، حتى لو لم تكن التسمية قد عُرفت بعد، لكن أرض النمسا كانت شاهدة على بداية المهاجم الوهمي الأول، كما كانت الإمبراطورية النمساوية شاهدة من قبل على انتشار وباء الكوليرا الرابع.

ما هو المهاجم الوهمي؟ وكيف بدأ؟

ربما يكون مصطلح «المهاجم الوهمي» False 9 حديثًا على قاموس كرة القدم لكن المركز ذاته قديم، وهو يرمز إلى المهاجم الذي يسقط للخلف أو إلى وسط الملعب بعيدًا عن منطقة الجزاء للمشاركة في بناء الهجمة أو لأسباب تكتيكية مختلفة، وسبب تسميته بهذا الاسم هو أن المهاجم -قديمًا في كرة القدم قبل تنوع واختلاف أرقام اللاعبين- كان يرتدى الرقم 9، وأصبح الرقم يشير إلى مركز اللاعب في النظام الذي ربط بين أرقام اللاعبين وأدوارهم داخل الملعب، حيث تقتصر أدواره على التواجد داخل منطقة الجزاء، ويحتاج إلى مقومات بدنية وجسدية محددة، ويعتبر المهاجم الوهمي ثورة على الشكل النمطي للمهاجم الصريح.

في ثلاثينيات القرن العشرين، كان المنتخب النمساوي يمتلك مجموعة رائعة من اللاعبين على رأسها المهاجم والقائد «ماثياس سينديلار»، والذي قاد منتخب بلاده إلى تحقيق الفوز على أعرق المنتخبات الأوروبية، حتى أطلقت الصحافة الألمانية عليهم لقب «منتخب العجائب»، عقب فوز النمسا على ألمانيا بسداسية نظيفة في برلين.

القائد سينديلار الذي اشتهر بـ «موزارت كرة القدم» و «الرجل الورقي»، ربما كان أول مهاجم وهمي في التاريخ، فقدرات اللاعب البدنية لم تكن تسمح له باللعب كمهاجم تقليدي، لكنه كان مبتكرًا ويتمتع بقدرات عالية على المراوغة، ويسقط دومًا في العمق ليخلق الفجوات بين دفاع الخصم ليُشرك المزيد من زملائه في اللعب، وهو ما سمح له باللعب في مركز المهاجم حتى ولو بنمط مختلف عما اعتادت عليه كرة القدم حينها، الأمر الذي جعل مدرب منتخب فرنسا «جورج كيمبتون» يقول للاعبيه مقولته الشهيرة في بطولة كأس العالم 1934 قبل مواجهة فريقه لمنتخب النمسا: «إذا ذهب سينديلار إلى المراحيض، اتبعوه الى المراحيض»، في محاولة للحد من خطورته لكن بلا جدوى، فاللاعب سجل التعادل للنمسا التي أخرجت فرنسا من الدور الأول بالفوز عليها بنتيجة 3-2 بعد التمديد.

كأس العالم يحتضن المهاجم الوهمي

استمرارًا مع تجربة سينديلار، المهاجم الوهمي الأول مع منتخب النمسا، فتلك لم تكن الوحيدة التي قدمها لنا كأس العالم عن المهاجم الوهمي، فبعد جيل العجائب للنمسا جاء جيل الذهب للمجر في الخمسينيات، الجيل الذي حقق ذهبية أولمبياد هيلسنكي 1952 وتوجه إلى كأس العالم 1954 والكل على يقين أن المجر التي لم تخسر مباراة واحدةً طيلة الأربع سنوات الماضية هي الأقرب للقب.

جيل بوشكاش، وهيديكوتي، وبوجيك، وكوتشيش، وجروشيش، وتسيبورا، كان أهم ما يميزه فنيًا وجود المهاجم الوهمي، حيث كان هيديكوتى يلعب كمهاجم متأخر يقوم بإمداد بوشكاش وكوتشيش بالكرات كما كان يحرز الأهداف، لقد دخلت المجر البطولة وهي منتصرة على إنجلترا في مرتين بنتيجة 6-3 و7-1 في مفاجأة مدوية، لدرجة انتشار كتاب في تلك الفترة في إنجلترا بعنوان «تعَّلم كرة القدم حسب الطريقة المجرية». لقد قدّم المجريون كرة القدم يذكرها التاريخ، وما زال الجميع يتذكر هيديكوتى وطريقة المهاجم المتأخر، لكنهم في النهاية خسروا لقب كأس العالم ضد ألمانيا الغربية في النهائي في مباراة درامية.

حيلة جوارديولا وسقوط مدريد

ومن حكايتي سينديلار ومنتخب المجر إلى اللحظة التي ربما قاربت الكمال في صناعة هذا النوع من المهاجمين.

في أكتوبر/تشرين الأول 2014، أبرزت جريدة ذا تليغراف البريطانية ما نشره الصحفي الإسباني «مارتي بيرارنو» -أحد الكُتّاب المقربين لبيب جوارديولا والذي كتب عدة كتب عن سيرته الذاتية- عن ليلة الأول من مايو/آيار عام 2009، والتي تحول فيها ميسي إلى مهاجم وهمي، وكأن مؤامرة قام بها جوارديولا مدرب برشلونة في مكتبه التدريبي قبل ساعات من مباراة الكلاسيكو ضد الريال.

فبعد مشاهدة بيب لمباراة سابقة بين فريقه ومدريد، لاحظ مقدار الضغط الذي نفذه لاعبو خط وسط ريال مدريد جوتي وفرناندو جاجو ورويستون درينثي على لاعبيه تشافي ويايا توري، ولاحظ أيضًا ميل قلبي الدفاع كانافارو وميتسيلدر للتراجع بالقرب من الحارس إيكير كاسياس مع ترك مساحة شاسعة بينهم وبين لاعبي خط وسط مدريد، وهي المساحة التي ما كان ليتركها بيب دون الاستفادة منها بأفضل شكل ممكن.

طلب بيب من ليو ميسي البالغ من العمر 21 عامًا أن يبدأ في مركزه المعتاد كجناح أيمن، لكن عندما يعطيه الإشارة يتحرك في العمق لتلك المساحة التي أخبره عنها ويستلم الكرات من تشافي وأنيستا ويتجه مباشرة إلى مرمى كاسياس، الأمر تم ليلًا بعد تفكير كثير من المدرب الإسباني حتى دون أن يخبر مساعديه، السر فقط بين بيب وميسي.

وفي صباح ليلة الثاني من مايو/آيار 2009 أخبر بيب مساعده تيتو فيلانوفا عما ينوي فعله، وقبل دقائق من انطلاق المباراة أخذ جوارديولا تشافي وإنيستا إلى جانب واحد وأخبرهما عندما تريان ميسي يتحرك في الفراغ بين الخطوط لا تترددا وأعطياه الكرة.

بدأت المباراة بشكل طبيعي، وبعد عشر دقائق وبينما النتيجة 0-0 أعطى بيب إشارة إلى ميسي وإيتو ليتبادلا مركزيهما، حيث يلعب إيتو في مركز إلى الجناح الأيمن، ويشغل ميسي الوسط الهجومي، لكن ليس كمهاجم تقليدي بل أقرب إلى خط وسط مهاجم، لتظهر لأول مرة بهذا الكمال الذي قدمه ميسي بتعليمات جوارديولا، ويسقط الريال في البيرنابيو بسداسية، بينما يقف كانافارو وميتسيلدر مدافعا مدريد عاجزين وليس لديهما أي فكرة عن كيفية مواجهة التغيير الذي حدث، لقد كان جحيمًا حقيقيًا لهما.

من قيصر روما إلى فيرمينو

قدم فرانشيسكو توتي رفقة «الميستر سباليتي» في روما موسم 2006-2007 أحد أفضل نسخ المهاجم الوهمي على الإطلاق، فبعد اعتماد سباليتي على توتي في مركز المهاجم الوهمي، قدم قيصر روما مستوى عاليًا من الأداء، وأنهى موسمه كهداف للدوري الإيطالي برصيد 26 هدفًا، وأنهى فريق روما الموسم كوصيف للدوري، بالإضافة إلى تحقيق لقب كأس إيطاليا، وتحصّل فرانشيسكو على جائزة الحذاء الذهبي الأوروبي كأفضل هداف في أوروبا ذلك العام، كما رُشح إلى جائزة أفضل لاعب في أوروبا وحلّ في المركز الـ 10 من خلال التصويت.

وبعد رحيل بيب جوارديولا عن البرسا وتوديع ميسي لمركز المهاجم الوهمي واعتزال توتي، فإننا الآن في حضرة فيرمينو، أحد أفضل المهاجمين الوهميين في كرة القدم الحديثة، وهو الذي وظفه يورجن كلوب في هذا المركز، ليصنع من الثلاثي الهجومي لفريقه «ماني، صلاح، فيرمينو» ثلاثيًا مرعبًا اجتاح الكرة الأوروبية، وعاد لحصد الألقاب للريدز من جديد، فاللاعب دائم الحركة والسقوط للخلف، مما سمح لزميليه ماني وصلاح إيجاد المساحة والتسجيل، حتى أصبح المصري صلاح هداف الدوري الإنجليزي في موسم (2017-2018)، وهداف الدوري الإنجليزي في موسم (2018-2019) بالتساوي مع ماني.

وبالرغم من أن متوسط أماكن تمركز فيرمينو، صاحب الرقم 9، داخل الميدان في بعض المباريات يكون متأخرًا للغاية عن صلاح صاحب الرقم 11، وماني صاحب الرقم 10، وحتى نابي كيتا لاعب خط الوسط صاحب الرقم 8، لكن هذا لم يمنعه من إحراز الأهداف من داخل منطقة الجزاء، كما حدث في مباراة ليستر سيتي في الجولة التاسعة عشر من الدوري الإنجليزي (موسم 2019-2020) حين سجل هدفين في فوز ليفربول برباعية.

كلوب رسخ فكرة المهاجم الوهمي في كرة القدم، وأصبح البرازيلي يحمل على عاتقه كتابة تلك الرواية التي لا تنتهي، لمركز ربما لم يتوقع صانعو كرة القدم أنه سيوجد يومًا ما، لكن تطور كرة القدم ألغى العديد من المراكز وأضاف مراكز أخرى، حتى أصبح المهاجم الوهمي جزءًا أصيلاً من كرة القدم الحديثة، وما زالت لرواية كرة القدم بقية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.