لقد أتينا إلى بلاد السمن والعسل؛ لكي نشارك بقية أبناء الشعب اليهودي في بناء المشروع الصهيوني الكبير، لكننا فوجئنا أن أحدًا لا يريدنا هنا؛ لأننا شرقيون ولأننا سود البشرة.

هكذا قال رئيس جمعية اليهود القادمين من إثيوبيا، واصفًا معاناة يهود «الفلاشا»، الذين هربوا من مخالب الفقر في إثيوبيا، ليجدوا أنفسهم بين فكيْ العنصرية الإسرائيلية.


يهود الفلاشا: بيت إسرائيل

تعود كلمة «الفلاشا» كمصطلح إلى مجموعة من الأحباش يدينون باليهودية، ويسكنون بلاد أو إقيلم «سمين» في شمال غرب الحبشة، في المنطقة المحصورة بين نهر نازي في الشمال والشرق، وبحيرة تانا والنيل الأزرق، ويتكلمون لهجة كوشية هي «الآجاو»، ويُعرِّفهم الأحباش أيضًا باسم «أيهود»، وهم يطلقون على أنفسهم اسم «بيت إسرائيل»، وتعني جماعة إسرائيل.

أما كلمة «فلاشا» في لغة الحبشية الأمهرية فتعني «المنفيين» أو «غريبي الأطوار»، أما مادة فلش في اللغة العبرية، فتعني غزا، أو زحف، أو اجتاح، وقد اختلف المؤرخون في تحديد جذور وأصل «الفلاشا»، ونتج عن اختلافهم عدة آراء نسرد منها الآتي:

الرأي الأول: يُرجع أصل الفلاشا إلى فترة استيطان اليهود في مصر، ويرى أن بعضهم واصلوا سيرهم واستقروا في النوبة والحبشة عام 581 ق.م، وهذا الرأي معتمد على إشارات جاءت في التوراة فقط.

كلمة «فلاشا» في لغة الحبشية تعني «المنفيين» أو «غريبي الأطوار»، ويعود أصلهم إلى الأسرى الذين أخذهم الأحباش أثناء غزوهم لليمن عام 525 ق.م.

الرأي الثاني: يرى أن أصل الفلاشا يعود إلى يهود الشتات «الديسبورا»، الذين تفرقوا في الأرض بعد الأسر البابلي الذي تعرضوا له على يد نبوخذ نصر، عام 586 ق.م، وقد لجأوا إلى الحبشة وسكنوها.

أما الرأي الثالث: فيرى أصل يهود الفلاشا إلى الأسرى الذين أخذهم الأحباش أثناء غزوهم لليمن عام 525 ق.م، حيث قام الأحباش بقتل ملك حمير اليهودي، وقاموا بتخريب بلاده وأسروا أقارب الملك ورجاله وهم من اليهود، وأرسلوهم إلى ملك الحبشة، فاستقر هؤلاء اليهود هناك، وكانوا هم الجذور الأولى ليهود الحبشة.

ويُعد الرأي الأخير من الآراء المُرجَحة بقوة؛ لأن أصحابه أكدوه بوثائق تاريخية، ولا ننسى أن معنى كلمة «الفلاشا» هو المنفيون أو الغرباء، وهو ما يتناسب مع هذا الرأي ويرجحه.

وبالنسبة لعقائد يهود الفلاشا، فهي تختلف عما يؤمن به باقي اليهود، لذلك يعتبرهم البعض في إسرائيل ليسوا يهودًا؛ فالفلاشا لا يؤمنون بالتلمود، ويؤمنون فقط بالأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم، ويرجع تفسير عدم إيمانهم بالتلمود أنهم هاجروا وانفصلوا عن باقي اليهود قبل كتابة التلمود.

وتؤمن الفلاشا بإله بني إسرائيل وأنه اختارهم واصطفاهم دون البشر، كما يؤمنون بالوصايا التي نزلت على موسى في سيناء، ويشترك الفلاشا مع باقي اليهود في الاعتقاد بنجاسة غير اليهودي.


حكومات ترفض وأخرى تذعن

عندما كانت إسرائيل في بدايات نشأتها، أرادت أن تستقطب كل يهودي يقطن في أي مكان لتثبيت دعائم دولتها الناشئة، فهاجر اليهود من كل حدب وصوب لدولة الاحتلال.

لكن بالنسبة ليهود الفلاشا، لم يكن الأمر متيسرًا في البداية، إذ عارض بعض المسئولين في إسرائيل هجرة هؤلاء إلى دولتهم، وقد بدأت محاولات تهريبهم قبل عام 1948، لكن الظروف لم تكن مواتية لدخولهم، كما أن المستوى العلمي والاجتماعي المتدني لهم لم يكن مغريًا؛ لأن إسرائيل كانت تحتاج إلى خبرات ومهارات عالية.

ووفقًا للمسئول في الوكالة اليهودية «يعقوب وينشتاين»، الذي زار إثيوبيا عام 1949 وطالب بتعجيل هجرة يهود إثيوبيا، فإن الحكومة الإسرائيلية في ذلك الوقت عارضت تلك المطالب، وزعمت أن اليهود المهاجرين يحملون أمراضًا وراثية معدية.

كما رفض معظم رؤساء وزراء إسرائيل، وعلى رأسهم ديفيد بن غوريون وموشيه شاريت وليفي إشكول وجولدا مائير، هجرة اليهود الإثيوبيين الجماعية إلى إسرائيل، ووصل الأمر، في بعض الأحيان، إلى إبعاد من وصلوا إلى إسرائيل بالفعل خلال تلك الأعوام بحجة أنه لا ينطبق عليهم «قانون العودة» وأنهم نصارى.

ومن المرجح أن تكون معارضة المسئولين الإسرائيليين لهجرة اليهود الفلاشا إلى إسرائيل نابعة من موقف يهود الفلاشا الديني الذي ذكرناه آنفًا. ولكن على الرغم من ذلك، فقد وافق رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين بتطبيق «قانون العودة» على الفلاشا، في عام 1975.

فبدأت الهجرة الجماعية في الفترة بين عامي 1979 و1990، في أكثر من عملية سرية. ويعود السبب الحقيقي لاستقطاب يهود الفلاشا، والسماح لهم بدخول إسرائيل إلى الحاجة لهم كأيدي عاملة رخيصة وكثيفة تدعم الاستيطان.


سبأ وسليمان: بين شارون والنميري وخاشقجي

دأب المسئولون الإسرائيليون على اتباع كل الوسائل لتهجير يهود الفلاشا إلى إسرائيل، ففي عام 1977 استطاع موشي ديان وزير خارجية إسرائيل في ذلك الوقت أن يقنع إثيوبيا بتوقيع اتفاق مع إسرائيل ينص على أن تقوم إسرائيل بتزويد إثيوبيا بالسلاح نظير موافقتها على هجرة الفلاشا، لكن هذا الاتفاق لم يُنفذ، وجاءت محاولة أخرى في العام التالي 1978، من قِبل مناحم بيجن رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، ولكنها باءت بالفشل.

ولذلك لجأت إسرائيل إلى العمل السري وتشكيل شبكة جاسوسية بإشراف الموساد والمخابرات المركزية الأمريكية، وقد نجحت هذه الشبكة في تهريب 1400 من يهود الفلاشا في إطار عملية أُطلق عليها اسم «عملية موسى»، على متن طائرات تجارية قبل أن يُكشف أمرها.

لذلك أدركت إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية ضرورة أن تكون السودان محطة في عملية التهجير، بعلم السلطات السودانية، ولذلك عُقد الاجتماع الحاسم الذي حضره جعفر النميري رئيس السودان، وشارون، وتاجر السلاح السعودي عدنان خاشقجي في نيروبي حيث تم الاتفاق على «عملية سبأ».

نصت تلك العملية على مشاركة المخابرات المركزية الأمريكية في العملية لضمان السرية، وألا تظهر إسرائيل في أي مرحلة من مراحل العملية، وعدم اتجاه الطائرات من الخرطوم إلى إسرائيل مباشرة. وقد نجحت إسرائيل في تهريب 20 ألف يهودي في إطار هذه العملية.

كما أعدت إسرائيل «خطة سليمان»، والتي تضمنت كلاً من: مكتب منظمة الإغاثة الدولية في الخرطوم، الذي تعاقد مع الفلاشا بعقود صورية لتشغيلهم في بلاد أجنبية، ووزير الدفاع البلجيكي اليهودي الذي سهّل عبور الطائرات عبر مطار بروكسل، وقد نجحوا في تهجير 14 ألف يهودي من الفلاشا.


جنة عدن أم جحيم العنصرية

رفض معظم رؤساء الوزراء بعد عام 1948، هجرة الفلاشا الجماعية إلى إسرائيل، بحجة أنه لا ينطبق عليهم «قانون العودة» وأنهم نصارى.

بعد عدة عمليات قامت بها إسرائيل لتهجير يهود الفلاشا إليها، حيث استقر بهم المقام هناك، تفاجأ الفلاشا بمعاملة من قِبل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، لم تكن في الحسبان. حيث ذكر أحد المستوطنين من يهود الفلاشا:

كنا نعتقد أننا في الطريق إلى جنة عدن، ولم نتخيل مواجهة هذه العنصرية والاستخفاف، ولذا أحن اليوم إلى موطني الأول، رغم قسوة المعيشة هناك.

فلم يجد هؤلاء أنفسهم إلا في حجيم من التفرقة العنصرية المتفاقمة داخل إسرائيل، حيث يرى قادة بعض الأحزاب الإسرائيلية، ومنهم رئيس حزب «ميرتس» المعارض «إيلان غيلون»:

أن ما يتعرض له الفلاشا يؤكد تفشي العنصرية في إسرائيل التي سعت لاستقدامهم وأهملت استيعابهم.

وتتجلى مظاهر تلك العنصرية في ترّكز الفلاشا في إسرائيل في أحياء فقيرة ومهملة ومدن من الصفيح على أطراف المدن القائمة، مثل مدينتي الخضيرة والعفولة، وتتزايد نسبة المعتقلين منهم بتهم جنائية إلى 40%، خصوصًا بين الشباب الذين يعانون الفقر والبطالة.

وقد واجه يهود الفلاشا الكثير من مظاهر العداء داخل المجتمع اليهودي، حيث تم رفض قبولهم للعمل في وظائف النخبة، حيث تمت السيطرة على مراكز القوى في إسرائيل، سواء في المؤسسة العسكرية أو النظام السياسي، من قِبل اليهود الأشكناز أي الغربيين، على اعتبار أنهم بناة الدولة الأوائل.

ويعمل معظم الإسرائيليين من أصل إثيوبي في وظائف خدمية متدنية مثل كنس الشوارع وتنظيف دورات المياه، وذلك بسبب إحجام الكثير من أصحاب الأعمال عن تشغيلهم، فوصلت نسبة البطالة بينهم إلى 65%.

وكذلك تحظر بعض الأماكن العامة دخولهم. وكثيرًا ما يتعرضون للضرب والتعذيب والإهانة في الشوارع، كما يرفض المجتمع اليهودي تطبيق الفلاشا للشعائر اليهودية. كما فقد كهنة طائفتهم وضعهم وصلاحيتهم منذ أن هاجروا إلى إسرائيل بسبب عدم الاعتراف بسلطتهم ومكانتهم.

وقد أخبرت المؤسسة الدينية في إسرائيل الفلاشا أنهم ليسوا يهودًا، وأن عليهم بالتالي الدخول في عملية تهويد جديدة قبل أن يقبلهم المجتمع اليهودي، كما قررت المؤسسات الطبية في إسرائيل عدم صلاحية دمائهم، حيث جرى إتلاف كميات الدم التي قد تبرع بها مجموعة من يهود الفلاشا، وذلك بحجة الخوف من مخاطرة أن تكون هذه الدماء ملوثة بعدوى مرض الإيدز، وهو ما أغضب الفلاشا كثيرًا، فنظموا مظاهرة ضخمة، رفعوا فيها لافتات تقول: «دمنا مثل دمكم».

كما غضب الفلاشا، واصطدموا مع الشرطة في قلب مدينة تل أبيب، وذلك بعد احتجاجهم على الممارسات العنصرية ضدهم في القدس المحتلة، إثر اعتداء شرطي على جندي إسرائيلي من أصل إثيوبي في مايو/أيار 2015، ورفع المتظاهرون في ميدان رابين في تل أبيب شعارات تندد بالعنصرية الإسرائيلية المتفاقمة، وتدعو في الوقت ذاته إلى دمج الإثيوبيين في المجتمع الإسرائيلي، وهتفوا ضد الشرطة واتهموها بالعنصرية والعدوانية.

وقد فشلت الفلاشا حتى الآن في الاندماج في المجتمع اليهودي، فإذا كان اليهود الشرقيون يُعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية هناك، فإن الفلاشا يأتون في الدرجة الثالثة.

المراجع
  1. محمود العدم، "يهود الفلاشا: عنصرية إسرائيلية بدعم رسمي"، الجزيرة نت، 4 مايو 2015.
  2. نبيل السهلي، "يهود الفلاشا وعنصرية إسرائيل المتفاقمة"، موقع الحياة، 3يونيو 2015.
  3. "نظرة على الإسرائيليين من أصول إثيوبية"، موقع سكاي نيوز عربية، 4 مايو 2015.
  4. "إسرائيل تكشف تفاصيل نقل يهود الفلاشا عبر السودان"، موقع وكالة فلسطين اليوم الإخبارية، 15 فبراير 2014.
  5. عادل شهبون، "يهــود الفلاشا فى إسرائيل: معاناة لا نهاية لها"، موقع الأهرام الرقمي، 9 مايو 2015.
  6. بثينة شتيوي، "يهود الفلاشا في إثيوبيا"، موقع ساسة بوست، 9 مايو 2014.