لطالما قلت إنه يجب منح كرة ذهبية لميسي، وكرة أخرى لبقية اللاعبين.
بيب جوارديولا، المدير الفني لمانشستر سيتي الإنجليزي. 

يبدو التصريح أعلاه عاديًّا؛ ميسي هو ميسي، على الأقل بالنسبة للمدير الفني الإسباني، الذي يعتقد أن أسوأ مواسم الأرجنتيني قد يتساوى مع أفضل مواسم أي لاعب آخر، حتو ولو كان هذا اللاعب هو «إيرلينغ هالاند»، الذي ساعده في تحقيق لقب دوري أبطال أوروبا مرة أخرى بعد سلسلة طويلة من المحاولات غير الناجحة.  

منذ رحيله عن البارسا صيف 2012، لم يتوقَّف بيب عن مدح ليونيل كلما سنحت له الفرصة، دون إظهار نفس القَدر من التقدير لمجموعة كبيرة من المواهب الفَذَّة التي أشرف على تدريبها، سواء في بايرن ميونخ الألماني أو مانشستر سيتي الإنجليزي. 

تقدير جوارديولا لميسي، الذي يبدو مبالغًا به في بعض الأحيان، قد يفتح لنا بابًا لنتعرَّف أكثر على شخصية الإسباني، التي تحمل بداخلها الكثير من التفاصيل، التي تستتر خلف كونه العبقري الذي حوَّل مسار كرة القدم للأبد. 

رجل يعرف الحقيقة 

أفضل لاعب في فريقك قد يكون أعظم ما تمتلك أو أثقل عبء عليك. يجب أن تعرف كيف تُغريه، وتخدعه للحصول على أفضل ما لديه. كمدرب تمتلك السلطة، لكنك تحت رحمة اللاعب، تعتمد عليه. 
نصيحة خوليو فيلاسكو، مدرب الكرة الطائرة الإسباني لجوارديولا.

بالنسبة لبيب، يجب على الجميع أن يُضحي من أجل الفريق. وفي الواقع، ارتبطت هذه القاعدة بلحظة وصول بيب لتدريب برشلونة كوجه جديد، عندما قرَّر التضحية بـ «رونالدينهو»، ثُم مَنح «صامويل إيتو» و«تيري هنري» أدوارًا أقل أهمية داخل الفريق. لكن الفكرة كانت هي إيمان جوارديولا بامتلاكه نجمًا جديدًا للفريق، وهو ليونيل ميسي بالتأكيد. 

في قرارة نفسه، يعلم بيب أن المساواة بين اللاعبين كذبة، اختبرها حين كان جامعًا للكرات في كامب نو، وقتما شاهد بطل طفولته «ميشيل بلاتيني» معفي من إجراء عمليات الإحماء في «يوفنتوس»؛ لأن منح النجم ما يريده من راحة، قد يحسم المباريات المُعقدة، التي لن يستطيع حسمها بنفسه، مهما بلغت تحضيراته لأي مباراة. 

في 2019، نشر موقع «The Economist» مقالًا بعنوان: «مدرب كرة القدم أقل أهمية مما يعتقد بعض المشجعين». استخدم كاتب المقال نموذجًا لقياس تأثير مجموعة من مدربي كرة القدم مقارنةً بتأثير أبرز نجوم فرقهم. واتضح أنه في أفضل الظروف قد تُضيف تدخُّلات بعض المدربين الأفذاذ 4 نقاط لعدد نقاط الفريق في جدول ترتيب الدوري، بينما يصل تأثير نجم الفريق لـ10 نقاط إضافية. 

رقميًّا، حين قام جوارديولا بإخلاء طريق البرغوث من المنافسين، عبر تحويله للهدَّاف الأول للفريق بموسم 2008/2009، رد الأرجنتيني الجميل بأن جعَل بيب من مجرَّد طفرة لأفضل مدربي العالم. 

لك أن تتخيَّل فقط أنه منذ موسم 2004/2005 وحتى موسم 2018/2019 تراجعت نسبة فوز برشلونة بالمباريات بنحو 27% حين غاب ميسي عن الصناعة أو التسجيل، وارتفعت نسبة الهزيمة بما قدره 15%، بغض النظر عن اسم المدرب، الزملاء وحتى المنافسين. 

هنا ربما نصل لاستنتاج أول، رُبما يعتقد جوارديولا أنه هو من صَنع ذلك الوحش، الذي يجب أن يستمر في مدحه إلى ما لا نهاية. لكن هذه الفرضية ناقصة؛ لماذا لا يصنع وحشًا آخر؟ 

صراع لا ينتهي 

تعتقد المؤرخة الأمريكية «جوان فالاخ»، أن أهم ما يُميِّز أي «مُفكِّر» هو قدرته على توجيه أصابع الاتهام إلى التناقضات، بيد أنّ المفكِّر نفسه قد لا ينجو من كونه متناقضًا؛ يقوم بفعل أشياء تختلف جذريًّا عن مبادئه. 

إذا ما افترضنا أن بيب هو أحد أهم منظري اللعبة بالقرن الواحد والعشرين، حتى إن صرَّح بإنَّه مجرَّد مُدرب جيد، قد نرى أن عملية صناعة «ميسي» الذي نعرفه حاليًّا قد استنزفت الإسباني؛ لأنَّه أمام الأرجنتيني، كان قد تنازل طوعًا عن مبادئه كي ينجح بأولى محطاته التدريبية. 

في 2021، كتب «ديرموت كوريجان»، صحفي «ذي أثلتيك»، تقريرًا بعنوان: «ميسي وجوارديولا: العلاقة المعقدة بين شخصين فازا بكل شيء معًا». نُقلت خلال هذا التقرير مجموعة من الأحداث التي توضِّح ما قام به جوارديولا من أجل إرضاء ميسي خلال فترة تدريبه لبرشلونة، حتى إن بدا ذلك عكس قناعاته ومبادئه المستقرة في الوعي الجمعي لجماهير كرة القدم حول العالم. 

في البداية، كان الجميع في برشلونة مطالبًا بحمية غذائية مُحددة، بما فيهم ميسي، كي يتمكَّن بالقيام بكل المهام البدنية التي يطلبها المدير الفني من الجميع بلا استثناء. لكن مع الوقت، بدأ ميسي وكأنَّه يرغب في إظهار نفسه كشخص لا يُمكن المساس به. 

أول تلك المواقف كانت في 2009، حين تحدَّى الأرجنتيني مدربه علانية، وقام بتناول مشروب غازي أمام أعين بيب، داخل غرفة الملابس، قبل انطلاق إحدى المباريات بدقائق. وفي مناسبة أخرى، كان ميسي يُعبِّر عن غضبه من تعاقد النادي مع إبراهيموفيتش بإرسال رسالة تهديد ضمنية لمدربه قائلًا: أشعر أنني لم أعُد مهمًّا للفريق. أما ثالث المناسبات، فكانت في آخر مواسم بيب مع البلاوجرانا، حين تغيَّب دون اعتذار عن تدريب الفريق، بعدما قرر الإسباني إراحته عن إحدى المباريات. 

طبقًا لأحد المصادر القريبة من غرف ملابس برشلونة في هذه الفترة، أحد الأسباب التي أدت إلى رحيل جوارديولا عن برشلونة كانت عدم قدرته على استخراج أفضل ما في ميسي مجددًا، والأهم هو شعور الإسباني بالقلق من أن ينتهي الأمر بانهيار علاقته بميسي، حيث رأى أنها تزداد توترًا يومًا بعد يوم.

ربما، نجح جوارديولا وقت اتخاذه قرار الرحيل عن البارسا أن يشير إلى التناقضات بداخله، والأهم أنه تحوَّل لرجل ليس لديه أي استعداد لتقديم تنازلات مشابهة، لأي لاعب آخر، حتى ولو كان نجم فريقه الأول.

آلية الدفاع 

يؤمن بيب أن الحياة سلسلة من المخاطرات وارتكاب الأخطاء، لذا حيثما أمكن، قُم بأخطائك، بدلًا من تحمُّل تبعات أخطاء الآخرين. 
الكاتب الإسباني ديفيد ترويبا. 

سواء في بايرن ميونخ، أو مانشستر سيتي، لم يحظَ أي لاعب من لاعبي جوارديولا بالحرية التي حظي بها ميسي، داخل وخارج الملعب. ويبدو ذلك منطقيًّا؛ لأنه وضع نفسه بالفعل ضمن دائرة الأفضل في العالم، لذا لم يعد في حاجة لتقديم أي تنازلات جديدة. 

طبقًا لأحد المصادر القريبة لغرفة ملابس مانشستر سيتي، على الرغم من تقدير اللاعبين لجوارديولا، يجد معظمهم تدريباته مُرهقة وشاقة؛ لأنه شخص متطلب جدًّا. كما يحافظ على مسافة بينه وبين لاعبيه، حيث لا يوضح أسباب استبعاده لأي لاعب، إضافة لتعامله بحزم مع أي لاعب يُظهر أي ملامح امتعاض على قراراته. 

جوارديولا «المتحقق»، أصبح يُعامل لاعبيه كتروس في آلته الناجحة، لكن دون أي محاولة لتقديم ميسي آخر، بل بتأكيد شبه دوري أنه: «لطالما لا يوجد بينكم ميسي، بالتالي لا يحق لكم الحديث، ميسي وحده من يمتلك الحق في أن يُظهر وجهًا عابسًا». 

ربما تبدو هذه التصرفات آلية جوارديولا الخاصة للدفاع عن نجاحاته التي راكمها منذ رحيله عن برشلونة، أو ربما تذكير للعالم بمنتجه الخاص، وربما الأهم الذي قدمه قبل أكثر من عقد كامل.