منذ أيام قليلة كنت أستمع إلى إحدى حلقات الصحفي الإنجليزي «أندي براسيل» التي يقدمها على منصة البث الإذاعي «Football Ramble». بدأت فقرة أسئلة المتابعين على البث الحي ليجيب عليها الكاتب المخضرم. سأله أحد الصحفيين المصريين في وكالة «مونت كارلو» بنسختها العربية: ما هو رأيك في تبرعات الجماهير للأندية؟

انطلق روسيل ليتحدث عن الدور المجتمعي الهام لأندية كرة القدم، ومشاركة اللاعبين في الأنشطة الخيرية … إلخ. شعر الصحفي أن براسيل لم يفهم سؤاله جيدًا، فكتب تعليقًا آخر ليوضح أنه يسأل عن تبرعات الجماهير للأندية وليس تبرع الأندية للجماهير.

أبدى روسيل اندهاشه من السؤال بشكل حاد بعد أن اتسعت عيناه بشكل كبير، ثم تحدث عن عدم تفهمه لسلوك كهذا في دول ينخفض فيها متوسط دخل الفرد عن المتوسط العالمي بشكل كبير، فالأولى هو احتياجات الفرد الإنسانية الأولية سواء لنفسه أو لغيره.

انتهى النقاش حينها تحت المظلة الكُبرى التي تتسع لكافة الاحتدامات والاختلافات البشرية: كل فرد حُر فيما يفعل.

لماذا أتحمل سوء إدارتك؟

السؤال الأهم الذي استوقفني في حديث براسيل وأسئلته الاستنكارية فيما يخص فكرة تبرعات الجماهير للأندية هو: لماذا يتحمل شخص فقير من المشجعين، سوء أداء شخص غني من صناع القرار في مجالس إدارات الأندية؟

فإذا كان المواطن في ظل الأنظمة الديكتاتورية مُجبرًا على ذلك في تعامله مع حكومات بلاده، فما الذي يدفعه إلى تحمل ذلك بكامل إرادته مع أشخاص لا تجمعه بهم أي درجة قرابة يرأسون ناديًا رياضيًا يشجعه؟

في أغلب الظن أن السؤال الذي عرضه الصحفي المصري، كان بسبب دعوة اللجنة المؤقتة لإدارة نادي الزمالك المصري للتبرع في حساب بنكي خاص بالنادي القاهري، والتي تزامنت مع وقت إذاعة الحلقة.

يحمل تساؤل براسيل قدرًا كبيرًا من الوجاهة، فما الذي يجعل أفراد جماهير نادي الزمالك من الطبقة المتوسطة وما يدنوها، يتحملون خطأ شخص ثري كمرتضى منصور تعاقد مع لاعب بعقد ضخم اعتمادًا على أموال مسئول خليجي، فقط لتحقيق مجد شخصي دون التفكير في توفير مصدر دخل كبير ليغطي قيمة تلك الصفقة؟

الأمر ذاته تكرر حين دعا النجم المصري الاستثنائي محمد أبوتريكة مجلس إدارة النادي الأهلي المصري لتخصيص حساب بنكي، يتبرع من خلاله جمهور النادي ومحبوه لرد المبالغ التي دفعها الخليجي ذاته لدعم محمود الخطيب ومجلسه، ثم قيامه بمعايرتهم وسبهم على إثر ذلك الدعم عدة مرات، في ظل عجز مصري تام عن المجابهة لأسباب سياسية.

لا يختلف اثنان على نزاهة محمد أبو تريكة بالطبع، ولا مواقفه المشرفة التي تلمع بها صحيفته منذ أن عرفته ساحة الرأي العام المصرية، لكن السؤال ذاته يتكرر: ما الذي يدفع جماهير النادي من الطبقة المنخفضة والمتوسطة على تحمل خطأ الخطيب واختزاله لمصادر التمويل الحقيقي في مسؤول خليجي متهور صغير السن؟

المعادلة واضحة ومجردة تمامًا، يخطئ الثري -وهو في طريقه لتحقيق مجد شخصي- فيتحمل نتيجة خطئه وحده، ولا يجب أبدًا أن يتحمل الفقير عواقب ذلك الخطأ تحت أي مبرر، طالما لم يشارك في صنع ذلك القرار الخاطئ.

تعقيد الأزمة وليس حلها

يفترض كل ماسبق أن في تبرعات الجماهير حلاً سحريًا لأزمات الأندية المادية، لكن «زاك جارنر بوركس» الصحفي الاقتصادي الرياضي في وكالة Forbes الأمريكية كان له رأي آخر. يرى زاك أن تلك التبرعات تزيد من معاناة الأندية المادية على المدى البعيد، لا حلها.

في أعقاب أزمة كورونا، واجه نادي فنرباخشة التركي ديونًا وصلت قيمتها إلى 370 مليون دولار. دعا النادي أنصاره إلى التبرع للنادي عبر خدمة الرسائل النصية. وصل سعر الرسالة الواحدة إلى 20 ليرة تركية (حوالي 3 دولار أمريكي).

يقول زاك جارنر إن تلك السياسة صارت الطريقة المتبعة من النادي التركي لمواجهة أزماته المالية في السنوات العشر الأخيرة، وبالرغم من إقبال الجماهير على مساعدة النادي بشكل غير مسبوق إلا أن الأزمة ما زالت تتفاقم واحتل النادي المركز السادس في تاريخ أندية أوروبا من حيث المديونية. فلماذا؟

تتبع إدارة النادي سياسة التعاقدات الضخمة مع لاعبين كبار في نهاية مشوارهم الكروي. فلاعبون أمثال ناني وروبين فان بيرسي وماثيو فالبوينا، مرت مركب مسيرتهم على مضيق البوسفور؛ لتجني ملايين الدولارات، قبل أن ترسو على شاطئ الاعتزال.

سياسة أثبتت فشلها الذريع على المستوى الاقتصادي، لكن مجالس الإدارات تُقبل عليها لتحقيق دعايا شخصية وتسويق جيد لفترات إداراتهم. لماذا؟ لأن الفقير لا يزال يدفع فاتورة فشل الثري.

وبالرغم من كون النادي شركة ذات أسهم بالأساس في سوق الأسهم التركية، إلا أن الفجوة الكبيرة بين العوائد والأرباح جعلت أنصبة المساهمين سلبية. يتبرع الجمهور فيزيد من قيمة تلك الأسهم بشكل نسبي، فتصير الخسارة أخف بكثير على المساهمين «Shareholders»، فيقومون ببيع تلك الأسهم لجمهور آخر لا يبحث عن المكسب في الغالب بينما يبحث عن الدعم وإنقاذ تلك الشركة من الانهيار.

يرى «توغرول أكسار» الاقتصادي التركي البارز في حديثه مع وكالة فوربس الأمريكية، أن حال الأندية الكُبرى الأربعة في تركيا -والتي تجاوزت ديونها حاجز ال 750 مليون دولار- لن ينصلح إلا بحلول اقتصادية جذرية.

وطالما أن تبرعات الجماهير-حسنة النية- لا تنقطع فلن يبذل المسؤولون مجهودًا حقيقيًا لحل تلك الأزمة؛ لأن قيمة الأسهم تزيد بشكل وهمي ولحظي حتى يتم بيعها، ثم سرعان ما يزول ذلك الأثر وتزداد القيمة الحقيقية لديون النادي.

في أوروبا والدول المتقدمة

استخدم الكاتب «زاك جارنر بوركس» في تقريره على منصة فوربس مصطلح «حسن النية لدى الجماهير» ذاته الذي استخدمه الاقتصادي التركي توغرول أكسار.

يقول بوركس إنه من المزايا المهمة للدوريات الخمس الكُبرى في أوروبا هو رد الفعل العنيف والمُتعارف عليه ضد الأندية التي تحاول أن تستفيد من «حسن نية مشجعيها»، حتى ولو كانت ذات موارد مالية شحيحة.

استشهد على ذلك بما يحدث في المملكة المتحدة، فنادي سندرلاند الإنجليزي تسبب في ضجة كبيرة برفضه استرداد المشجعين لقيمة التذاكر للفترة المتبقية من الموسم في أعقاب جائحة كورونا، محاولًا في إحدى المرات إقناع مشجعيه بأن تلك الأموال ستذهب لدعم خزينة النادي، لكن الضجة استمرت وتسببت في إلغاء القرار.

كذلك كان هناك احتجاج شعبي ملموس عندما حاول ليفربول وتوتنهام الاستفادة من خطة الحكومة البريطانية لدعم المؤسسات في جائحة كورونا، حين دفعت الحكومة نسبة من رواتب الموظفين لحماية المؤسسات. يقرّ زاك جارنر أن الصوت الغالب حينها كان يوجه إلى وجوب تخفيض رواتب اللاعبين قبل أن يتدخل الآخرون لدعم النادي.

أما حين قررت شبكتا Sky Sports و BT Sports تشفير لقاءات فريق نيوكاسل الإنجليزي التي لم تندرج في جدول البث التلفزيوني وإذاعتها على منصات إلكترونية بشكل حصري مقابل 15 جنيهًا إسترلينيًا للمباراة الواحدة، رفضت جماهير نيوكاسل يونايتد الدفع.

وحين وجه لهم النادي بيانًا يخبرهم فيه بأن عائد تلك الاشتراكات سيعود لخزينة النادي لإنعاشها رفضوا ذلك الابتزاز العاطفي وقرروا اقتطاع نفس قيمة الاشتراك، لكن لصالح بنك الطعام الإنجليزي في نيوكاسل.

وفي ألمانيا وفي أعقاب جائحة كورونا، ناشد بايرن ميونيخ جماهيره ليتبرعوا، ليس لإنقاذ ناديهم وما إلى ذلك، لكن لتجميع مبلغ نصف مليون يورو تقريبًا مناصفة بين النادي ومشجعيه وتوزيعها على أندية ميونيخ الصغيرة التي يعاني لاعبوها ويواجهون خطر التوقف عن ممارسة الرياضة.

كما ترى، إذا كنت تفكر في التبرع لناديك فأنت لست مضطرًا أن تتحمل أعباء مالية إضافية لتعالج فشل شخص ثري. وإذا كنت ترى أن حبك لناديك أكبر من تلك النظرة، فكما رأيت في تركيا، الوضع يزداد سوءًا في ناديك بتلك التبرعات.

وإذا كنت محاطًا بالحجة التي تخبرك أن ذلك يحدث في كل مكان بالعالم، فأنت تستطيع الرد الآن بأن هذا لا يحدث في أي مكان به دوري قوي وناجح بالعالم، فالتبرعات هناك تكون لأهداف إنسانية خالصة ولسد حاجات الإنسان الأساسية.

لا يأتي النجاح أبدًا باستغلال حُسن نوايا المشجعين وابتزازهم عاطفيًا تحت أي مسمى!