اختلف مفهوم الصوم عند الفرق الشيعية الباطنية التي قدست الإمام علي بن أبي طالب، فاتخذ عند أتباعها شكلًا آخر غير ذلك المعروف عند باقي المسلمين، فأوّلوا النص الظاهر بمعان باطنية، واعتبروا العبادات والشعائر رموزًا وإشارات، ولا يجب أخذها بمحملها الظاهر.

يذكر الدكتور عبدالرحمن بدوي في كتابه «مذاهب الإسلاميين.. المعتزلة، الأشاعرة، الإسماعيلية، القرامطة، النصيرية»، أن الباطنية لقب مشترك يندرج تحته مذاهب وطوائف عديدة، والصفة المشتركة بينها هي تأويل النص الظاهر بالمعنى الباطن تأويلًا يذهب مذاهب شتى، فهو يعني أن النصوص الدينية المقدسة رموز وإشارات لحقائق خفية وأسرار مكتوبة، وأن الطقوس والشعائر، ومنها الصوم، هي الأخرى رموز وأسرار، وأن عامة الناس هم الذين يقنعون بالظواهر والقشور ولا ينفذون إلى المعاني الخفية المستورة التي هي من شأن أهل العلم الحق، وهو علم الباطن.

الخطابية: الصوم «رَجُل»

من هذا المنطلق اتخذ الصوم عند فرقة الخطابية الشيعية أبعادًا مختلفة، فأُسقط عن أتباعها مثل غيره من الفرائض الأخرى. يذكر محمد جابر عبدالعال في كتابه «فرق الشيعة المتطرفين.. عقائدهم، حركاتهم في العصر العباسي وأثرها على الأدب والمجتمع»، أن أبا الخطاب الأسدي أسس هذه الفرقة في النصف الأول من القرن الثاني الهجري، إذ قدست جعفر بن محمد المعروف بـ«الصادق»، وجعلت منه إلهًا.

وبحسب «عبدالعال»، ذكر أبو الخطاب لأتباعه أن الألفاظ الواردة في القرآن للتحليل والتحريم وإقامة الفرائض دالة على رجال سماهم، وأنه ليس للألفاظ مدلولها اللغوي، إذ هي إشارات لرجال عُرفوا في التاريخ الإسلامي كأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وبهذا التأويل أسقط أبو الخطاب الصيام عن أفراد الفرقة لمجرد معرفتهم بالرجل المقصود من هذه الكلمة.

ولم يكد يسمع جعفر الصادق بعقيدة هذا المذهب حتى تبرأ منه، وكتب إلى أبي الخطاب «بلغني أنك تزعم أن الزنا رجل، وأن الخمر رجل، وأن الصلاة رجل، وأن الصيام رجل، والفواحش رجل، وليس هو كما تقول»، بحسبما ذكر أبو عمرو محمد الكشي في كتابه «أخبار الرجال».

وهذا ما أشار له أيضًا أبو حنيفة النعمان التميمي المغربي في كتابه «دعائم الإسلام». ذكر أن أبا عبدالله جعفر بن محمد كتب إلى بعض أوليائه من الدعاة عن هذه أتباع العقيدة، فذكر:

«أنهم يزعمون أن الصلاة والزكاة وصوم شهر رمضان والحج والعمرة والمسجد الحرام والبيت الحرام والمشاعر العظام والشهر الحرام إنما هو رجل، والاغتسال من الجنابة رجل، وكل فريضة فرضها الله تبارك وتعالى على عباده فهي رجل، وأنهم ذكروا أن من عرف ذلك الرجل فقد اكتفى بعلمه عن ذلك من غير عمل، وقد صلى وأدى الزكاة وصام وحج واعتمر واغتسل من الجنابة وتطهر وعظم حرمات الله والشهر الحرام والمسجد الحرام، وأنهم زعموا أن من عرف ذلك الرجل وثبت في قلبه جاز له أن يتهاون وليس عليه أن يجهد نفسه، وأن من عرف ذلك الرجل فقد قبلت منه هذه الحدود لوقتها وإن هو لم يعملها».

وبحسب عبدالعال، استطاع أبو الخطاب بهذا التفسير العجيب أن يلغي الصيام الذي فرضه الله، وأن يبيح لأصحابه الموبقات والملذات من دون قيد، سوى قدرة الشخص على استيعابها والتمتع بمزاياها، وفي ذلك يقول أبو محمد الحسن بن موسى النوبتخي في كتابه «فرق الشيعة»، أن هذه الفرقة «تركوا الزكاة والصلاة والصيام والحج، وأباحوا الشهوات بعضهم لبعض».

البشيرية: صيام رمضان من دون زكاة

وعلى هذا المنوال سارت فرق باطنية عديدة، لكن «البشيرية» كانت أقل حدة في موقفها من الصوم. يذكر «عبدالعال»، أن مؤسس هذه الطائفة هو محمد بن بشير مولى بني أسد من أهل الكوفة، وكانت تعتقد أن موسى بن جعفر المعروف بـ«الكاظم»، والمتوفى سنة 183، لم يمت، ولم يُحبس، وأنه حي غائب، وأنه القائم المهدي، وأنه استخلف محمد بن بشير زعيمهم وفوض إليه أموره.

وجمعت هذه الفرقة في مذهبها خليطًا عجيبًا من عقائد مختلفة، فأنكروا بعض العبادات واتبعوا بعضها الآخر، فزعمت أن على أتباعها صوم رمضان فقط، وأنكروا الزكاة والحج وباقي الفرائض.

الإسماعيلية: الإمساك عن كشف الحقائق

كانت «الإسماعيلية»، التي ظهرت في منتصف القرن الثاني الهجري، إحدى حلقات الاتصال الرئيسية في الحركات الباطنية وامتدادًا لحركة الخطابية، إذ بايع أتباعها محمد بن إسماعيل بالإمامة، وهو التلميذ المخلص لأبي الخطاب، والذي ادعى أنه بُعث برسالة جديدة وشريعة جديدة تعتمد على التأويل والعلم الباطني.

وبحسب محمد أحمد الخطيب في كتابه «الحركات الباطنة في العالم الإسلامي»، انتهى التأويل بالإسماعيلية إلى طرح كل أركان الدين، وتأويل الصوم بما يتناسب مع مراميهم، إذ اعتبروه إمساكًا عن كشف الحقائق لغير أهلها.

ورغم ما قيل بشأن التأثيرات اليهودية في التأويل الباطني للصوم وغيره من العبادات عند الإسماعيلية وغيرها من الفرق الأخرى، لكن فرهاد دفتري يقدم في كتابه «الإسماعيليون.. تاريخهم وعقائدهم»، تفسيرًا مختلفًا، إذ يقول إن أهمية الشريعة عند فرق الباطنية تضاءلت عندما ساد الاعتقاد بأن معرفة الإمام هي أكثر الفروض الدينية بالنسبة إلى المؤمن الصالح، لا سيما بالنسبة للغلاة الذين كانوا يبدون اهتمامًا زائدًا بالولاية للقضية الشيعية.

ويبدو أن هؤلاء الشيعة المتوقدين حماسة قد نظروا إلى الصوم وغيره من فرائض الدين الشرعية كأشياء غير ملزمة لأولئك الذين عرفوا الإمام الحق وأخلصوا له، بخاصة عندما بالغوا في تعظيم أئمتهم لدرجة وضعهم في مرتبة فوق بشرية تقريبًا، والقول إنهم هم وحدهم من اختارتهم العناية الإلهية لقيادة المؤمنين.

النصيرية: أغلال وقيود

ومن الفرق الباطنية التي أوّلت مفهوم الصوم وفقًا لمذهبها «النصيرية». يذكر «الخطيب»، أنها سميت بهذا الاسم نسبة إلى محمد بن نصيري النميري الذي عاش في القرن الثالث الهجري، وأتباعها غلوًا في علي بن أبي طالب وقالوا بألوهيته، وهم يعتقدون بتناسخ الأرواح، والتأويل بالباطن.

و«النصيرية» شأنها شأن الفرق الباطنية الأخرى، ترى أن الصوم ما هو إلا أغلال وقيود وُضعت على الجهلة المقصرين وهم «أهل الظاهر»، لعدم اعتقادهم بأسرار الحقيقة الإلهية وظهوراتها، لذلك وضع الله عليهم هذه الفرائض والعبادات كقيود وأغلال لتقصيرهم في ذلك، لهذا فهم لا يمتنعون عن الطعام والشراب في رمضان.

ويرى أحمد محمد أحمد جلي يرى في كتابه «دراسة عن تاريخ الفرق في تاريخ المسلمين: الخوارج والشيعة»، أن النصيرية ينهجون نهجًا باطنًا يتمثل في تأويل شعائر الشريعة وأحكامها تأويلًا باطنيًا يخرجها عن مفهومها الشرعي، وينتهي إلى التحلل منها، وعدم القيام بواجباتها، والتظاهر بأن لألفاظ الشرع حقائق يعرفونها هم وحدهم من دون غيرهم، وهذا ما ينطبق على الصوم، إذ يفسره بعضهم بأنه كتمان أسرارهم، وأنه عبارة عن ذكر اسم ثلاثين رجلًا واسم ثلاثين امرأة معروفة لديهم.

ومع ذلك، فهناك من النصيرية من يصم، لكنه يخالف المسلمين في أداء هذه الفريضة، إذ يصوم بعضهم قبل صلاة الفجر ويفطر قبل غروب الشمس. ويضيف بعضهم إلى الصوم البعد عن معاشرة النساء طوال الشهر، ويقولون إن كل ساعة صوم هي لملك من الملائكة المقربين المذكورين في القرآن.

غير أن فريقًا من النصيرية يفسر الصوم على أنه «صون»، أي الامتناع عن النساء طوال شهر رمضان، وليس الامتناع عن الطعام والشراب وما شاكلهما.

الدروز: لم يعد يُوجد صيام

الدروز كالنصيرية، من الفرق الباطنية التي انشقت عن الإسماعيلية، لكنها لم تخالفها في جوهرها، وهو التأويل الباطني، ويقيم أتباعها في مناطق عديدة من بلاد الشام، منها الشوف بلبنان، وقسم آخر في جبل الدروز جنوب سوريا، وكذلك هضبة الجولان، وآخرون يقيمون في شمال فلسطين.

وبحسب «جلي»، يستمد الدروز عقائدهم من 111 رسالة أطلقوا عليها «رسائل الحكمة»، وهي منسوبة إلى أئمتهم كحمزة بن علي والمقتني بهاء الدين وغيرهم، وأصبحت هذه الرسائل بالنسبة لهم بعد غيبة هؤلاء الأئمة ناسخة للشريعة الإسلامية وقائمة بالأمر والنهي والتحليل والتحريم.

وما دام الشرائع كلها قد نُسخت فإن تكاليفها قد سقطت عند الدروز، ومن ثم لا يوجد صيام، وهذا ما أوضحه حمزة بن علي في إحدى رسائله، إذ ذكر أن الحاكم بأمر الله نفسه الذي يؤلهونه نقض سائر أركان الإسلام بما فيها الصوم، والذي خرجوا به عن معناه وأوجدوا له معنى آخر بعيدًا عن الامتناع عن الطعام والشراب، وهو صيانة القلب وهذا لن يتحقق إلا بتوحيد الحاكم.

ويذكر «الخطيب» في كتابه، أن حمزة أعلن إسقاط أركان الإسلام الخمسة، وألزم أتباعه بدلها سبع خصال توحيدية تغني عن الصلاة والصوم والزكاة والحج والجهاد، وكانت خصلة ترك عبادة العدم والبهتان عوض الصيام.

ورغم أن الدروز لا يجيزون صوم شهر رمضان، لأن حمزة أسقطه عنهم، لكونه من فرائض الإسلام، فإنهم يصومون في أيام خاصة، وهي التسعة أيام الأولى من شهر ذي الحجة، وصيامهم هو نفس الصيام الإسلامي من امتناع عن الأكل والشرب، ويبيحون أيضًا الصوم في أي شهر غير شهر رمضان، وعيدهم الأكبر والوحيد هو عيد الأضحى فقط.