تميزت الفترة ما بين عامي 1949 و1969، بظهور عدد من التنظيمات الفلسطينية، المنتشرة على امتداد الساحة العربية، ومن بين هذه التنظيمات وعشرات المُقاوِمين، بدا أن المجموعة المؤسِّسة لحركة «فتح» قد التقطت الموقف الصحيح؛ فتفوقت على ما عداها من الأحزاب والحركات الفلسطينية. وللمبادرة هنا أهمية خاصة، في اكتساب الشعبية، لمن حاز قصب السبَق، في قضية لها أهمية القضية الفلسطينية.

لذلك، لم يكن مُستهجنًا أن يتولى الإسرائيليون اغتيال أولئك المبادرين، عدا من انسحب منهم مبكرًا، لأسباب شتى. ومن هنا تنبع أهمية دراسة حركة «فتح» في مختلف مراحل تطورها، وتنبع أهمية كتاب «فتح من البندقية إلى السرداب»، تحرير الكاتب والمؤرخ الفلسطيني «عبد القادر ياسين»، والذي صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2019.

تأسيس حركة فتح: الملابسات والالتباسات

اختلفت الروايات حول التوقيت الذي تأسست فيه حركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح»، فثمة منْ حدَّد التأسيس في خريف 1954، وهو العام الذي تأسست فيه (كتيبة الحق، وشباب الثأر)؛ والذي اعتبرهما البعض نواة تأسيس الحركة.

فعندما أفلت فرع «الإخوان» في قطاع غزة من الضربة التي وجّهها النظام المصري للإخوان في مصر، لجأ إخوان غزة إلى العمل السري؛ بعد أن كان هذا الفرع يستند على النظام المصري في إستراتيجيته لتحرير الأراضي الفلسطينية المحتلة. فتشكّلت مجموعتا «شباب الثأر» و«كتيبة الحق». ترأس الأولى، كمال عدوان، وقاد الثانية كلٌ من سليم الزعنون وخليل الوزير، وهم سيصبحون من أهم قادة فتح التاريخيين فيما بعد.

التحول المركزي وقع في يوليو/تموز 1957، حينما قدّم «خليل الوزير»؛ أحد أهم كوادر “الإخوان” في قطاع غزة، مذكرة إلى المسئول الأول عن الجماعة في القطاع -آنذاك- «هاني بسيسو»؛ وفيها ألحَّ الوزير على أن تتخذ الجماعة لنفسها لافتة حركة وطنية عامة، تضع «تحرير فلسطين» هدفًا لها؛ وبذا تفلت من التأثير السلبي عليها من الشحن الإعلامي، والتضييق الأمني الرسمي المصري ضدها.

سلَّم بسيسو المذكرة إلى قيادي آخر في الجماعة، هو «عبد الله أبو عزَّة»؛ الذي ركن المذكرة، لانشغاله بتقديم امتحان الثانوية العامة. وحين انتهى من هذا الامتحان، كان قد نسي تلك المذكرة، جملةً وتفصيلًا.

ولكن ما هي إلا بضعة أسابيع، حتى بدأ أنصار دعوة الوزير نشاطًا محمومًا في صفوف «الإخوان»، وثمة من اقتنع بدعوتهم تلك. وحفلت السنوات اللاحقة بضغوط ممّن اقتنعوا بالدعوة الجديدة، مارسها الفلسطينيون العاملون في الخليج على عناصر «الإخوان»، وهي ضغوط وصلت إلى درجة طرد منْ رفض الاستجابة لتلك الدعوة من عمله، وملاحقته في لقمة عيشه.

وفي خريف 1958، كانت بداية التأسيس الحقيقي، حيث التقى خمسة زملاء في الكويت، وهم؛ خليل الوزير، وعادل عبد الكريم ياسين، وعبد الله الدنَّان، ويوسف عميرة، وتوفيق شديد، وبدؤوا، مطلع عام 1959، الخطوات التحضيرية لانطلاق المشروع.

وضع الأربعة– بعد أن اكتفى «شديد» بحضور الجلسة الأولى– «بيان حركتنا»، والذي كان بمثابة البرنامج السياسي للحركة؛ ثم كتبوا «هيكل البناء الثوري»، وكان بمثابة نظامها الداخلي. وطلب المؤسسون من «توفيق خوري»، من لبنان، إصدار مجلة شهرية، باسم المشروع؛ فكانت «فلسطيننا – نداء الحياة»، وظلت تصدر، حتى نهاية العام 1964. وتم توقيع افتتاحية كل عدد باسم «فتح». وحار الناس في فهم الاسم، ولم يعرفوا بأنه اختصار مقلوب لـ«حركة التحرير الوطني الفلسطيني»، لأنه لم يكن مُستساغًا أن تحمل حركة تحرر وطني اسم «حتف».

هناك فريق يعتبر أن تاريخ أكتوبر/تشرين الأول 1963، هو التأسيس الحقيقي لحركة فتح، وهو تاريخ أول اجتماع لـ «لمع» (الاسم المختصر للجنة المركزية العليا في «فتح»، حيث التقوا سرًا في الكويت. بينما يؤكد فريق آخر أن التأسيس الحقيقي يرتبط بتاريخ الأول من يناير/كانون الثاني 1965، حيث كانت أول عملية فدائية لفتح.

أحد قدامى قادة «فتح» قدَّم تفسيرًا منطقيًا لهذا التعدُّد في التأريخ لتأسيس الحركة، حيث قال إن كل منْ انتمى مبكرًا لفتح، اعتبر تاريخ انتمائه هو تاريخ التأسيس. وفي اعتقاد محرر الكتاب (الأستاذ عبد القادر ياسين) أن كلًا من التواريخ الخمسة صحيح، بدرجة ما، أو هي -على أقل تقدير- تُكمِّل بعضها بعضًا، ففي خريف 1954، طرأت الفكرة على رؤوس الروَّاد؛ وفي صيف 1957، اقتربت ملامح الفكرة من الاكتمال؛ وبعد ما يربو على العام الواحد، تم وضع حجر أساس المشروع؛ وفي مطلع 1959، توفرت الوثائق الأساسية للحركة الوليدة، كما تحركت الماكينة الإعلامية لها؛ لتعقد بعدها قيادة الحركة أول اجتماع لها، خريف 1963؛ وبعد أن اكتمل المخاض الصعب، اندفعت الطلقة الأولى في المقاومة الفلسطينية الراهنة.

من خاصرة الضعف العربي: هكذا وُلدت «فتح»

أحدث فشل الوحدة المصرية–السورية في خريف 1961، شرخًا واسعًا في الجدار العربي الرسمي، كما أن المنافسة، التي احتدمت بين القاهرة ودمشق في ربيع 1963، قد سمحت للشعب الفلسطيني بتوظيف التناقضات العربية لصالح قضيته. لذا، رأينا دمشق تحتضن الأعمال الفدائية الفلسطينية، لفتح، في منتصف الستينيات. وذلك الدعم منح «فتح» قاعدة آمنة، وزوّدها بالمساندة العملية التي تحتاجها للانطلاق. وقد جاء السلوك السوري -بالأساس- رغبةً في إحراج عبد الناصر، الخصم اللدود لـ «نزهة المغامرات العسكرية».

صعدت «فتح»، في الوقت الذي ظهرت في «منظمة التحرير الفلسطينية» إلى الوجود، على يد الجامعة العربية عام 1964. ولعل الصراع بين الكتلة العربية، التي كانت تقودها مصر، وبين تلك التي ترأّستها السعودية، لعب دورًا في تلك الظروف، بالإضافة إلى الأسلوب المقاتل لفتح، وتأكيدها على الشخصية الفلسطينية المستقلة عن الأنظمة العربية، ولهجتها الثورية. كل هذه العوامل صاغت مرحلة جديدة لنضال الشعب الفلسطيني.

اكتسبت حركة «فتح» السرية تماسكًا، شيئًا فشيئًا، حيث أتت المساعدة التسليحية الأولى من الجزائر، والتي تماهت معركة استقلالها من الاحتلال الفرنسي بمعركة فلسطين. وقد أقام «خليل الوزير»، مكتبًا لفلسطين في الجزائر العاصمة، ومن خلال الجزائريين، التقت «فتح» مع تشي جيفارا، الذي وعد بمساعدة كوبية. وفي مارس/آذار 1964، دُعي عرفات والوزير إلى زيارة الصين.

واصلت «فتح» تطورها، بفضل المساعدة السورية. كما أنها تمتعت بالدعم النشط من جانب الجزائر والعراق، حينما حلَّ «عبد الرحمن عارف»، محل أخيه «عبد السلام عارف»، الذي لقي مصرعه في حادث طائرة عمودية؛ وقدمت السعودية كذلك لفتح مساعدات مالية، حيث أظهر الملك فيصل، عند استقباله لأبي جهاد، في جنيف، حسن الترحيب بحركة «فتح»، وأنه يؤمن، كما آمن والده، بأن تحرير فلسطين لا يمكن أن يتم إلا على يد أبنائها، وأنه يؤيد حصول الفلسطينيين على الوسائل، المالية وغير المالية، لمواصلة كفاحهم.

وفي الوقت الذي حشد العدو الصهيوني قواته، على الضفة الغربية لنهر الأردن، في سبيل إنهاء المقاومة الفلسطينية، اندلعت معركة الكرامة، في 21 مارس/آذار 1968، والتي عزّزت من نفوذ «فتح»، على الساحتين، الفلسطينية والعربية.

وفي خطابه أمام مجلس الأمة المصري، أشاد عبد الناصر بالعمل الفدائي، حين وصفه بـ «الرائع»، وأثنى على مواقف المنظمات الفدائية، برفضها قرار مجلس الأمن 242، وقال إنها أبرزت حقيقة وجود كيان فلسطيني، وأن دورها إيجابي، لاستنزاف العدو. وكان هذا بداية دعم مادي وبشري وإعلامي مصري، لم تكن تحلم به الحركة من قبل؛ وتعملق العمل الفدائي، وشبَّت «فتح» عن الطوق، وبدأت مرحلة جديدة في مسيرتها.

«فتح» والتسوية

ما كان لفصيل فدائي، في أي حركة تحرر وطني، أن يبدأ نشاطه بإعلان قبوله التسوية مع عدوه؛ وإلا فقد ذاك الفصيل مُبرر وجوده، بل مبرر ولادته من الأساس، وربما كان على الفصيل المعني الانتظار، إلى أن يحقق حضورًا في ميدان القتال، ومن ثَمَّ استحداث توازن إستراتيجي مع العدو، قبل التفوُّق الإستراتيجي عليه، حتى يُعلن ذاك الفصيل استعداده للتفاوض، ولتسوية الصراع.

بدأت «فتح» مسيرتها بالتأكيد على أن الكفاح المسلح، وحده، هو طريقها لتحرير فلسطين، لكن هذا التأكيد لم يستمر طويلاً، وحدث التغير الدراماتيكي.

فرغم تركيز «فتح» على الكفاح المسلح، إلا أنها كانت -من وقت مبكر- تتطلُّع إلى مسار التسوية. وهنا يذكر الأستاذ «عبد القادر ياسين» على لسان «قائد فتحاوي» ما يؤكد هذه الفرضية، حيث يقول هذا القائد:

خاض قادة التيار الرئيسي في «منظمة التحرير الفلسطينية»، وبشكل خاص ياسر عرفات، نضالاً صعبًا وطويلاً من أجل تهيئة الأرض، للوصول إلى حل سياسي، عن طريق التفاوض مع إسرائيل… ومنذ عام 1968 –أُكرر 1968– بدأ ياسر عرفات، وزملاؤه الأساسيون في «فتح»، في استيعاب الواقع… أي الحاجة إلى حل سياسي إنساني لنزاعنا مع إسرائيل.

وانتقل القائد الفتحاوي إلى الحديث عن حقبة «مطلع تسعينيات القرن العشرين»، فقال:

نحن، الآن، في مركز يسمح لنا بالوصول إلى حل سياسي، عن طريق التفاوض، لأنّنا عملنا من أجله، وحصلنا على دعم الأكثرية لنا.

أما تصوُّر ذلك القائد لنتيجة المفاوضات، فكان:

أولًا الاعتراف بإسرائيل… وثانيًا الاعتراف بالدولة الفلسطينية.

بينما أعاد قائد فتحاوي آخر ميل بعض قادة «فتح» للتسوية، إلى هزيمة 1967، حيث رأت «فتح» -حينئذ- أن ثمة فرصة ذهبية أُتيحت لها، للإفلات من السيطرة الرسمية العربية، فهزيمة 1967 أضعفت قدرة القمع الرسمي العربية، ورأى قادة من «فتح»، منهم: خالد الحسن، وفاروق القدومي، وكمال عدوان، أن 1967 كانت فرصة «فتح» لتأسيس «كيان فلسطيني مستقل».

ونجد أنه بعد أن تولت «فتح» زمام القيادة في «منظمة التحرير الفلسطينية»، تبنت شعار «الدولة الديمقراطية» لكافة الأديان والطوائف في فلسطين؛ وشعرت «فتح» بأنها أصبحت جزءًا أصيلًا من النظام السياسي العربي، فغدا سعيها على غرار سعي باقي الدول العربية؛ ذلك أن احتكاك «فتح» المبكر باليسار الأوروبي، اضطر الأولى إلى تبني شعار «فلسطين الديمقراطية»، والتي تتسع لكل مواطنيها، وذلك منذ مطلع العام 1969.

لم تستمر الفترة الذهبية للكفاح المسلح في «فتح» طويلاً، حيث أتت مرحلة الصدامات ثم التغيرات في التوجهات الإقليمية، والتي كان لها تأثير ملحوظ على سياسات «فتح»؛ حيث قبلت مصر مشروع «روجرز» للتسوية (صيف 1970)، ومن قبله قرار مجلس الأمن الدولي 242 (خريف 1967)، الذي يتناقض مع حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته على أرض 1948، ويعتبر شعب فلسطين مجرد مجموعة من اللاجئين؛ ثم كان حديث الرئيس المصري، جمال عبد الناصر، في الإسكندرية، مع قيادات «فتح»، صيف 1970، على ضرورة اتباع سياسات واقعية، وأن دويلة في الضفة الغربية وقطاع غزة خيرٌ من لا شيء.

وقد تجلى ميل «فتح» للتسوية، في حماسها لبرنامج «النقاط العشر»، الذي أقرّته الدورة الـ 12 للمجلس الوطني الفلسطيني (في 9 يونيو/حزيران 1974)، والتي حصلت «فتح» ومنظمة التحرير، بفضله، على اعتراف من القمة العربية السادسة، المنعقدة في الرباط (في أكتوبر/تشرين الأول 1974)، بمنظمة التحرير ممثلاً شرعيًا ووحيدًا للشعب الفلسطيني، ثم على اعتراف دولي من الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث حصلت هناك المنظمة على لقب «عضو مراقب».

إن برنامج «النقاط العشرة» فتح المجال أمام القيادة الفلسطينية، للقيام بالاتصالات اللازمة، في سبيل تحقيق هذه التسوية، وهو ما عبَّر عنه البند العاشر في البرنامج المذكور: «تضع قيادة الثورة التكتيك، الذي يخدم، ويمكّن من تحقيق هذا البرنامج»، وتعني كلمة «تكتيك» هنا الاتصال، وهو جوهر الموضوع، الذي أرادته القيادة الفلسطينية.

فتح وحماس: جذور الأزمة وخلل البدايات

تُمثل العلاقة بين حركتيْ فتح وحماس -وهما أكبر فصيليْن للمقاومة الفلسطينية- إحدى المعضلات السياسية الكبيرة في تاريخ القضية الفلسطينية، والتي يمكن القول، بأنها تمثل تهديدًا حيويًا، ومباشرًا على قضية الشعب الفلسطيني، ومستقبله، لا يقل عن خطر العدو الصهيوني.

وقد أفزرت تلك العلاقة، في وضعيتها الراهنة، انقسامًا حادًا، على كافة المستويات (السياسية، والاجتماعية، والجغرافية، والديموغرافية، والمؤسسية)، في مقابل إعطاء حالة نموذجية، ومناخ ملائم للعدو الصهيوني، لكي يواجه أعداءً متفرقين، وأصحاب قضية منقسمين؛ يُضاف إلى ذلك، أن الغالبية العظمى من محاولات رأب الصدع، كانت قصيرة العمر، وهشَّة، في محتواها، واصطدمت بجدار عدم الثقة بين الطرفيْن.

وغالبًا ما يتردد السؤال حول حقيقة هذه العلاقة المأزومة، والمستعصية على الاستواء، من حيث العمق، والخلفيات، والأبعاد.

من الأمور التي تستدعي النظر والانتباه لتاريخ الحركتيْن، أن خط النشأة والتطور لكل منهما يحمل قدرًا كبيرًا من المفارقات والتباينات، فضلًا عن نوع من التعارض، بين البدايات، والمآلات. فقد نشأت «فتح» من أحد أضلاع الإخوان المسلمين، على يد مجموعة من المؤسسين، أبرزهم خليل الوزير (أبو جهاد)، مسئول شباب الإخوان بغزة، كما ذكرنا من قبل.

هذا يعني أن الحركة بدأت بملامح إخوانية (إسلامية)، ولكنها تدثَّرت بأردية وأغطية وطنية، كنوع من التكيُّف مع الظروف الضاغطة، والاستجابة لقيود ومعطيات الواقع، آنذاك.

ولكن الملاحظ، بعد ذلك، أن تلك الملامح الإخوانية الإسلامية قد ذابت، تمامًا، واندثرت بالكلية في منهجية وفكر «فتح»، وسلوكها السياسي والتنظيمي، الأمر الذي يمكن تفسيره، بأن «فتح»، من جهة أولى، هي نتاج تطور في أزمة الإخوان المسلمين، في منتصف القرن العشرين، ولكنها، من جهة أخرى، شكّلت قطيعة تاريخية مع تراث الإخوان المسلمين التقليدي، وتنظيمهم الديني.

وهنا، يمكن أن نضع أيدينا على أحد جذور أزمة العلاقات بين فتح وحماس، وهو موقع وقيمة الكفاح المسلح لدى كلا الحركتيْن؛ فالكفاح المسلح لدى قيادات «فتح»، لم يكن مبدأ أو عقيدة دينية أو سياسية، ولكنه كان مجرد أداة أو وسيلة، يمكن تغييرها، أو التخلي عنها، عند تغير الظروف، أو حدوث تحوُّلات، وتقلبات سياسية إقليمية أو دولية، وهو ما حدث، بالفعل.

وفي المقابل، فإن الكفاح المسلح لدى «حماس» يعني الجهاد، والجهاد مبدأ ومعتقد ديني، وليس مجرد تكتيك أو وسيلة قابلة للأخذ والترك.

هذا هو الفارق في استخدام الحركتين للكفاح المسلح، وهو، أيضًا، أحد أهم ملامح أزمة العلاقات بينهما، حيث يتبنى طرف الجهاد لتحرير الأرض، ويعتبرها الوسيلة الوحيدة لحل القضية الفلسطينية (حماس)، بينما يرفض الطرف الآخر ذلك، ويعتبره مجرد عبث (فتح).

لذلك، يُحسب للقيادات التاريخية لدى كلا الحركتين، الزعيم ياسر عرفات، والشيخ أحمد ياسين، في أثناء وجودهما على الساحة، سيطرتهما على الأوضاع، وتوفر درجة من التفهم لموقف كل طرف، فالشيخ أحمد ياسين، كان يدرك الواقعية والبراغماتية السياسية لدى ياسر عرفات، ومدى الضغوط والقيود المحيطة به، وأن هذا مجرد تكتيك سياسي لمواجهة مرحلة تاريخية معينة. في المقابل، فإن الراحل عرفات كان يدرك ويفهم منطلقات مواقف حماس، ولطالما وظّفها سياسيًا بشكل غير مباشر، كورقة ضغط على السلطات الإسرائيلية.

في هذا الإطار، تعامل كل منهما مع الآخر بمنطق الرشد والوعي السياسي، فلما اختفت القيادتان، لم تستطع القيادات التالية لهما في الحركتين، ضبط الأوضاع والسيطرة عليها، على نحو ما حدث من فتنة وإراقة للدم الفلسطيني، خلال الفترة 2006 /2007.

وعند التدقيق أكثر في طبيعة الخلاف، أو الصراع الدائر حاليًا بين الفصيليْن الكبيريْن، نجد أنه من الصعب التسليم بأنه صراع أيديولوجي بشكل مطلق، لأن «فتح» حركة بلا أيديولوجية واضحة، وتضم تيارات مختلفة، في حين أن «حماس» لديها أيديولوجية إسلامية.

لذلك، يمكن القول إن هذا الصراع هو تصادم مناهج؛ فقبول «فتح» ومنظمة التحرير لمسار التسوية كان نقطة الافتراق، واللغم الذي فجًّر العلاقات بين الحركتيْن، وهو الذي أدخل مسار العلاقات بينهما إلى مرحلة الأزمة، وانعدام الوفاق. أما مرحلة الذروة، فقد حدثت مع تصادم المصالح، وتعارضها، وذلك بعد فوز «حماس» في الانتخابات التشريعية عام 2006، وتوليها السلطة بعدها وحتى 2007.

حينئذ، وجدت «فتح» أن البساط يُسحَب من تحت قدميها، وأنها ستفقد ما اكتسبته وتعوّدت عليه طويلاً، فلم تتعاون مع «حماس» في السلطة، وحاكت المؤامرات ووضعت العراقيل ضدها، وفشلت محاولات الحوار والتهدئة بين الطرفيْن، مما أوصل الأمور إلى المواجهة المسلحة الدامية بمسئولية سياسية وتاريخية على الطرفيْن.

استكمالاً لهذا النظر والتحليل، ثمة ملاحظة جديرة بالنظر والتفكير، وهي أن عملية التسوية والتفاوض السلمي تحولت لدى «فتح»، في مرحلة ما بعد عرفات، إلى فكرة ثابتة ومعتقد سياسي راسخ؛ فكان الراحل عرفات يأخذ بعملية التفاوض كتكتيك وواقعية سياسية، وليس كمعتقد سياسي. أما أن تتحول هذه العملية إلى عقيدة سياسية لدى الذين جاءوا بعده، فهو أمر بالغ الخطورة، حيث رفع من وتيرة الخلافات، وأسهم، بشكل كبير، في انقسام الشعب الفلسطيني.