لو لم تُولد حركة فتح كما وُلدت، كان الشعب الفلسطيني سيُولِد حركة فتح بغض عن الأشخاص، لكن الفكرة كانت ضرورة حتمية.
صخر حبش – حركة فتح.

هنالك ضرورات تاريخية تحتم على الشعوب خلق حركات سياسية واجتماعية لتصبح هذه الحركات فعالة وقادرة على مجابهة الواقع، حيث تصير نموذجًا لتمثيل المعاناة وألم الناس وبذلك تخلق فعلاً إيجابياً يعكس تطلعاتهم، بعيداً عن سلبية التلقي، وانتظار «ماذا سوف يحدث».

تاريخ التأسيس

كانت بذور تأسيس حركة فتح تجول في ذهن مؤسسيها الأوائل قبل تاريخ انطلاقتها بكثير، وتحديداً منذ النكبة، وذلك بسبب هزيمة الجيوش العربية، فأدرك المؤسسون أهمية وجود حركة فلسطينية تضم قدراتهم وتستطيع مجابهة العدو من دون هيمنة الأنظمة العربية.

لكن الحدث الرئيس لتأسيس حركة فتح أرجعه القيادي «خليل الوزير» (أبو جهاد) إلى فترة العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، حيث اُحتل قطاع غزة الواقع تحت الإدارة المصرية، وكان الهدف تشكيل بؤرة مساندة لمجموعات المقاومة الشعبية في غزة، ثم تأسست بعد ذلك خلايا سرية في كل من سوريا ولبنان والأردن ودول الخليج العربي وجرى أول لقاء لهم عام 1957 في الكويت بقيادة ياسر عرفات، وفي عام 1959 استمرت الحركة بالعمل السري، وفي عام 1960 وجّهت الحركة عدة مطالب لجامعة الدول العربية تلخصت بضرورة وجود كيان فلسطيني يتحدث باسم الشعب ويحافظ على استقلاليته، وطالبت الحركة بالدعم المالي والعسكري لها.

وفي خريف 1964، عُقد في الكويت اجتماع من أجل نقاش قضية بداية العمل العسكري المنظم، وفي الأول من يناير/كانون الثاني عام 1965 تم الإعلان عن انطلاق حركة فتح، وذلك من خلال بيان عسكري تحت اسم «العاصفة».

فكر الحركة

أكدت الحركة ضرورة التخلي عن العقيدة الفكرية والاجتماعية والسياسية كشرط للانضمام إليها، باعتبارها أموراً غير مطلوبة وغير لازمة في مرحلة النضال لأجل تحرير الأرض.
سعيد خليل المسحال – من كتاب «ضياع أمة». [1]

هذه النقطة المهمة تشرح لنا أيديولوجية حركة فتح (أيديولوجيا اللا أيديولوجيا)، ورغم ذلك نجد أن البعض يُصنِّف فتح على أنها يمينية وطنية/محافظة (ليست إسلامية)، فطيلة قيادة الحركة لمنظمة التحرير تم وصفها من قِبل الحركات الأخرى في المنظمة (والتي كانت يسارية) بأنها يمينية، كما تم وصفها بأنها علمانية، وبراغماتية. ولكن الحركة التي أسسها شباب منتمون للإخوان المسلمين احتوت ببدايتها كل أطياف الفكر العربي التي كانت موجودة في تلك الفترة من قوميين ويساريين وشيوعيين وإسلاميين، وعلى رأسهم الشيخ «مروان حديد» أحد أهم رموز الإخوان في سوريا، والذي تسبب مقتله فيما بعد بأحداث حماة دموية. كما ضمت الحركة يساريين من حملة الفكر ماركسي، ومنهم نزيه أبو نضال «غطاس صويص».

فقد بدت الحركة جامعة لكل المرجعيات لصالح الهدف، وكان التركيز في البداية على الهدف الذي تأسست لأجله الحركة، وهو تحرير فلسطين التاريخية والقضاء على إٍسرائيل وعودة اللاجئين، وتم التركيز على الهوية الوطنية الفلسطينية، فقال ياسر عرفات في حديث له مع مجلة «شؤون فلسطينية»:

بدأت الحركة باسم حتف، وهي تعني الموت أو شهادة، ثم قُلب إلى فتح، ليصبح له مدلول النصر.

إذن «النصر» هو هدف تأسيس الحركة، إلا أن «فكرها» تغير وفقاً لبراغماتية الحركة والأحداث التاريخية التي مرت بها.

مع انطلاقة الحركة عام 1965 ركزت على أهمية أن يقود الفلسطينيين مشهد القضية، واستخدمت في تلك الفترة عبارات «الكفاح المسلح» و«حرب الثأر» و«الثورة»، معتبرة ذاك الأمر هو الطريق الصحيح لتحرير فلسطين.

وبعد هزيمة الجيوش العربية في 1967 كانت الخيبة التي تسيطر على الشعوب العربية دافعاً لحركة فتح لاستلام زمام المبادرة للعمل العسكري، وتُوج هذا العمل بانتصار الفدائيين بمساعدة الجيش الأردني في معركة الكرامة، وأدى هذا الانتصار إلى ازدياد تمسك الحركة بفكرة الكفاح المسلح وبناء دولة ديمقراطية على كامل أرض فلسطين، يعيش فيها العرب واليهود بعد القضاء على الكيان الصهيوني.

بعد أيلول الأسود (1970)، زاد انفصال فكر الحركة عن فكرة العروبة، وزاد تركيزها على فكرة استقلالية الشخصية الفلسطينية. وبعد حرب 1973 والتي قال السادات عنها إنها «آخر حروب مصر مع إسرائيل»، أيّدت الحركة أهمية وجود كيان فلسطيني في الضفة وغزة لإقامة سلطة وطنية، وهنا أُضيف إلى أدبيات الحركة الخيار السياسي، ولكن بشرط ألّا صلح ولا اعتراف ولا تنازل عن الحق التاريخي، واعتبرت أن الكفاح المسلح ليس هو الطريق الوحيد للتحرير، وإنما هو الأداة الرئيسية لذلك.

وفي عام 1974 ظهرت النقاط العشر، وقد أبدت الحركة فيها رغبتها في إقامة سلطة فلسطينية وطنية على أية قطعة من الأراضي الفلسطينية التي يتم تحريرها أو يجلو عنها الاحتلال بأي طريقة كانت، وظل الأمر كذلك حتى بعد إعلان اتفاقية كامب ديفيد.

خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وفي عام 1982 ظهر مشروع «ريغان»، الذي كان يتحدث عن حكم ذاتي فلسطيني، وهو ما رفضته الحركة، ليعلن بعدها الأمير فهد عن مبادرته والتي جمعت بين الاعتراف الضمني «غير المصرح به» بإسرائيل، وإقامة دولة فلسطينية في الضفة وغزة، ولم تستبعد الحركة خيار الوحدة الكونفدرالية مع الأردن، لكن رفضت فصائل المنظمة ذلك الخيار.

في عام 1987 حصلت أول مواجهة فلسطينية شعبية ضخمة للاحتلال الإسرائيلي بعيداً عن منظمة التحرير وحركة فتح، فرأت الحركة أنه يجب استغلال هذا الحراك لتكون ورقة ضغط لتحقيق مشروع السلطة، فأرادت فتح أن تكون هذه الانتفاضة طويلة الأمد، وخلال الانتفاضة رفضت الحركة تشكيل حكومة في المنفى. وفي عام 1988 تم إعلان وثيقة الاستقلال، وحمل الإعلان موافقة حركة فتح على قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بتقسيم فلسطين (181، و242، و338).

إلا أن استخدام الانتفاضة كورقة ضغط سياسية بدأ بالخفوت، وذلك بسبب ظهور حدث خطف أنظار العالم وهو حرب الخليج الثانية، حيث غُيبت القضية عن الساحة العربية والدولية، كما تعقد موقف الحركة بسبب موقفها المؤيد لـ «صدام حسين»، ناهيك عن أن انهيار الاتحاد السوفييتي وتفرد أمريكا بقيادة العالم أعطى مُبرراً لإسرائيل باغتيال عدد من قيادات الحركة، ومنهم «صلاح خلف».

أدت كل هذه التغييرات إلى دفع الحركة إلى توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993 والاعتراف بإسرائيل وتأسيس السلطة الفلسطينية، وفي هذه المرحلة أصبح غصن زيتون بديلاً عن البندقية.

وفي انتفاضة عام 2000، أعادت الحركة خيار الكفاح المسلح إلى الواجهة، لكن هذا الخيار انتهى بعد وفاة الرئيس ياسر عرفات عام 2004.

وبعد تسلم الرئيس محمود عباس رئاسة السلطة عاد خيار المفاوضات السياسية كخيار أوحد، فشخصية محمود عباس كانت تدعو للحل السياسي منذ عام 1969، وهنا تراجعت فكرة الصراع لصالح تنسيق العلاقات مع الكيان الصهيوني. [2] وبهذا ذهبت فكرة النقاء الثوري لتُحبَس في فكرة السلطة وتعقيداتها.

علاقة الحركة بالأنظمة العربية

من المبادئ التي تأسست حركة فتح عليها: «الاستقلال المطلق لتنظيم وصون القرار الفلسطيني عن الحكومات العربية»، رفضت فتح في بداية تأسيسها أي تدخل عربي في شئونها أو في عملها وشككت الحركة في أي جهة فلسطينية تربطها علاقات بالأنظمة العربية وعلى رأسها المنظمة التي ترأستها الحركة طيلة 52 عاماً.
يزيد صايغ، من كتاب «الكفاح المسلح والبحث عن الدولة». [3]

بدأت فكرة منظمة التحرير بالتبلور في عام 1959، حين قدّم جمال عبد الناصر ورقة لجامعة العربية في القاهرة لعمل تنظيم الهدف منه تمثيل الشعب الفلسطيني.

في البداية رحّبت حركة فتح بإنشاء المنظمة لكنها كانت متوجسة منها، حتى أن تاريخ انطلاق الحركة في الأول من يناير لعام 1965 كان مستعجلاً بسبب تأسيس منظمة التحرير [4]، حيث فشلت المفاوضات بين أعضاء الحركة ورئيس منظمة التحرير «أحمد الشقيري» في عام 1964. وقال محمود عباس في موقف فتح من المنظمة عند تأسيسها:

إن موقف حركة فتح من المنظمة عند تأسيسها كانت تُحدِّده عدة عوامل واعتبارات متشابكة تندرج في نوعين متعارضين التأثر: أولهما يشتمل على الشكوك الواسعة في الدور المنوط بالمنظمة وبرئيسها أحمد الشقيري من قبل الدول العربية، وثانيها التخوف من منافسة المنظمة لها. [5]

وبعد هزيمة يونيو/حزيران 1967، ضَعُف موقف المنظمة لاعتبارها بتلك الفترة كانت تابعة للأنظمة العربية التي هُزمت، وتم النظر إلى أحمد الشقيري باعتباره شخصاً يريد الانفراد بإدارة المنظمة، فظل الخلاف قائماً بين فتح والمنظمة إلى أن استقال الشقيري. [6]

وبعد انتصار الكرامة حظيت حركة فتح بزخم جعلها قادرة على تمثيل الشعب الفلسطيني، فاستغلت هذه الفرصة، ولكن تخوَّف بعض الأعضاء من أن تتأثر الحركة ببيروقراطية المنظمة مما يضعف نقائها الثوري، وفي 1969 ترأس «ياسر عرفات» المنظمة، وبهذا سيطرت فتح على المنظمة التي رفضتها بالبداية (منظمة التحرير).

ويرى البعض أن ترأس فتح للمنظمة حوّلها من مشروع ثورة لا تريد أن تلتزم بأي قرار دولي مجحف ولا بتبعيتها للأنظمة العربية المكبلة لحرية الفعل الفلسطيني المقاوم، إلى مشروع سلطة ملتزمة بقرارات واتفاقيات مجحفة.

السادات و«البترودولار»

تَعهد دول الجامعة العربية بتقديم المساعدات المالية والعسكرية والفنية للكيان الفلسطيني الثوري.
من مطالب حركة فتح في جامعة الدول العربية – 1960. [7]

رفضت فتح تدخل الأنظمة العربية في شئونها من بداية تأسيسها ولكنها طلبت الدعم المادي، ولكن في لعبة السياسة لا يوجد تمويل دون مقابل.

ينظر الأديب الأردني «غالب هلسا» لعلاقة قيادة فتح بنظام السادات (أول منْ وقّع معاهدة سلام مع إسرائيل)، بالعلاقة الانتهازية التي فضّلت الحصول على المساعدات الغذائية والمالية على المبدأ، وأرجع ذلك للرؤية الضحلة لقيادة منظمة التحرير التي كانت تفكر في «اللحظة الآنية» دون وجود رؤية بعيدة المدى.

أما معادلة «البترودولار»، وهي أحد أهم المعادلات في الشرق الأوسط، فقد توّرطت فيها حركة فتح بسبب التمويل أيضاً، والمقصود بـ «البترودولار» هو تدفق المال من الدول الغربية إلى دول الخليج لشراء النفط وفق شروط سياسية، وهذا النشاط الاقتصادي هو عبارة عن يد عليا وتحتها يد سفلة وتحتها يد منظمة التحرير، وبالعودة إلى هلسا، يقول:

إن تيار المال السعودي والخليجي المتدفق لدعم الثورة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي خلق سياقاً جديداً داخل الثورة الفلسطينية، حيث نشأت طبقة «البيروقراطية الطفيلية» التي تعتاش على الثورة، وتشكلت طبقة جديدة من «أمراء المال وأصحاب المصالح الاقتصادية»، وأصبحت ترتبط عضوياً بمصادر التمويل النفطية. وهذه الطبقة لم يعد لها مصلحة في وضع السلاح بأيدي الفقراء الفلسطينيين وأبناء المخيمات.

وهكذا صار في إمكان الولايات المتحدة الضغط لقطع التمويل عن فتح أو المنظمة أو السلطة الفلسطينية، وهذا ما حدث خلال فترة حكم ترامب، حيث اقترن قطع الدعم الأمريكي بآخر سعودي، ولربما هذا يفسر سبب إصدار عباس قراراً بمنع انتقاد موجة التطبيع الأخيرة.

حركة فتح والشعوب العربية

لعل فشل تجربة المقاومة الفلسطينية في الأردن يكمن جذره في هذه الإقليمية الفلسطينية الفتحاوية في التعاطي مع الشارع الأردني، وما حدث لاحقاً مع الشارع اللبناني، وبالطبع أنا لا أتجاهل هذا الدور الذي لعبته القوى والأجهزة المضادة التي كانت تعمل كل شيء لحسم ازدواجية السلطة لصالحها.
نزيه أبو نضال – من كتاب «من أوراق ثورة مغدورة». [8]

يرى غالب هلسا ونزيه أبو نضال (غطاس خويص)، أن حركة فتح لم تعمل على تحييد الأنظمة العربية عن الصراع الفلسطيني كما نصت مبادئها، بل عملت على عزل الشعوب العربية من المشاركة في الصراع العربي-الصهيوني، وذلك عن طريق فلسطنة القضية وباستخدام ثنائية «الفلسطيني البطل والعربي الخائن»، كما أن الحركة استخدمت الأسلوب الذي رفضته في البداية (الالتزام بالقرار الرسمي العربي). هذا الأسلوب الذي جعل فتح تنقلب على قيادة منظمة التحرير قبل ترأُسها لها، ولكن مع الوقت أصبحت ملتزمة به.

إن الحتمية التاريخية التي انطلقت فتح منها والتي احتوت النقاء الثوري في البداية، تبددت لصالح الفكر البراغماتي والتماشي مع الواقع. حيث يقول «ويليام جيمس»، أحد مؤسسي الفكر البراغماتي: «إن أيةً فكرة صحيحة يجب أن تحاكي واقعها». فلقد كانت انطلاقة الحركة براغماتية بحكم الأمر الواقع، وهي البراغماتية التي دفعتها نحو حالة النقاء الثوري الأولى، أما عندما أصبحت حركة فتح تشكل مؤسسة وسلطة لها داعميها والتزامات سياسية، فقد تحولت البراغماتية إلى «براغماتية السلطة»، والتي تهدف إلى البقاء في السلطة، بما يشمل ذلك من تماهي حالة الانهزامية وردود الفعل السلبية، بما لا يحاكي واقع الناس وإرادتهم.

المطلوب ليس فقط إعادة إنتاج فتح جديدة وطنية، متمسكة ببرنامجها وشعاراتها ومبادئها الأساسية، وإنما المطلوب كذلك أن يتم التوجه نحو حل المأزق الذي تعيشه فتح والثورة الفلسطينية، وبدون ذلك سنظل كفلسطينيين نصرخ يا وحدنا! ونحن نراوح بين انتحار بطولي، ومساومات ذليلة، وربما بكليهما معاً.
نزيه أبو نضال – من كتاب «من أوراق ثورة مغدورة». [9]
المراجع
  1. سعيد خليل المسحال، «ضياع أمة»، العراق، مؤسسة الرافد للنشر والتوزيع، 1994، ص16.
  2. توفيق أبو بكر، «مسيرة التسوية السياسية 1977-1994»، عمان، مركز جنين للدراسات الاستراتيجية، 1998، ص38.
  3. يزيد صايغ، «الكفاح المسلح والبحث عن الدولة»، بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2002، ص155.
  4. المرجع السابق، ص177.
  5. غازي حسين، «الفكر السياسي الفلسطيني 1963-1988»، بيروت، دار رانية، 1993، ص117.
  6. صلاح خلف، «فلسطيني بلا هوية»، عمان، دار الجليل للنشر، 1996، ص83.
  7. ماهر الشريف، «البحث عن كيان: دراسة في الفكر السياسي الفلسطيني»، دار المدى للطباعة والنشر والتوزيع، ص90.
  8. نزيه أبو نضال، «من أوراق ثورة مغدورة»، دمشق، قدمس للنشر والتوزيع.
  9. المرجع السابق.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.