منذ حوالي ألفي عام، وفي غرفة «العليّة» الواقعة على جبل صهيون، اجتمع المسيح مع تلاميذه في عشائهم الأخير. ومنذ أيام قليلة احتضنت مدينة رام الله عشاءً أخيرًا جديدًا، ولكن هذه المرة لم يكن المسيح مدعوًا، بل ترأس المائدة «يهوذا الإسخريوطي»، الذي لم يكتفِ هذه المرة بالوشاية فقط، ولكنه حرّض علنًا ضد الحق، وجعل من تلاميذ المسيح أتباعًا لهواه.

لن يشنق يهوذا نفسه هذه المرة، بل سيحمل الصليب المُغمَّس بدماء مسيحه وقضيته، فيجوب به أرجاء العالم، باكيًا على وطنه السليب، الذي قام هو نفسه باغتيال أنفاسه الأخيرة في عشائه الأخير.


نظام عربي آخر عقيم

استهل مؤتمر فتح السابع أعماله بإعادة انتخاب محمود عباس أبو مازن، البالغ من العمر 81 عام، قائدًا عامًا لحركة فتح بالتزكية، ثم أعلن تعيين ثلاثة من قادة الحركة التاريخيين، وهم فاروق القدومي وأبو ماهر غنيم وسليم الزعنون، أعضاء شرف دائمين باللجنة المركزية، كما تم خلال المؤتمر انتخاب أعضاء اللجنة المركزية لفتح ومجلسها الثوري.

وقد جاءت مُخرجات هذا المؤتمر لتعبر عن تماهٍ تام بين حركة فتح والسلطة الفلسطينية، من حيث الكينونة والمصالح، حتى أنها كانت انعكاس لصراعات الحكم الدائرة بين عباس ودحلان.

وبالنظر إلى أن السلطة الفلسطينية باتت مشروعًا سياسيًا في ذاته، وليس أداة وخطوة على طريق التحرير، صارت فتح في القلب من هذا المشروع، ولم تصبح سوى تمثيلاً رديئًا لنظام عربي آخر سلطويًا، يستخدم نفس السياسات والأدوات التي تناقلتها ورسختها الأنظمة العربية الحاكمة فيما بينها. ويكفي أن نذكر التالي:

1. أظهرت نتائج انتخابات اللجنة المركزية خلال المؤتمر، احتفاظ 12 عضوًا سابقًا بمناصبهم ودخول ستة أعضاء جدد فقط، وثلاثة من الذين غادروا اللجنة المركزية السابقة من إجمالي سبعة أعضاء خسروا في المنافسة في الانتخابات، فيما توفي واحد، وفصل آخر، ولم يتقدم اثنان آخران للمنافسة، وامرأة واحدة هي «دلال سلامة» فازت بعضوية اللجنة المركزية بالانتخاب.

2. يُقدر متوسط أعمار أعضاء اللجنة المركزية الجديدة بنحو 64 عامًا، بحيث فاز عضو واحد أقل من 50 عامًا (صبري صيدم)، وآخر أكثر من ثمانين عامًا (الرئيس محمود عباس)، وأربعة أعضاء في الفئة العمرية ما بين 50 – 60 عامًا، فيما أغلبية الأعضاء (عشرة أعضاء) أعمارهم ما بين 61 – 70 عامًا، وثلاثة أعضاء ما بين 71 عامًا و80 عامًا.

3. تظهر النتائج أن 13 عضوًا هم من سكان الضفة الغربية، مقابل 4 أعضاء من قطاع غزة، فيما عضو واحد من الفلسطينيين في الشتات.

4.شارك في المؤتمر نجلا الرئيس الفلسطيني، ياسر وطارق، رغم أنه ليست لهما أي صفة قيادية أو تمثيلية في الحركة، وكأنه يتم تحضيرهم للولوج إلى عالم السياسة، لخلافة أبيهم في المواقع القيادية للحركة. وجدير بالذكر أن الكثير من تهم الفساد قد حامت حولهما؛ نظرًا لتضخم ثرواتهما المالية بشكل لافت.

فياسر يملك شركة فولكن توباكو التي تحتكر مبيعات السجائر الأمريكية بالضفة الغربية، ويرأس مجموعة فولكن القابضة، وهي شركة هندسية أسست عام 2000 ولديها مكاتب في غزة والأردن وقطر والإمارات والضفة الغربية، كما يشغل أيضًا منصب المدير الإداري لشركة فيرست أوبشين كونستركشن مانيجمنت التي تقوم بتنفيذ مشاريع أعمال محلية مثل الطرق وإنشاء المدارس باسم السلطة الفلسطينية، وتستفيد الشركة من المعونات الحكومية الأمريكية، وقد حصلت الشركة على مكافآت من الوكالة الأمريكية للتنمية بنحو ثلاثمائة ألف دولار في الفترة ما بين 2005 و2008، وفق رويترز.

أما شقيقه طارق فيملك شركة سكاي أدفيرتايزينغ التي حققت عام 2010 مبيعات بقيمة 5.7 ملايين دولار، وهي شركة عملت أيضًا مع الحكومة الأمريكية، حيث تلقت عام 2009 -وفق رويترز- مساعدات تقدر بمليون دولار لدعم الرأي العام الأمريكي بالأراضي الفلسطينية.

وإجمالاً تشير التقارير أن مقدرات عائلة عباس في غزة والأردن وقطر ورام الله وتونس والإمارات تصل إلى عشرين مليون دولار.

5. ذهب الباحث الفلسطيني «ساري عرابي» في مقاله على موقع «الجزيرة» إلى أن كل شيء في المؤتمر –حتى من الناحية الشكلية– كان سلطويًا، بدايةً من مكان انعقاد المؤتمر في مقر قيادة السلطة، مرورًا بتسخير أجهزة السلطة المدنية والأمنية لخدمة المؤتمر ورعايته، وفرض مظاهر الهيبة والقوة بنشر القوات العسكرية والشرطية للسلطة داخل مدينة رام الله وعلى مداخلها، وصولاً إلى توظيف مؤسسات السلطة الإعلامية كمنبر لفتح ومؤتمرها.


رسميًا: انتهاء حركة التحرر الوطني

لم تصبح السلطة الفلسطينية سوى تمثيلاً رديئًا لنظام عربي سلطوي آخر، يستخدم نفس السياسات والأدوات التي رسختها الأنظمة العربية الحاكمة فيما بينها.
التمسك بالسلام كخيار إستراتيجي لإقامة الدولة الفلسطينية على حدود عام 1967، والقدس الشرقية عاصمتها، إلى جانب دولة إسرائيل، بأمن وسلام وحسن جوار، والتمسك بالثوابت الفلسطينية.

كان هذا جزءًا من البيان الختامي للمؤتمر الذي تلاه القيادي في فتح «عبد الله الأفرنجي»، والذي تم إقراره كبرنامج سياسي للحركة.

حيث خرج المؤتمر ليؤكد ضرورة تعزيز المقاومة الشعبية (السلمية) وتطويرها في المجالات كافة، والعمل وفقًا لخطة شاملة للتعامل مع الأخطاء التاريخية التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني بهدف تصحيحها مثل وعد بلفور وغيره، إلى جانب التشديد على محاربة الإرهاب أيًا كانت دوافعه ومصادره.

وبذلك، يُرسخ هذا المؤتمر بشكل رسمي انتهاء حركة التحرر الوطني الفلسطيني التي قادتها فتح منذ منتصف خمسينات القرن الماضي، فتحول هذا الكيان المناضل إلى مجرد كادر بيروقراطي يلتزم بتنفيذ الشروط الموضوعية التي أوجدت السلطة الفلسطينية.

فكفاح الشعب الفلسطيني ومقاومته وانتفاضاته مستمرة منذ عقود، وستستمر عبر عقود قادمة، في مواجهة المحتل الإسرائيلي، ولكن دون «فتح»، الذي قطع هذا المؤتمر أي صلة لها بالمقاومة الشعبية المسلحة، التي وصفها المؤتمر صراحةً بـ «الإرهاب».

صحيح أن التفاؤل لم يكن يسود الأجواء العربية والفلسطينية حول مخرجات هذا المؤتمر، ولكن رأى الكثير أن جنوح السلطة بعيدًا عن المقاومة، واستسلامها تمامًا للمُحتل الإسرائيلي لم يُنتج سوى سلطة حكم ضعيفة مُهلهلة غير قادرة على الصمود أمام انتقادات الرأي العام؛ لأنها لم تُنتج سوى الفشل.

ولكن توقع البعض أن عباس قد يحاول الرجوع إلى أحضان الشعب مرة أخرى خلال هذا المؤتمر، ولو بشكل صوري، كتكتيك، لمواجهة التعنت الإسرائيلي في خيار المفاوضات. ولكن، يبدو أن حتى هذا التكتيك لم يرد إلى ذهن عباس يومًا.

وفي ظل التقارير التي تسوق الأدلة على الفشل التام للسلطة الفلسطينية، وحركة فتح بالتبيعة، في قيادة المشهد الفلسطيني، قد تعمد الولايات المتحدة وإسرائيل إلى محاولة التخلص منها إلى الأبد، أو قد تنهار هي من تلقاء نفسها عما قريب. لذا، ربما يكون هذا المؤتمر الذي انتهى للتو هو عشاء «فتح» الأخير.