تشن السلطات التركية منذ الانقلاب العسكري الفاشل في عام 2016 حملة شرسة لاستئصال شأفة حركة فتح الله كولن، التي تتهمها بتدبير محاولة الانقلاب. ومع كل ذكرى جديدة لمحاولة الإطاحة بالنظام المدني في تركيا، يتجدد الحديث عن فتح الله كولن وحركته.

يقدم كتاب «حركة فتح الله كولن» لأستاذة علم الاجتماع بجامعة هيوستن، د.هيلين روز ايبو، والذي نقله للعربية الأستاذ عبدالرحمن أبوذكري، لصالح دار «تنوير للنشر والإعلام»، معلومات هامة عن كولن ونشأة حركته وتطورها ومصادر تمويلها والانتقادات الموجهة لها.

ورغم أن الكتاب صدر عام 2009، وأصدرت دار «تنوير» طبعته العربية الأولى عام 2015، فإنه أساس مهم لفهم الحركة الإسلامية الأبرز في تاريخ تركيا، بعيدًا عن صخب الدعايا، والدعايا المضادة، التي طغت على النقاشات حول الحركة منذ الانقلاب العسكري الفاشل. 

نحاول في هذا الموضوع تقديم بعض الخطوط العريضة لحياة الأستاذ فتح الله كولن وحركته، وصولًا إلى اللحظة الحالية التي يُعد فيها متهمًا هاربًا من العدالة التركية. 

الطفل الذي نشأ في صحبة الكبار 

وُلد فتح الله كولن عام 1941 في قرية زراعية صغيرة، قرب محافظة أرضروم، شرقي تركيا. ونشأ في أسرة شديدة التدين، كان والده إمام مسجد، ووالدته حافظة للقرآن، تعلمه بنات القرية.

التحق فتح الله بمدرسة ابتدائية حكومية قرب مسقط رأسه لمدة ثلاث سنوات، ثم تركها بعد أن نُقل والده للعمل في مدينة أخرى. منذ ذلك الحين، شرع كولن في تحصيل العلم خارج نظام التعليم الحكومي، وكان والده مدرسته الأولى التي تلقى منها الأركان الأساسية للإسلام إضافةً إلى بعض العربية والفارسية.

تأثر كولن كثيرًا بالبيئة الدينية التي نشأ فيها، فقد كان منزلهم وفق قوله «دار ضيافة لكل أصحاب المعرفة والسلوك الروحي في المنطقة». يقول أيضًا «خلال طفولتي وشبابي لم أجالس أقراني أو من ينتمون لنفس عمري مطلقًا، وبدلًا من ذلك كنت أصحاب دائمًا من هم أكبر مني سنًا، وأستمع إليهم يتحدثون عن شؤون العقل والقلب».

كما تأثر منذ صغره بأساتذة يحملون فكر سعيد النورسي، وهو داعية يسعى إلى التوفيق بين العلم والإسلام، يعتقد أن المسلمين لا يجب عليهم رفض الحداثة، لكن يجب عليهم استلهام النصوص المقدسة للتعامل معها. وكانت كتاباته تعيد تفسير القرآن في ضوء العلم الحديث والعقلانية.

تعرف كولن على حلقات قراءة النورسي وهو مراهق، وصار مشاركًا نشيطًا فيها. كانت هذه الحلقات عبارة عن مجالس تسمى «جماعت» وهي شكل تركي من المجموعات الإسلامية ذاتية التنظيم، التي تطورت بعد تشكيل الجمهورية العلمانية سنة 1923، وحظر الطرق الصوفية، وإلغاء المدارس الدينية. وكان الموضوع الأساسي لهذه الحلقات هو كيفية الاستجابة لمطالب العالم الحديث، بالمعرفة الإسلامية، لمواءمة الإسلام مع الحداثة.

وجنبًا إلى جنب مع دراسته للإسلام، تلقن فتح الله مبادئ العلوم الطبيعية كالفيزياء والكيمياء والأحياء، واطلع على أعمال الفلاسفة الوجوديين أمثال كامو وسارتر، وقرأ الكلاسيكيات الغربية مثل كتابات: روسو ودستويفسكي وبوشكين وداروين وتولستوي.

الداعية الشاب وتشكل الأفكار

واصل كولن تعليمه الثانوي العلماني عن طريق الامتحانات من الخارج (نظام المنازل)، وفي عام 1959، اجتاز امتحان الحكومة ليصبح إمامًا. 

كان كولن ناشطًا للغاية في مجتمعه، فقاد الرابطة التركية للنضال ضد الشيوعية في أرضروم، واشترك في استنفار الدعم الأيديولوجي ضد التهديد السياسي للإسلام الإيراني. لذلك، يمكن القول إن سنواته في أرضروم، المعروفة بأنها مُحافِظة ثقافيًا ودينيًا ومركزًا مهمًا للدفاع عن الأيديولوجية القومية التركية، كانت محورية في تشكيل قناعاته العميقة المتعلقة بالإسلام والقومية.

ابتُعث كولن إلى مدينة آدرنة التي تقع على الحدود الغربية لتركيا، حيث خدم إمام مسجدٍ لمدة أربع سنوات، وأتم خدمته العسكرية، ثم أمضى عامًا إضافيًا في مدينة قيرقلاريلي. وفي تلك السنوات صار فتح الله شديد التأثير في الشباب المتعلم والعوام، وبدأ في تنظيم محاضرات مسائية ركزت على الأخلاق في الحياة العامة والخاصة.

في عام 1966، عينت مديرية الشؤون الدينية، كولن في نوع من المدارس تسمى «كستاني بازاري»، أي سوق الكستناء، في إزمير، ثالث أكبر مدن تركيا، ليُدرِس العلوم الإسلامية، ويكون مسؤولًا عن المسجد وهيئة طلابية وقاعة للطعام والدرس في منطقة بحر إيجه.

تطورت في تلك الفترة أفكار فتح الله عن التعليم وخدمة المجتمع، ومع بداية عام 1969 راح ينظم اجتماعات في المقاهي ويحاضر في جميع محافظات وقرى بحر إيجه.

كان كولن يروج لضرورة خلق جسور بين العالم الإسلامي والغرب، جنبًا إلى جنب مع دمج المبتكرات العلمية والتكنولوجية في المجتمع المسلم المعاصر (أفكار النورسي). كما كان مؤمنًا بأنه كما لعب الأتراك دورًا دينيًا وثقافيًا حيويًا لقرون في ظل العثمانيين، فإن تركيا مؤهلة لقيادة العالم الإسلامي خلال القرنين العشرين والحادي والعشرين. وهذه دلالة على مشاعره القوية تجاه تراثه القومي وفخره بأصله التركي.

وأكد كولن أهمية التعليم، معتبرًا أن أهم المشكلات في العالم اليوم هي نقص المعرفة، والتي تتضمن إنتاج المعرفة والتحكم فيها. وحدد ثلاثة أشكال من التعليم (علمي وإنساني وديني) يعزز ويكمل أحدها الآخر، ويلزمها التفاعل سويًا لتشكيل إنسان كامل وشامل. 

وروج فتح الله إلى ضرورة تمويل المشروعات الخدمية بروح العطاء والخدمة، فبدأ منذ الأيام الأولى لحركته في حث الناس من مختلف طبقات المجتمع التركي على الخدمة التطوعية والمساهمة المالية، من أجل تعليم الشباب تعليمًا صحيحًا في مدارس عالية الجودة مما يخلق مجتمعًا أفضل.

وكان كولن دائم التأكيد على ضرورة الحوار بين الأديان والثقافات باعتباره ضرورة في عالم اليوم المفتوح. وغالبًا ما يشير في هذا السياق إلى العلاقات المتناغمة بين الأديان، التي سادت الإمبراطورية العثمانية.

أما عن علاقة الدولة والدين، ففتح الله لا يؤيد تأسيس نظام سياسي إسلامي، وينصح أتباعه باستمرار بعدم الولوغ في السياسة. رغم ذلك، يؤمن بحزم أن الدين لا يجب قصره على المجال الخاص للفرد، بل يجب أن يصير جزءًا من الحياة العامة. وهو يؤيد الفصل الكامل بين الدين والسياسة في المجتمعات الإسلامية المعاصرة. ومن وجهة نظره فإن سيطرة الدولة على الشؤون الدينية تضر بالإسلام، لذا يجب تحرير الدين من سيطرة الدولة.

كولن ينتشر ويتوغل

بدأ كولن أول مشروعاته العلمية خلال تواجده في إزمير. وبدعم من رجال أعمال محليين، نظم فتح الله معسكرات صيفية لطلاب الجامعات والمدارس الثانوية والإعدادية، وحاضر فيها عن دور الإسلام في الحياة العامة، مستحضرًا حياة النبي محمد والفترة الكلاسيكية من تاريخ الإمبراطورية العثمانية. وكان يذهب إلى أن تركيا لن تصير أمة عظيمة مرة أخرى إلا إذا عاش الناس حياة إسلامية مخلصة.

ومع بداية السبعينيات، شرع محبو كولن في تشكيل جماعات تقوم على تعاليمه، وتشبه تلك القائمة على تعاليم النورسي، التي انخرط فيها فتح الله الشاب سابقًا. وسرعان ما تكونت مجموعات محلية صغيرة تستلهم أفكار كولن وتلتقي أسبوعيًا لتكوين روابط بين أعضائها، والحديث في الدين والعمل والعائلة وقراءة كتب كولن أو سماع تسجيلاته وكذلك قراءة ورد من القرآن أو السنة النبوية. هذه المجموعات ستعرف فيما بعد بـ«حركة كولن»، وستكون تبرعاتها الممول الرئيسي للمشاريع المستلهمة من أفكاره.

كان أكثر ما جذب الناس إلى تعاليم كولن حقًا خطبه العامة ومحاضراته العلنية التي ألقاها أمام الآلاف وسجلت وبيعت في جميع أنحاء البلاد.

اعتُقل كولن بعد الانقلاب العسكري الذي وقع عام 1971 لمدة ستة أشهر دون توجيه أي اتهامات، ثم أفرج عنه بشرط ألا يلقي أي محاضرات عامة. عقب الإفراج عنه استقال فتح الله من وظيفته الرسمية في إزمير، لكنه واصل حث الممولين والآباء على تجهيز قاعات دراسية للطلاب في مختلف أنحاء منطقة بحر إيجه. واستمر في تنظيم المعسكرات الصيفية في إزمير، كما أقام بيوتًا لطلبة الجامعات للإقامة بها وتطوير شعورهم بهويتهم كمسلمين أتراك. 

وفي عام 1974، دشن كولن أولى الدورات التحضيرية للتعليم الجامعي، في محاولة لإعداد أبناء العامة الذي عاشوا في بيوت الطلبة للتعليم العالي، الذي كان مقصورًا في ذلك الحين عن أبناء العائلات الغنية. وبمرور الوقت أصبح الطلاب الذين أقاموا في بيوت الطلبة أهم المدافعين عن أفكار كولن، وعادوا إلى قراهم ومدنهم لنشر خبراتهم والحديث عن الفرص التي نالوها. 

عام 1977 في السادسة والثلاثين من عمره، كان فتح الله كولن قد عُرف على نطاق واسع بصفته أحد أكثر الدعاة تأثيرًا في تركيا. وفي تلك السنة دُعي لإلقاء خطبة الجمعة أمام رئيس الوزراء وكبار رجال الدولة في الجامع الأزرق بإسطنبول.

فتحت التعديلات الدستورية التي أُجريت في مطلع الثمانينيات الباب لمزيد من التنظيم الاجتماعي والديني، والتعبير الديني، مما أدى إلى إحياء ديني في مختلف أنحاء تركيا. ونتيجة لذلك سُجل الكثير من أحاديث كولن، ووزعت على شرائط فيديو، وبذلك ذاع خطابه الخدمي وبلغ عددًا أكبر من المتلقين. وبحلول أواخر الثمانينيات، جذبت خطبه حشودًا ضخمة من عشرات الآلاف، وهي أعداد غير مسبوقة في تركيا.

مؤسسات حركة كولن

مع مطلع الثمانينيات، وبفضل السياسات النيوليبرالية التي تبنتها الحكومة التركية، افتُتحت أول مدرستين ثانويتين تستلهمان أفكار كولن. وتبعهم تأسيس المئات من تلك المدارس، خلال العقدين التاليين، في جميع أنحاء تركيا. وبعدها في الجمهوريات التركية التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي السابق، وفي بلدان أخرى من التي ظهرت للوجود بتفكك الاتحاد السوفييتي، وفي البلقان، وجنوب أفريقيا، وعدد من الدول الغربية.

شجع كولن مستمعيه على الاستثمار في المدارس الثانوية النخبوية العلمانية، حيث أمل في جمعها بين الأخلاق الإسلامية والمعرفة الدنيوية. وكان العاملون في تلك المدارس ينضمون إلى «الشبكة التعليمية للفضيلة»، وكثير من مديري المدارس ومدرسيها لهم ارتباط وثيق بهذه الشبكة لتلبية «الخدمة التطوعية» التي دعا لها كولن أينما طلبوا.

كذلك حث فتح الله أتباعه على دخول مجال النشر والإعلام، فقام مجموعة من المعلمين عام 1979، مستلهمين أفكار كولن عن التعليم، بتأسيس «مؤسسة المعلمين». وشرعت المؤسسة بنشر دورية شهرية باسم «الينبوع»، والتي صارت سريعًا الدورية الأعلى مبيعًا في تركيا. وحمل كل عدد من أعدادها افتتاحية كتبها كولن بنفسه.

كما أسس أتباع كولن محطة تلفاز قومية «STV»، ووكالة أنباء كبرى «CHA»، وصحيفة «زمان» اليومية صاحبة أعلى معدل توزيع في تركيا، والتي تصدر بعشر لغات عالمية، بالإضافة إلى العديد من المجلات الرائدة، ودار النور المحدودة للنشر. أسس عدد من رجال الأعمال المرتبطين بحركة كولن ستة مستشفيات في تركيا، يعمل بها أطباء مرتبطون بالحركة. ويدفع مؤيدو كولن فواتير علاج المرضى غير القادرين في هذه المستشفيات.

وفي عام 1994، افتتحت مؤسسة خيرية مرتبطة بحركة كولن، هي جامعة «الفاتح» الخاصة في ضواحي إسطنبول، بفضل تبرعات عدد من رجال الأعمال الأثرياء.

وفي عام 1996، أسس عدد من رجال الأعمال، بدعم من كولن، بنك آسيا، وهو بنك بدون فوائد يُعد حاليًا من أكبر البنوك التشاركية في تركيا. وتتعاون بعض المدارس والمستشفيات المستوحاة من فكر كولن مع بنك آسيا لتلبية بعض احتياجاتها المصرفية.

كولن المتهم

بالنظر لتاريخ تركيا الحديث، كجمهورية علمانية، كان من المُحتم أن يجتذب ظهور حركة كولن ونموها الاهتمام. ويثير الخوف في الحلبة السياسية العلمانية. وبدءًا من عام 1971، وباعتقال كولن وسجنه لستة أشهر، صارت سلطات الدولة تتهمه، بشكل دوري، بتهديد لائكية النظام الرسمي.

وفي أواخر التسعينيات، ثار الجدل عندما أذاعت محطة تلفزيون خاصة أشرطة فيديو بدا فيها كأن كولن يدعو للجهاد ضد الجمهورية العلمانية والإطاحة بها لإقامة دولة إسلامية. وفي عام 2000 أصدر المدعي العام التركي أمرًا باعتقال كولن بدعوى أنه والمتعاطفين معه قد نظموا مجموعة لتغيير الحكومة العلمانية وتحويل تركيا إلى دولة ثيوقراطية. وبعد سنوات من المثول أمام المحاكم والطعون، قضت المحكمة الجنائية العليا في أنقرة برفض القضية نهائيًا في عام 2006.

وفي خضم الأزمة، انتقل كولن عام 1999 للحياة في الولايات المتحدة طلبًا للرعاية الطبية والعلاج من أمراضه العديدة، والتي تشمل اضطرابات القلب وداء السكري. تقدم عام 2006 للحصول على إقامة دائمة في الولايات المتحدة، لكن طلبه لم يقبل سوى عام 2008 بعد معركة قضائية، ومنذ ذلك الحين يعيش فتح الله كولن في المنطقة الشرقية من ولاية بنسلفانيا.