كان على دار الإفتاء المصريةِ منذ تأسيسها أن تجيب على أسئلة الذين يستفتونها في شؤونهم الخاصة، كما كان عليها أن تتصدى للإفتاء في القضايا العامةِ التي تثير الجدلَ بين الجمهور، وتتصل اتصالًا مباشرًا بالمصالح العامة للمجتمع والدولة معًا. ومن تلك الموضوعاتِ موضوعُ تطبيق الشريعة، حيث كان الجدل بشأن تطبيقها حيويًا وغير مريح في آن واحد لمفتي الديار؛ إذ كان عليه أن يؤيدَ الدعوة لتطبيقها بحكم كونه ناطقًا بأحكام الشريعة في فتاواه وأمينًا عليها، ولكنه لم يكن يستطيع وهو جزء من جهاز الدولة أن ينأى بنفسه عن الإطارِ القانوني والدستوري للدولة وسياساتها العامة في هذا الموضوع.

وهذا ما خلص إليه «جاكوب أندرسون» في كتابه «إسلام الدولة المصرية: مفتو وفتاوى دار الإفتاء»، ترجمة د. السيد عمر (2018م). وفي هذا الكتاب، تعقَّب المؤلفُ أداء دار الإفتاء أيضًا فيما يتعلق بالفتاوى الخاصة والعامة خلال مائة سنة (1313ه/1895م ــ 1414ه/1993م). وكان من أهم موضوعات الفتاوى العامة: فتاوى شهادات الاستثمار، وفتاوى تغيير النوع، وفتاوى التأمين.


فتاوى شهادات الاستثمار

يصوِّر المؤلف أجواءَ الجدل المحتدم الذي أثارته فتوى الشيخ سيد طنطاوي مفتي الديار بتاريخ السابع من سبتمبر/ أيلول لعام 1989م بشأن شهادات الاستثمار، والتي قرر فيها أن شهاداتِ الاستثمار نوعٌ جديد من المعاملات المفيدة للأفراد وللأمة معًا، ولا استغلال فيها من طرف للآخر. وقد دارَ الجدل حول هذا الموضوع في الثمانينيات في أجواء شهدت صعودًا للاقتصاد الإسلامي نظريًا وتطبيقيًا، وكانت الحكومةُ في مسيس الحاجة لجذبِ أموال المستثمرين لتمويلِ مشروعاتها الكبرى في مجالات الإسكان والإنتاج والتنمية بصفة عامة.

استدعى الشيخُ طنطاوي حجج المفتين وبعض العلماء الذين سبقوه، ومنهم الشيخ محمد عبده الذي أفتى بجواز الفائدةِ على دفتر التوفير البريدي، والشيخِ شلتوت الذي أفتى بجواز معاملات بنوك التوفير. ومن أهم النقاطِ التي وردت في فتوى الشيخ طنطاوى استشارتُه لرئيس البنك الأهلي آنذاك؛ الذي أفادَ بأن تلك الشهادات نشأتْ لتشجيعِ الادخار من أجل تمويل خطة التنمية، وأن العوائدَ عليها تدفعُها الدولة بصفةِ منحة للمودعين. وهذه الحجةُ تندرج ضمن المصالح العامة التي تؤطرها مقاصد الشريعة، وهذه المقاصدُ تتلخصُ في جلبِ المنافعِ ودرءِ المفاسد.

وردًا على سؤالٍ حول تكييف الادخار في شهادات الاستثمار: هل تعتبر قرضًا أو وديعةً؟ قال الشيخ طنطاوي:

وتأسيسًا على ذلك قررت دارُ الإفتاء المصرية شرعيةَ المعاملاتِ المتعلقةِ بشهادات الاستثمار، وأن الأرباحَ الناجمةَ عنها حلالٌ لأنها مضاربة، أو لكونها معاملة مستحدثة نافعة للأفراد وللأمة، وليس فيها أيُّ استغلالٍ من طرفٍ لآخر.

وأثارت فتوى الشيخِ طنطاوي حملةً واسعةً من الجدل الذي تراوحَت الآراء فيه بين المعارضة والتأييد، وظل الشيخُ متمسكًا باجتهاده مدافعًا عنه. وكان من أهم المعارضين له الشيخ محمد متولي الشعراوي، والشيخ جاد الحق علي جاد الحق، والمستشار طارق البشري، أما أهمُّ المؤيدين فكان منهم الشيخ محمد الغزالي. وتبادل كل فريق الحجج والأدلة والعللَ التي تدعمُ ما ذهب إليه. وظهرَ من مجملِ المجادلات في هذا السياق أن الربا لدى أغلب المؤيدين والمعارضين ليس المقصود به أنواعًا معينة من الفوائد المحرمة، وإنما هو يشمل مختلف أشكالِ الظلم السياسي والاقتصادي. ويستخلص المؤلفُ من ذلك أن تحريم الربا صار كلمةً مفتاحية لحجة سياسية تدعو إلى إقامة مجتمع إسلامي عادل، وليس فقط معالة اقتصادية محظورة (ص406).


فتاوى تغيير النوع

في سنة 1988م أجريت عمليةٌ جراحية لطالبٍ بكليةِ طب الأزهر، تحوَّل بموجبِها من ذكرٍ إلى أنثى حسب رأي فريق من العلماء والأطباء، أو كشف عن حقيقة جنسه التي كانت مطمورة، حسب رأي فريق آخر. وأثارت هذه الواقعة عاصفةً من الفتاوى الرافضة والمؤيدة لها. فمفتي الديار المصرية، ورئيس لجنة الفتوى بالأزهر، ذهبا إلى أن جراحةَ تغيير النوع يمكن إجراؤها إذا كان الأطباء المختصون على يقينٍ من أن هذا هو السبيل الوحيد لحصولِ المريض على نوعه الحقيقي. أما مفتي المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، فقد شجب تلك العمليةَ؛ لكونها حولت رجلًا إلى كائنٍ لا هو بالرجل، ولا هو بالمرأة؛ بل هو شديد الشبه بالخُنْثَى.

كان صاحبُ فتوى دار الإفتاء هو الشيخ سيد طنطاوي، الذي سبق له أن أفتى في سنة 1989م بجواز نقل الأعضاء لإنقاذ حياة المرضى. وقد انتهى اجتهادُه في مسألةِ تحويل النوع إلى أن الخنوثةَ مرضٌ يجب الاستشفاء منه، فيما لو أمكنَ ذلك. ويظهرُ من نص فتواه أنه اعتمد بشكل أساسي على الاقتباس من فتاوى للمفتي السابق له وهو الشيخ جاد الحق، وكانت نقابة أطباء مصر هي المستفتي. وخلصَ الشيخُ إلى أن مهمة الطبيبِ الذي يجري العملية في هذه الحالةِ هي أن يحددَ ما يتوافق مع المظاهرِ الخارجية الملتبسة مع الجنس الباطني الصحيح للمريض. وانحاز الشيخُ طنطاوي في فتواه هذه إلى جانب المختصين من الأطباء، وقرَّرَ أن لكل إنسانٍ جنسًا واحدًا لا أكثر. وفي حين كان تحديدُ النوع عند فقهاء الأزمنة الوسيطة سبيلًا وضع الأشخاص غير محددي النوع (الخنثى) في حالة إقصاء اجتماعي، فإن أصلَ المسألة عند الشيخ طنطاوي غير موجودٍ بالمرة؛ لأنه لا توجد ازدواجية في النوع، وإنما لكل شخص نوع واحد، ولكنه قد يكون مطمورًا، وأن العملية الجراحية التي أجريت لطالب الطب لم تكن لتحديدِ نوعه؛ لعدم وجود شخص غير محدد النوع من الأساس كما أكد مرارًا، وما الجراحةُ إلا عملية إعادة تعريف نوع شخص جنسه مطمور، ولكن نوعه لم يتغير أبدًا بالعملية الجراحية. وبهذا التخريجِ، نفى الشيخ طنطاوي إمكانيةَ تغيير الجنس بالعملية الجراحية جملة وتفصيلًا، واعتبر هذه العملية علاجًا لا أكثر ولا أقل.


فتاوى التأمين

إن شهادةِ الاستثمار وديعةٌ، بوسع المودع الاستفادة من قيمتها[1].

الفكرةُ المركزيةُ في صناعة الـتأمين هي: توفيرُ قدرٍ من الأمان للبشر في حياتِهم لمواجهة كل النوازل التي تلمُّ بهم. ومآل هذه الفكرة في النظر الديني هو: إضعافُ الإحساسِ العام بدور القدرِ الإلهي في مصائر الناس. ومن هنا كان الجدلُ حول فتاوى التأمين بالغَ الحساسية ولا يزال في مختلف المجتمعات الإسلامية. وكانت فكرةُ التأمين قد دخلت في البلدان الإسلامية مع معاهداتِ الامتيازات الأجنبية التي أبرمتها الدولة العثمانيةُ مع الدول الأوروبية ابتداءً من القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي، ثم تطورت وأخذت شكلًا مؤسسيًا في صورةِ شركات التأمين.

وكان أولُ ظهور شركات التأمين في مصر في سنة 1900م عندما أنشِئت شركة التأمين المصرية، ثم تلتها شركتا الإسكندرية للتأمين سنة 1931م، ومصر للتأمين سنة 1934م. وينظمُ القانون المدني عقودَ التأمين في مصر. وقد وُضعت الفقراتُ الخاصة به ضمن فصلِ: عقود الغرر، التي تشمل: المقامرة، والرهان، وما في حكمهما. وينقسمُ التأمين مبدئيًا إلى تأمينٍ على الحياة، وتأمينٍ على الممتلكات. ولم يحظَ التأمين بنوعيه بشعبية كبيرة لدى المصريين لأسبابٍ كثيرة من أهمها: أن أغلبَ المصريين لا يملكونَ فوائض نقدية أو مدخرات يمكنهم استثمارها في التأمين، وهذا سبب اقتصادي، وثمة سبب ديني يتمثل في الفتاوى الإسلامية التي لم تشجع على هذا النوع من التصرف، وأغلب العلماء يتخذون موقفًا سلبيًا من فكرة التأمين، وبخاصة التأمين على الحياةِ.

وقد احتدم الجدلُ الفقهي والقانوني حول الـتأمينِ في مصر منذ بدايات القرن العشرين. وألَّفَ الشيخُ محمد بخيت المطيعي، مفتي الديار، أولَ رسالةٍ في مصر عن التأمين بعنوان «أحكام السيكورتاه» نشرها في سنة 1906م. وانتهى الشيخ المطيعي إلى أن عقد التأمين عقد فاسد، لا يندرج ضمنَ أي من العقود الشرعية، وعليه فإنه محرم لأنه في حقيقته في حكم القمار أو الميسر. وهدأ الجدل حول التأمين بعد ذلك وإلى قرب منتصف القرن العشرين، مع استمرار الشركات التي نشأت لمزاولة هذه الصناعة في عملها. ثم تجدَّد مرةً أخرى بمناسبة امتناع وزارة الأوقاف المصرية عن دفع أقساط قدرها 2500 جنيهًا مصريًا سنويًا، مقابل تأمين ممتلكات الوقف من الحريقِ، وأنشأت صندوقَ تأمين خاصًا بها.

وعلى إثر تلك الواقعة ظهرت موجةٌ أخرى من الجدل خلال الستينيات، دافع فيها الدكتور محمد البهي وزير الأوقاف في الستينيات عن التأمين، وأكد أنه مؤسسةٌ اجتماعيةٌ، وأن شرعيته تتوقفُ على مدى مطابقته للمقاصد العامة للشريعة، ولا يتوقف على اندراجه ضمن حكم بعينه من الأحكام الخمسة: الواجب والمندوب والمباح والمكروه والحرام. وفنَّد الدكتور البهي الشبهاتِ التي تحيطُ بالتأمين وأهمها: الربا، والغرر، وشبهة نفي التوكل على الله. وهي شبهاتٌ كثيرًا ما أثارها معارضو العملِ بعقود التأمين. وانتهى من اجتهادِه إلى أن التأمين فيه مصلحةٌ عامةٌ للمجتمع الحديث المعقد، الذي باتت الدولةُ فيه منوطةً بمهام جديدة في المجالات التعليمية والاجتماعية والصحية. وذهب إلى أن التأمين والمعاشات ليسا إلا عنصرين في برنامج الدولة المصرية الطموح للعناية بالفرد في مراحل حياته كلها، ولأن هذا مصلحة عامة؛ إذن فلا بأس به شرعًا.

وكان من أبرز المعارضين للتأمين في تلك الفترة الدكتور عيسى عبده، الذي فرَّق بين التأمين التجاري، وهو عنده غير مشروع، لكونه يخرب مسعى تحقيق الاستقلال الإسلامي والعدالة الاجتماعية، والتأمين التبادلي، وهو عنده مشروعٌ؛ لأنه يسهم في تحقيقِ التكافل الاجتماعي الذي حضَّت عليه الشريعة الإسلامية.

أما دارُ الإفتاء المصرية فقد اتخذت موقفًا سلبيًا من التأمينِ في بدايات ظهوره في مصر، فيما عدا ما نسب للشيخ محمد عبده من أنه أجاز التأمين، والصحيح أنه إنما سئل عن صورة صحيحة من صور المضاربة فأجازها. ولم يتغير موقف الدار إلى الإيجابية إلا في الستينيات بدرجة ما ثم بشكل واضح في الثمانينيات، عندما أفتى الشيخ سيد طنطاوي رسميًا بجواز التأمين التعاوني.

وحبُّ حصيدِ المناقشات التي تضمنتها فتاوى دار الإفتاء المصرية حول التأمينِ: أن التأمين جائزٌ إذا كان في صالح الطرف الأضعفِ، أو حاملِ وثيقة التأمين، وهذا هو واقع الحال بالنسبة لمختلف مشروعات معاشاتِ التقاعد المطبقة في القطاعين العام والخاص؛ وعلةُ الجواز هي أن التأمين التقاعدي مؤسس على التكافل؛ أي المصلحة العامة، وهو بخلاف معظم حالات التأمين الأخرى، وبخاصة التأمين التجاري، والتأمين على الحياة. وانحازت أغلبية الفتاوى بعد ذلك تدريجيًا إلى الرأي القائل بأن على الدولة ذاتها أن تتولى أمرَ التأمين؛ لأن هذا هو السبيلُ الوحيد لجعله متماشيًا مع المبادئ الإسلامية.

ويلاحظ جاكوب أندرسون أن هذا الموقفَ يقتربُ من مواقف المفكرين الاجتماعيين الإسلاميين المعاصرين، ويتطابقُ مع ما ذهب إليه عدد آخر من العلماء المجتهدين من أمثالِ الشيخ مصطفى الزرقا، فهؤلاء أكدوا على أن المعارضين لم يفهموا قانون الأعداد الكبيرة، وهو من قوانين علم الإحصاء المستخدمة في صناعة التأمين، وطبقًا لهذا القانون فإنه كلما زاد عدد المؤمن عليهم لا تتعرضُ شركة التأمين لقدرٍ كبير من اللا يقين، وهنا يقل الغرر إلى أدنى حد ممكن؛ لأن الإحصاءاتِ تمكنها من حسابِ الأضرار المحتملة مقدمًا. أما الأفرادُ من حاملي وثيقة التأمين، فعدمُ القين غير قائم بالنسبة لهم، لأن ما يشتريه هو ضمان لفترة محددة يعرفها سلفًا، وهو يحصل عليه بصرف النظر عما قد يحدث أو لا يحدث، ومن هنا فإن من الخطأ القول بأنه لم يحصل على شيءٍ من العقد، لأنه حصل على تغطية ضد أنواع معينة من الخسارة لفترة معينة.

يضافُ إلى ما سبق، أن كثيرين من الإصلاحيين الإسلاميين المعاصرين يرون أيضًا أن للدولةِ دورًا مهمًا في صناعة التأمين؛ لأن العلاقة المتبادلة بين الفرد والدولة قائمةٌ على أساس تعاقدي، أو هي بالأحرى عقد اجتماعي، وعلى الدولة أن تغطي احتياجات المعوزين من مواطنيها، تمامًا كما فعلت الدولة المصرية مع متضرري زلزال سنة 1992م. ويختتم المؤلف كتابه بسؤال كبير دون جواب عليه وهو: ألا يسهمُ هذا النموذج الإسلامي الراهن لدولةٍ توفر الأمن الاجتماعي في ضعف الإيمان بالعناية الإلهية في العالم الإسلامي؟

لقد جاءت فتاوى التأمين في موجتها الأخيرة متواكبةً مع صعود الصحوة الإسلامية، وزيادة الميل الاجتماعي للتدين والالتزام بتعاليم الشريعة في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. ولم ينتبه المؤلفُ إلى هذا العامل وهو يبين السببَ في زيادة عدد الفتاوى التي أصدرتها دار الإفتاء في تلك الفترة؛ إذ ذهبَ إلى أن تلك الزيادة كانت نتيجة لكثافة استخدام دار الإفتاء ومفتييها لوسائل الإعلام. وهذا تفسيرٌ جزئي لا نوافقه على تعميمه. كما أنه لم ينتبه في بحثه كلِّه إلى التفرقة الأساسية بين الفتوى الخاصة والفتوى العامة؛ الأولى حيث يكون الاستفتاءُ فيها متعلقًا بمسائل شخصية خاصة بالأفراد والأسر مثلًا، والثانية حيث يكون الاستفتاء فيها متعلقًا بقضايا عامة.

وفي كل الأحوال، لا بد أن نؤكد مرة أخرى على أن المؤلف جاكوب أندرسون قد أبلى بلاءً حسنًا في خوض عباب هذا الموضوع المعقد، وأظهر في كثير من المواضعِ فهمًا دقيقًا لمسائل يصعب فهمها على غير المتخصص في علوم الشريعة؛ لكونها تندرج في صميم الفقه الإسلامي وأصوله، كما يحمد له أنه حافظ على نزاهته الأكاديمية في بحثِه كلِّه بصورةٍ تدعو للإعجاب.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. الفتاوى الشرعية. القاهرة: مؤسسة الأهرام،1989 ـ ص32