في واحدة من أكثر البطولات القارية التي علقت في أذهان الجماهير، قدم لنا كأس العالم 2002 في كوريا واليابان آخر نسخ البرازيل التي كانت تجيد رقص السامبا. ذكريات رائعة يتقدمها قصة شعر رونالدو الغريبة، وهدف رونالدينيو الأيقوني من فوق ديفيد سيمان. لكن إن حاولت اختبار ذاكرتك وتذكر تلك التشكيلة، فإنك على الأغلب لن تكتشف الملحوظة التي سنخبرك بها الآن.

من بين جميع التشكيلات الفائزة بكأس العالم – منذ 1930 حتى 2018 – كانت تلك الوحيدة التي لم تضم لاعبين على الأقل من نفس الفريق، أحد عشر لاعبًا كل منهم يلعب لنادٍ مختلف. قد تجد ذلك أمرًا غير مهم في المنافسة الدولية، لكن من بين جميع تشكيلات البرازيل الفائزة بالمونديال، كانت تشكيلة «المشتتون في الأرض» الأكثر تعبيرًا عن حالهم.

سواء لعب البرازيليون جميعًا لنفس النادي أو لعب كل واحد فيهم لنادٍ مختلف، فسيجدون الكيمياء اللازمة للتفاهم والمنافسة، المهم أنهم لا يمكثون في بلدهم إلا نادرًا، وعندما يقررون الخروج، تكون سيرتهم الذاتية أقوى من غيرهم، فقط بسبب الجنسية. وإن كنت راغبًا في تتبع رحلاتهم والتعرف على وجهاتهم المفضلة، فأهلًا بك معنا.

هروب اضطراري

بنظرة سريعة على القوى العظمى في كرة القدم، من ألمانيا وفرنسا وصولًا إلى إيطاليا وإسبانيا وإنجلترا، فإن وجود نجوم منتخباتهم داخل الدوري المحلي يبدو أمرًا عاديًّا، لكن بالنسبة لعملاقي أمريكا الجنوبية، البرازيل والأرجنتين، فإنه أمر غريب. بل إن الثنائي الأخير لا يستطيع ولا يمكنه التخطيط لذلك؛ لأن المأساة المحلية أكبر من كرة القدم.

دعنا نركز على البرازيل، التي وصف الكاتب «توم ساندرسون» – في مقاله بصحيفة جارديان – مجتمعها بأنه واحد من أكثر المجتمعات غير المتكافئة من الناحية العرقية في العالم، حيث التعليم العام ضعيف، والوصول إلى التعليم الخاص مكلف، بجانب ضعف الحد الأدنى للأجور، لتظهر كرة القدم كأحد السبل القليلة التي توفر مهربًا للحياة الكريمة.

يتفق ذلك مع الصورة المحفورة في أذهاننا عن معظم أساطير البرازيل، الذين خرجوا لنا بعد حرب ضروس مع الفقر، متسلحين بموهبتهم التي نتجت عن ممارسة اللعبة في أقسى الظروف، لكن الهرب عبر كرة القدم المحلية لا يبدو ورديًّا تمامًا، فـ «توم ساندرسون» كانت يتحدث بالأساس عن العنصرية ضد السود في بلاد السامبا، والتي نالت ملاعب كرة القدم مؤخرًا في أكثر من واقعة، بعد الظن خطأً أن اللعبة توفر البديهيات فيما يتعلق بالتعامل مع ذوي البشرة السمراء.

أما فيما يتعلق بالهرب من الفقر، فلا يبدو حال الأندية البرازيلية مشجعًا، ففي العقد الماضي، ارتفع الدين التراكمي لفرق الدوري الممتاز العشرين في البلاد بنسبة 176% إلى 6.9 مليار ريال برازيلي، رغم زيادة الإيرادات من حقوق البث التلفزيوني بنسبة 160% لتصل إلى ملياري ريال برازيلي.

الشاهد أن جميع الأندية تقريبًا تعاني من تخلف على المستوى الإداري، يجعل انتكاسها أقرب من ازدهارها، بسبب تمسك السلطات بنظام الملكية العامة (رئيس تنتخبه جمعية عمومية) عوضًا عن تحويل الأندية إلى شركات على غرار أوروبا.

وجدت دراسة أجرتها مؤسسة «Getúlio Vargas» أنه إذا تمت إدارة الأندية البرازيلية بشكل محترف، يمكن لكرة القدم أن توفر 3 ملايين وظيفة وتساهم بنسبة 1.1% من الناتج المحلي، مع العلم أن النظام الحالي يوفر 300 ألف وظيفة ويساهم بـ 0.2% من الناتج المحلي.

الوجهة المفضلة

باعتبار المعطيات السابقة وإضافة جودة البرازيليين الفريدة في ممارسة اللعبة، كانت مغادرة البرازيل أمرًا منطقيًّا لمن استطاع إليه سبيلاً. وفقًا لتقرير المركز الدولي للدراسات الرياضية الإحصائية «CIES» في مايو 2021، تحتل البرازيل صدارة تصنيف الدول المصدرة للاعبي كرة القدم لموسم 2020/21.

حيث خرج (1287) لاعبًا نشأوا في البرازيل إلى الدوريات الـ (145) التي يغطيها التقرير، ثم تأتي فرنسا في المركز الثاني بـتصدير (946) لاعبًا، تليها الأرجنتين بـ (780). أما المصدرون الرئيسيون من القارات الأخرى فهم نيجيريا بالنسبة لأفريقيا (المرتبة الثامنة، 394 لاعبًا)، اليابان بالنسبة لآسيا (المرتبة 27، 160)، الولايات المتحدة لأمريكا الشمالية (المرتبة 31، 142) وأستراليا بالنسبة لأوقيانوسيا (المرتبة 42، 88).

وفقًا للفيفا (الهيئة الحاكمة لكرة القدم العالمية) تصدر البرازيل لاعبين أكثر من أي دولة أخرى، بأكثر من 1000 لاعب كل عام.

تقرير لـ «Financial Times» في 2019

كانت الوجهة المفضلة للبرازيليين في موسم 2020/21 هي البرتغال بـ (236 لاعبًا)، ثم تأتي اليابان في المركز الثاني (67 لاعبًا)، ثم إسبانيا وإيطاليا (55 لاعبًا لكل منهما)، وفي المركز الخامس مالطا برصيد (52 لاعبًا).

بالطبع يتضح من تلك الوجهات أن عملية الهجرة الكروية تتأرجح أسبابها بين الرغبة في التطور ثم الانطلاق، أو الظهور في أحد الدوريات الخمس الكبرى من البداية، أو إيجاد مهرب مقبول مما ذكرناه سلفًا، حتى لو في دولة مغمورة مثل مالطا.

ولا يُستغرَب وجود البرتغال في المركز الأول ضمن الوجهات المفضلة للبرازيليين، إن علمت أن البرازيل ظلت مستعمرة برتغالية لسنوات طوال. ومع تطابق اللغة وتقارب الثقافة، لن يبذل اللاعب البرازيلي مجهودًا مضاعفًا للتأقلم، ناهيك عن قدرة الثلاثي بنفيكا وبورتو وسبورتنج لشبونة على اقتناص مواهب أمريكا الجنوبية وتطويرها وبيعها لكبار أوروبا.

الوجهة الحلم

مع تعاقب المهاجرين، واختلاف تجاربهم بين النجاح والفشل أو ما بينهما، ظهر عدد من الوجهات الأكثر تفضيلًا دون غيرها، يمكننا تصنيفها كالحلم الذي يسعى الصفوة إلى الوصول إليه. وهنا يظهر نادي برشلونة كأحد أكثر أندية أوروبا قدرة على جذب لاعبي أمريكا الجنوبية، وتحديدًا البرازيليين منهم.

كانت صفقة انتقال كوتينيو من ليفربول إلى برشلونة – بعيدًا عما آلت إليه – سببًا في إعادة تذكير الجميع بمكانة النادي الكتالوني لدى راقصي السامبا. نقل تقرير لمجلة «Fourfourtwo» في صيف 2017، عن متجر «Centauro» (أكبر متاجر التجزئة للألعاب الرياضية في البرازيل) أن فريقي فلامينجو وكورينثيانز هما الفريقان الوحيدان اللذان باعا قمصانًا أكثر من برشلونة في نصف العام الأخير.

كما أظهر استطلاع حديث أجراه المعهد البرازيلي (في 2017) للرأي العام والإحصاء أن 69% من الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و 29 عامًا يشجعون ناديًا أجنبيًّا من خارج البرازيل، وكان برشلونة في المرتبة الأولى بنسبة 25% من التفضيل، يليه ريال مدريد ثم مانشستر يونايتد.

إذا عدنا بالزمن إلى الوراء، فسنكتشف أن الوجهة المفضلة للبرازيليين في الثمانينيات كانت في السابق دوري الدرجة الأولى. زيكو وجونيور وكاساغراندي وتونينيو سيريزو وسقراط انتقلوا جميعًا إلى هناك. الدوري الإسباني لم يكن في الصورة في ذلك الوقت، لكن الوضع تغير بداية التسعينيات مع بيبيتو وماورو سيلفا وروماريو.
منسق المنتخب البرازيلي السابق إيراسمو دامياني لمجلة fourfourtwo

أما الوجهة المفضلة الثانية والتي ستبدو غريبة بعض الشيء هي نادي «شاختار دونيتسك» الأوكراني، والذي بدأت قصته مع البرازيليين في عام 2004 بقيادة مالكه الملياردير «رينات أحمدوف» والمدرب الروماني المخضرم «لوسيسكو». كانت الخطة تتلخص ببساطة في رغبة الرئيس في تحويل مباريات شاختار إلى عروض ممتعة، ومَن غير البرازيليين قادر على تحقيق ذلك؟

هنا، بدأ النادي بتوسيع دائرة كشافيه، ومتابعة الدوري البرازيلي عن كثب، وجلب اللاعبين من هناك واحدًا تلو الآخر في سن صغيرة، وإليك أبرزهم: جادسون، فيرناندينيو، إيلانو، لويز أدريانو، ويليان، دوجلاس كوستا، أليكس تيكشيرا، إلسينهو، تايسون، دينتينهو، ألان باتريك، بيرنارد، فريد.

نجد أنه من الأسهل اقتحام السوق البرازيلية، لنأخذ لاعبي منتخب البرازيل تحت 20 سنة كمثال، يمكننا إقناع أفضل اللاعبين في ذلك الفريق بالقدوم إلى شاختار لأنهم يعرفون أن شاختار يلعب في دوري الأبطال. إنهم يعرفون أن شاختار ساعد في إطلاق مسيرة ويليان وفريد وفرناندينيو. بالنسبة لهؤلاء الشباب، يعتبر شاختار خطوة أولى جيدة في كرة القدم الأوروبية.
جوزيه بوتو Head of Recruitment في شاختار لشبكة The Athletic

حقق المشروع البرازيلي في شاختار نتائج ممتازة بالنظر لكونه ناديًا أوكرانيًّا، إذ فاز الفريق بالدوري الأوروبي لموسم 2008/2009، ثم بعد ذلك تمكن من تجاوز دور المجموعات في دوري أبطال أوروبا في أربع مناسبات، ووصل للدور نصف النهائي للدوري الأوروبي في مناسبتين.

بالطبع، زادت تلك النتائج المميزة من إيمان النادي الأوكراني بمشروعه، بل قد تدفع غيره لانتهاج نفس السياسة، لكن من المؤكد أنهم سيملكون جميعًا ما يكفي لإقناع البرازيليين بأوكرانيا أو حتى مالطا، لأن النزوح البرازيلي الاضطراري غير مرشح للتوقف في المستقبل القريب.