تقول الأسطورة أن من أوصل مياه النيل إلى الفيوم هو سيدنا يوسف عليه السلام. ليسمي أهل المدينة بعدها الترعة بحر يوسف.

وتقول أيضا أن آخر ما وصل إليه المسلمون بعد عام من فتح مصر بقيادة سيدنا عمرو بن العاص كان مدينة الفيوم وأن الرومان تخلوا عن المدينة قبل أن يأتي العرب.

يحكي أهل المدينة أن «حسني مبارك» لم يأتِ إلى الفيوم أبدًا ويقال أنه آتى مرة واحدة إلى كوم أوشيم ولم يقترب أكثر من ذلك، كانت السلطة غاضبة من أهل الفيوم، ولربما كان ذلك السبب أن الفيوم من أفقر محافظات مصر إن لم تكن أفقرها!


الغضب .. التسعينيات

منذ التسعينيات وكثير من أهل الفيوم في معارك مستمرة، كل جامع هو مقر لجماعة إرهابية وكل تجمع قد يناله قانون الطوارئ.

في عام 1991 قُتل المقدم «أحمد علاء» مسئول مكافحة النشاط الديني في أمن الدولة في قلب مدينة الفيوم، قتله اثنان على موتوسيكل وهو في سيارته عائدًا إلى بيته، انقلبت بعدها المدينة رأسا على عقب وكانت المرة الأولى في حياتي التي رأيت فيها المدرعات والغربان (الأمن المركزي) أمام مديرية الأمن، فاجأت الحادثة أهل المدينة، منهم من أنكرها تماما ومنهم من رأها جزاءً وفاقًا لما فعله في قرية كحك الصغيرة والتي كانت مقرًا لجماعة الشوقيون ويقال أن أحمد علاء ارتكب فيها الفظائع!

منذ منتصف التسعينيات وللمدينة علاقة خاصة مع الحركات الإسلامية بكل أنواعها، خط طويل ممتد لم ينتهِ إلى يومنا هذا، حتى الدكتور «عمر عبد الرحمن» عندما قرروا معاقبته نفوه إلى الفيوم وقد كان يخطب في مسجد صغير على بعد شارع من بيتي. كان أحد أصدقائي شاهدًا عيانًا على اعتقاله من مسجده في عام 1990 تقريبًا ليصير بعدها المسجد خاويًا لا يصلي فيه سوى بعض العساكر، وكانت المرة الأولى التي عرفنا فيها ان العساكر تقتحم المساجد وأن هناك ما يسمى بالغاز المسيل للدموع حين أطلقوه على المصلين خلال القبض على الشيخ يوم الجمعة!

منذ التسعينيات وكثير من أهل الفيوم في معارك مستمرة، كل جامع هو مقر لجماعة إرهابية وكل تجمع قد يناله قانون الطوارىء وحتى مكاتب تحفيظ القرآن لم تسلم من الاضطهاد، تتواتر الحكايات عن سيارات الجنود التي تسد الجامع بظهرها ليخرج الناس من صلاتهم مباشرة إلى الاعتقال، لم يوجد بيت في قرية ولا مركز وحتى مدينة الفيوم نفسها إلا طال واحد من أهله أو جيرانه أو أصدقائه الاعتقال أو على الأقل إمام الجامع الذي يقع بجوار بيته، لكل واحد حكاية يحكيها عن ذلك الحبيب الذي اعتقلوه أو عذبوه أو اختفى ولا يدري عنه شيئا، في هذه الأيام من كان يختفي لا تراه بعدها ولا تعرف أين هو ولم يكن يراه أحدًا من أهله إلا بعدها بسنوات، حكايات الجماعة الإسلامية كانت هي الغالبة، شباب كثير؛ طلاب وعمال وفلاحين ذهبوا ونالهم التعذيب أو الموت، أهل البلد لا يروون الحكاية إلا بالأسى ومهما كانت العائلة لها علاقة بالسلطة أو فيها من فيها من الضباط ووكلاء النيابة لا بد ولو من واحد على الأقل متعاطف مع أصحاب اللحى الذين ظلمهم الناس دائما وظلموا هم أنفسهم أحيانا!


دولة .. لا دولة

لم تعرف الفيوم حركات المقاومة اليسارية أو العمالية، هي مدينة بسيطة؛ مدينة الفلاحين والموظفين ولا مكان فيها لصناعة ولا لرجال أعمال، إذا أراد أحد أبنائها العيش في حال طيب عليه أن يلجأ إلى الجيش أو الشرطة أو النيابة فإن لم يجد، فوظيفة حكومية مرموقة وإن لم يملك أهله أرض، يرحل إلى القاهرة بحثا عن العمل، لاحقا ستكون كوم أوشيم مدينة صناعية وستزدهر أكتوبر لكنها لن تكون سوى فرصة أشبه بالسخرة للشباب والفتيات بعد انحسار فرص العمل في الأرض لانحسارالرقعة الزراعية. تشبه الفيوم (المحافظة والمدينة) إلى حد كبير شكل القرية المصرية في الأفلام حيث المحافظ ومن حوله هم العمدة وضباط الشرطة في محل المأمور والباقي موظفين وعمال وفلاحين مساكين مع وجود أثرياء بالوراثة من أبناء العائلات الكبيرة أصحاب الأراضي!

الفيوم أشبه بالواحة وعلى الخريطة تبدو وكأنها انحرفت عن الوادي ليسكن جزء منها الصحراء وأخر ممتد مع بني سويف في علاقة غريبة تنسب بها إلى الوادي.

الفيوم أشبه بالواحة وعلى الخريطة تبدو وكأنها انحرفت عن الوادي ليسكن جزء منها الصحراء وآخر ممتد مع بني سويف في علاقة غريبة تنسب بها إلى الوادي وتنسب إلى الصعيد ولكنها خليط من الصعايدة والفلاحين، بينها وبين العاصمة صحراء ممتدة لما يقرب الخمسين كيلومترًا، وعلى قدر ما تبدو هذه الصحراء بغيضة لأنها أبعدت العاصمة أرض الفرص والأرزاق والدنيا الواسعة عن المدينة الفقيرة بقدر ما كانت سياجًا يحمي المدينة من أدران العاصمة، تبدد الرمال والرياح فساد الخُلق والخنوثة والتحلل والجفاء القادم من القاهرة، حتى هؤلاء الذين كانوا يعملون في القاهرة ويركبون الميكروباصات يوميا ليعبروا الصحراء آملين الوصول للراحة وناقمين على ضيق العيش كانوا يعودون بالكثير من البغض لهذه الحالة من البين بين، لم تكن العاصمة تقبلهم وما كانت الأرزاق واسعة في مدينتهم فلم يحملوا من فساد العاصمة إلا القليل وقد انشغلوا بمآسيهم.

كان أهل المدينة دائما في حالة سخط دائم على النظام، لم يروا منه خيرًا أبدًا وبالرغم من أن الوظائف الحكومية كانت مصبًا رئيسيًا للكثير من أبناء هذه المدينة، إلا أنه حتى هذه الفئة كان يوجد منها قطاع لا يوالي هذا النظام على أي حال؛ باستثناء الضباط والمستشارين ووكلاء النيابة وأثرياء العائلات الكبيرة لا تكاد تجد أحدًا راضيًا، ومع ذلك كانت المدينة في عمومها هادئة لا تقاوم إلا بغضب مكتوم أو عبارات السخط التي لا تنقطع في المواصلات، أو مشاعر متعاطفة مع الجماعات الإسلامية أدت إلى إقبال الكثير من الشباب عليها. حياة يومية كاملة لا تتقاطع مع الحكومة في شيء إلا إذا كان هناك حاجة للأوراق الرسمية!

قاوم أهل الفيوم نظام مبارك بالصمت الغاضب والتعاطف مع المقاومين له، وربما كان نظام مبارك يشعر بذلك فلم تكد المحافظة تشهد أي نهضة أو تنمية حقيقية خلال حكمه، وكانت من المدن المغضوب عليها.


الإخوان

مع مطلع القرن العشرين تزايد تواجد الإخوان في المدينة وكان أحد رواد الجماعة في الفيوم هو الحاج عبد العزيز العشري. بدت المحافظة وكأنها البيئة المثلى للجماعة، بالرغم من أن الجماعات الإسلامية المسلحة كانت لها بيئة خصبة في الفيوم إلا أن الناس كانوا دائما لا يرغبون في الوصول إلى الحد الأقصى في الصدام مع النظام، لذا كان الإخوان هم الحالة الأنسب أن ينخرط فيها الموظفون الساخطون والشباب الباحث عن أمل والفلاحين الذين سأموا هذه العيشة البائسة، لكن حتى الإخوان طوعتهم الفيوم بطريقتها ونظرتها كان إخوان الفيوم أقرب للسلفيين في مظهرهم وأفكارهم وكانوا أقرب للجماعة الإسلامية في حركتهم وحدتِهم مما كان له أثر كبير على شكل الإخوان في الفيوم مقارنة بغيرها من المحافظات.

برز اسم محافظة الفيوم بشكل كبير بعد استفتاء مارس/آذار 2011 على التعديلات الدستورية حين تجاوزت نسبة الموافقة على التعديلات في الفيوم 90%، تلى ذلك اكتساح قوائم الإخوان في انتخابات مجلسي الشعب والشورى لتظهر بعدها المدينة المنسية على الخريطة كأحد أكبر المعاقل الإخوانية في البلاد. لكن الفيوم بعد الانقلاب خاضت معركة مستعِرَة ضد الدولة برزت معها لا محافظة إخوانية فقط ولكن رمزًا للمدن الرافضة الصامدة في مصر وهي سمعة استحقتها بدماء العشرات وربما المئات من الشهداء والآلاف من المعتقلين والمطاردين.


من الثورة إلى الانقلاب

كانت ثورة يناير نقطة تحول حقيقية، كان ميدان السواقي هو نقطة التلاقي يوم الثامن والعشرين من يناير وهو على بعد مئات الأمتار من مديرية أمن الفيوم ومقر مباحث أمن الدولة، اشتعلت المواجهات وانطلق الضرب من الداخلية وانتهى الأمر بفرار الضباط والجنود وخلو المدينة من الداخلية باستثناء قسم مدينة الفيوم ومديرية الأمن، حتى القرى ما إن وصلت إليها أنباء ما حدث في القاهرة والمدينة اقتحم أهلها نقط الشرطة وبعض الأقسام في المراكز، في صباح اليوم التالي دخلت قوات الجيش للمرة الأولى منذ ثلاثين عامًا على الأقل المحافظة وبدأت تسيطر هي على الأوضاع.

ما كان الانقلاب ليمر سهلا على الفيوم، فبالرغم من أن هناك نسبة كبيرة خاصة من الموظفين والمنتمين إلى الشرطة والقضاء شاركوا فيما يشبه الاحتفالات في حماية الداخلية من يوم 30 يونيو حتى 3 يوليو؛ إلا أن الوضع تحول تمامًا مع الإعلان الرسمي للانقلاب، توالت المظاهرات والاشتباكات يوميا بين المتظاهرين والداخلية وحدثت سيطرة على عدة مؤسسات حكومية من قبل المتظاهرين، والحقيقة أن دور البلطجية في الفيوم كان محدودًا في أماكن معينة في المدينة وكان الصدام الحقيقي بين الداخلية والفيوم.

كانت الذروة يوم فض رابعة، عمّ الغضب أنحاء المحافظة وبدت المدينة والمراكز من حولها وكأنها خالية من أي جيش أو شرطة وظل الوضع هكذا طيلة يوم الرابع عشر والخامس عشر من أغسطس، الشرطة مختبئة في مديرية الأمن ولا تخرج إلى الشارع وقد تواردت الأخبار أنهم طلبوا النجدة من قوات الجيش، وبالفعل كانت الدبابات في الطريق من دهشور إلى الفيوم صباح يوم الجمعة السادس عشر من أغسطس لتحدث مذبحة في وسط البلد بالقرب من ميدان السواقي ومديرية الأمن بعد أن انطلق الرصاص بشكل عشوائي على المتظاهرين من أسطح العمارات.

الحقيقة أن الفيوم لم تكن خالية من المؤيدين للنظام وخاصة المدينة إلا أن نسبتهم كانت قليلة بالنسبة للرافضين وبالرغم من أن الإخوان كانوا قلب الحراك؛ إلا أن أبناء التيارات الإسلامية الأخرى كانوا مشاركين بقوة خاصة من السلفيين الذين تركوا حزب النور بعد اشتراك الدعوة السلفية بالأسكندرية بقيادة برهامي في تأييد الانقلاب.

أما أبناء الفيوم وخاصة القرى والمراكز فشاركوا بقوة في المظاهرات التي تلت الفض وكانت كل الاشتباكات بالأساس بين الداخلية والمتظاهرين، وقد بدأت حالة من التعاطف الشديد مع التيار الإسلامي وخاصة بعد الفض. أذكر أنه في إحدى المظاهرات يوم الجمعة في نهاية عام 2013 وقفت المسيرة لما يقرب من ساعتين في وسط البلد على بعد كيلومتر واحد من مديرية الأمن دون أن يجرؤ أحد على المجيء لفض المسيرة.

بدأت الفيوم تستعيد حالة أشبه بأيام مبارك مع الفارق أنه كان هناك حراك على الأرض مقاوم ومؤثر وقد استمر الزخم بقوة حتى نهاية 2014 ولكن تحت تأثير طلقات الرصاص بدأ الحراك يخفت شيئا فشيئا.

مع تزايد الضغط على المدينة، كانت مراكز محافظة الفيوم هي معاقل المسيرات المتصاعدة، ولو مشيتَ في الأرياف في ذلك الوقت لبدت لك قرى بأكملها وكأن الزمن توقف عند رئاسة محمد مرسي، حيث كانت صوره والشعارات الرافضة للانقلاب تملأ جدران البيوت مع مسيرات شبه يومية، لكن الأمن لم يكن ليترك ذلك؛ فبدأ مع الوقت في اتباع سياسة حصار القرى والضرب دون هوادة؛ ترسا وقرى مركز يوسف الصديق إلى السليين ثم مطرطارس التي كان يعيد حصارها كل فترة آخرها من شهرين.

ما كان الرفض للانقلاب إسلاميًا فقط، ولكن كل من جاء للفيوم يعرف تمامًا حجم السخط المكتوم لدى قطاعات كبيرة والكلام الذي يتداوله الناس في وسائل المواصلات وما كان يجرؤ على أن يقول نصفه سكان القاهرة، إذا جاءتك الفرصة للحديث مع أحد ضباط الشرطة أو وكلاء النيابة من الفيوم أو أحد أبناء العائلات الكبيرة الموالية للنظام سترى سخطًا غير عادي على المحافظة وأبنائها نتيجة السمعة التي اشتهرت بها في رفض الانقلاب، وكان دائما رفض الانقلاب قرين وصفها بالمحافظة الإخوانية، على صفحات هؤلاء الموالين للنظام، كنت ترى شكواهم من أبناء الفيوم المؤيدين والمشاركين في المسيرات، سخطهم على أبنائها أنهم السبب في سخط النظام عليها ليحول بينها وبين التنمية كما فعل من قبل أيام مبارك.

ربما هدأت الأوضاع الآن وقد بدأ القمع الأمني يفرض سيطرته على المحافظة وتهدأ الأوضاع ولو نسبيًا، ولكن ما زال هناك نار تحت الرماد، وما زال الناس ينتظرون يوما لتنفجر الصدور غضبا وثورة.


التمرد على التنظيم

ربما هدأت الأوضاع الآن وقد بدأ القمع الأمني يفرض سيطرته على المحافظة وتهدأ الأوضاع ولو نسبيًا، ولكن ما زال هناك نار تحت الرماد.

يبدو أن الطابع المتمرد للمدينة ترك أثره حتى على تنظيم صلب مثل الإخوان، مع الدعوة لمظاهرات 25 يناير/كانون الثاني قرر مكتب الإخوان في الفيوم بمبادرة منه المشاركة في التظاهرات في الفيوم وكان هذا مخالفا لقرار مكتب الإرشاد بعدم المشاركة، كانت هذه أولى إرهاصات ما حدث لاحقا في عام 2014، حين قاد إخوان الفيوم محاولة لإحداث تغيير داخل جماعة الإخوان، رفضها ما سُمي بالمجموعة القديمة وعلى رأسها الدكتور محمود عزت تحولت بعده الفيوم إلى مدينة متمردة حتى في نظر التنظيم، كأنه لم يكفي ظلم الدولة لأهلها، لكن لهذا حديث وحكاية آخرى ربما نرويها في يوم من الأيام.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.