يمكنني القيام بأي شيء أريده، وإذا حدث شيء سيئ؛ سأقول إنني كنت في مصحة عقلية. سامحني.

هذا ما قاله «باولو كويلو» في لقائه مع «أوبرا وينفري»، ساخراً عن فترة ما بعد خروجه من المصحة النفسية، التي وضعه بها والداه، نتيجة رفضه لدراسة الهندسة وسعيه لكي يصبح كاتباً. فكيف تمكن هذا الشخص المُحاط بأسباب السقوط أن يرتفع بروحه لمرتبة التصوف في رواياته؟

ريشة «الخيميائي»

محطات للروح الحائر، يقطعها مرحلة بعد مرحلة، مُتلقياً من الأشياء إشارات وغمزات.

تلك عبارة كتبها «نجيب محفوظ» في روايته رحلة «ابن فطومة» والتي طبّقها باولو كويلو حرفياً حين أراد امتهان الكتابة، فقرّر أنه إن رأى ريشة بيضاء اليوم فهي علامة من الله وسوف أكتب. وبما أننا ندرك اليوم منْ هو باولو كويلو، فهذا يعني أنه رأى الريشة البيضاء فعلاً يومها.

«الخوف من الألم هو أكثر سوءاً من الألم ذاته. وما من قلب يعاني الألم وهو يلاحق أحلامه. لأن كل لحظة سعي هي لحظة لقاء مع الله ومع الأبدية». عبارة أخرى كتبها باولو في أشهر رواياته «الخيميائي»، وهو يؤمن بها حق إيمان، فحين سألته «أوبرا وينفري» لماذا يعتقد أن البشر يتأثرون برحلة البطل، أجاب لأن الجميع يريد القيام بذلك.

يرى باولو -وهو ما يظهر جلياً في رواياته ومقابلاته- أن جميعنا خُلقنا لهدف محدد، وأن الله دائماً ما يرشدنا لهذا الهدف، حتى وإن ضللنا الطريق، ومن الصعب عدم القول أن إيمانه العميق بالقدر ينبع من ولادته في أسرة كاثوليكية ونشأته في مدرسة مسيحية، لكن بعد انتهاء تلك النشأة قرّر باولو عدم الالتحاق بالجامعة، والسعي خلف حلمه في أن يصبح كاتباً، ولأن والديه -على حد قوله- كانا خائفين بشأن كل شيء نتيجة للأوضاع التي كانت تعيشها البرازيل حينذاك، فلم يستطيعا تقبل مغامرة ابنهما؛ لذا قرّرا وضعه في مصحة عقلية في عمر السابعة عشرة، والتي هرب منها ثلاث مرات حتى خرج في النهاية في عمر العشرين.

المُتصوِّف يُصارع شيطانه

أرى أنه من «الخيميائي» إلى «الشيطان والآنسة بريم»، هناك قفزة ليست كبيرة لكنها ليست هينة. «الشيطان والآنسة بريم» تبدأ في إظهار القليل -القليل فحسب من رأيي- من حقارة الجنس البشري، أو ربما حسب وصف باولو، ضعف الإنسان تجاه الشيطان الذي يتسلّم أموره ويُوسوس له ويغويه.

«الخيميائي» كانت عام 1988 و«الشيطان والآنسة بريم» عام 2000، ويمكنني دون الحاجة لكثير من الذكاء إدراك التغيرات التي استجدت في شخصية كاتبنا لتجعله يُحوِّل رؤيته، من أن روح الإنسان قوة يمكنها الاتحاد مع الكون بأسره، إلى أنها شيء هش لدرجة أن تتزحزح بين شيطان وملاك، كل منهما يسحبها لطريقه وهي قابلة للكسر بينهما. لكن مع ذلك يبقى باولو مُصمماً على أن لكل منّا رحلته الفردية التي خُلق لأجلها، فيقول في الرواية على لسان أحد شخصياتها:

الانتصارات والهزائم هي جزء من حياة كل إنسان، إلا حياة الجبناء، لأنهم لا يربحون ولا يخسرون إطلاقاً.

ولكن يُفاجئنا باولو بجزء جديد يراه في النفس البشرية، لم أشعر من وجهة نظري أنه أشار إليه ولو بمقدار ضئيل في رائعة «الخيميائي»، حين قال في «الشيطان والآنسة بريم» على لسان أحد شخصياته:

الإنسان في حاجة إلى أسوأ ما فيه لكي يبلغ أنبل ما فيه.

كنت أرى في باولو كويلو حين قرأت «الخيميائي» شخصاً قرّر أن يعصب عينيه عن أي وجود للشر في الطبيعة البشرية، لكنه يتحول في «الشيطان والآنسة بريم» ليعرض الصراع القائم بين الخير والشر؛ حيث يتخبّط الإنسان بين هذا وذاك، آملاً أن يستقر قلبه وتسكن مشاعره وتتوقف أطرافه عن ضرب الماء كغريق لا يجيد السباحة.

منْ هو باولو كويلو؟

هو الكاتب البرازيلي العظيم الذي تُعد روايته «الخيميائي» إحدى أشهر الروايات في العالم، لكن هل هذا حقاً ما نريد معرفته عن باولو كويلو؟

في عام 2007، عيّنته الأمم المتحدة كرسول للسلام. ووفق رؤيتي، فإن ما يُقدمه لنا باولو كويلو يتسم دائماً بطابع إرشادي، كأنه يدلنا على طريقنا في الحياة، دون أن يعرفنا، وربما اكتسب هذه القدرة من كثرة وجوده في الطرق الخطأ.

لا أعلم إلى أي اتجاه خطأ سار كويلو، لكن لنتحدث عن بدايته العملية ككاتب للأغاني، والتي أغرقته في عالم السحر والتنجيم، وكيف أنه تأثر بهذا العالم وعشقه، ثم يمكننا الحديث عن فشل روايته الأولى «أرشيف الجحيم»، ثم اعتقاله وتعذيبه، لكن لا أظن أيضاً أن هذا هو الجزء الذي أريد تغطيته عن باولو كويلو.

ما أريد أن أرويه حقاً هو إخبار باولو كويلو للمذيعة العالمية أوبرا وينفري، أنه لا يعرف كيف كتب رواية «الخيميائي»، لأنه -وفق حديثه- لم يكن كاتباً جيداً حينها!

شخص مُصنَّف ضمن أفضل الكُتّاب عالمياً، يرى أنه لم يكن جيداً كفاية، ولا يدرك كيف كتب روايته الأكثر تأثيراً في أسبوعين. ربما هذا هو سبب تأثير تلك الرواية، بل كل رواياته بداخلنا. إن تلك الروايات تحمل شيئاً من روح باولو كويلو الصادقة، التي ترى أنها ليست جيدة كفاية لتكون مرشدة للآخرين حتى لو كانت كذلك.

ربما أيضاً لأن روايات كويلو تحمل شيئاً من أفكاره عن الاستمرار، ليس بالضرورة أنه يدفعك للطريق الصحيح، لكنه يدفعك لتفعل شيئاً ما، لتتحرك، لتتوقف عن التذمر، فيقول بشكل واضح في روايته «الخيميائي»:

السفينة آمنة على الشاطئ، لكنها ليست من أجل ذلك صُنعت.

ويظهر جلياً في أفكاره حين يقول لأوبرا وينفري إن طفلنا الداخلي يذكرنا دائماً برغباته قائلاً: «هل تتذكر هذا الحلم؟». ويُكمل قائلاً إن أكبر أكذوبة في حياة الإنسان هي «لابد لي من ذلك». لأنه حسب ما يرى دائماً يوجد بد مما لا نطيقه، وحسب ما أرى، كويلو هو شخصية استثنائية محاربة، تحارب لأجل نفسها وأحلامها، وفي طريقها حاربت لأجلنا كلنا، من أجل تعزيز قدرتنا على مجابهة أنفسنا، قائلين كما يقول في روايته «الخيميائي»:

الساعة الأكثر ظلمة، هي الساعة التي تسبق شروق الشمس.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.