العصر الجديد يعني تجاوز وهدات التخلف وأخلاق الدعة والتقليد، والركون إلى الراحة والانغلاق على المصلحة الخاصة إلى مراقي التقدم، والرقي ببناء أسس جديدة لعلاقة يكون الإنسان هو صانعها مع جماعته وأمته ومع الدولة التي يعيشها.

والعصر يعني استخراج ما يكتنزه الإنسان من قدرات لتخرج إلى النور، والوجود من الإمكانية إلى الفعل في كافة المجالات التي تقود نحو مسيرة تخرج بالأمة من دياجير الجهل إلى أنوار العلم والمعرفة والتمدن والتحضر.

وكما يشير «مالك بن نبي» في مذكراته التي اختار لها عنوانًا قاسيًا هو «العفن»، يعبر عن نفسه وعن عصره الذي كتب فيه مذكراته تلك في عام 1951، وكان قد جاء إلى الحياة عام 1905، إذ قال:

أنا أنتمي إلى الجيل السيئ الذي يختم طور التحلل الذي ألم بالحضارة الإسلامية، ويأذن لعصر جديد يختلط فيه نوعان من العفن، الاستعمار والقابلية للاستعمار، وتحلل الحضارة الإسلامية ونهاية عصر مظلم وبداية عصر جديد لا يزال الغموض يلفه.

لا زال الإنسان العربي بعد ما يزيد على القرن يواجه نفس المأساة، فالإنسان العربي لم يعد يواجه مشكلة الاستعمار والقابلية للاستعمار، وإنما أصبح يواجه استعمارًا جديدًا يسعى عبر وكلائه من تمزيق وحدة الأمة العربية والإسلامية عبر زرع بذور المذهبية والطائفية وفتح الباب للاحتراب الأهلي والمجتمع، عبر ما يُعرف بظاهرة الإرهاب التي تتخذ من الدين ستارًا لعنفها ووحشيتها، وهي في الحقيقة بذور مسمومة استنُبت في أرضنا وبلادنا على عين أعداء بلادنا وأمتنا.

يواجه الإنسان العربي اليوم داء القابلية للتعصب وكراهية الآخر الذي يشاركه العيش في وطنه، أو الآخر الذي يشاركه العيش على الجانب الآخر من الحدود السياسية الوهمية في الحقيقة بسبب سياسات نظم حكم تقوم على تغذية المشاعر الشوفينية المغلقة ذات الطابع المحلي، ليجد الإنسان عدوًا يشاركه الدين والثقافة واللغة بلا مبرر سوى التهييج والتلاعب بالمشاعر والعواطف بعيدًا عن الحكمة وإعلاء قيمة التسامح والعقل.

يواجه الإنسان العربي لأول مرة علو الكعب الصهيوني في فلسطين وتسلله إلى مناطق كانت محرمة عليه، بل وإعلانه لتلك العلاقات بشكل علني، والتحدث عن قضية فلسطين التي فيها مقدسات العرب والمسلمين وخاصة المسجد الأقصى الذي بورك حوله وكان أولى القبلتين ومسرى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والتي هي وقف لا يجوز التصرف فيه بأي شكل من الأشكال – باعتباره مسألة تحسين أحوال مواطنيها عبر تسويات اقتصادية مزعومة لقضايا تتعلق بالدين والعقيدة والوجود والماضي والحاضر والمستقبل.

ومن أخطر ما يواجهه الإنسان العربي القابلية للاستبداد سواء على المجتمع أو نظم الحكم، فالكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» يشير إلى أن الحكومة المستبدة تكون مستبدة في كل فروعها من المستبد الأعظم إلى الشرطي إلى الفراش إلى كناس الشوارع، ولا يكون كل صنف إلا من أسفل طبقته أخلاقًا، وهو وإن كان يشير في كتابه إلى الاستبداد العثماني في نهاية القرن الثامن عشر إلا أن الحكام العرب حين جاءوا إلى سدة الحكم لم يُنصفوا الإنسان العربي بأنظمة حكم ذات طابع شورى، يتشارك فيه الشعب مع حكامه في معرفة مصيره والقرارات الكبرى التي يتخذها هؤلاء الحكام، وكلما جاء عصر كان الذي يليه أشد ضراوة في ظلم الإنسان العربي وحرمانه من المشاركة الحقيقية أو اتخاذ خطوات لنظم حكم تتوافق مع العصر، بتوزيع السلطة والإقرار بتداولها والاعتراف بحق المواطن في التعبير والنقد والمراقبة، والإقرار بتوزيع السلطة وعدم مركزتها في قبضة واحدة، وبناء كوابح تحول دون استئثار فرد أو جماعة أو مؤسسة بالسلطة.

يواجه الإنسان العربي معضلة كبيرة في تفكيره الديني ونظرته إلى التدين، واعتباره سببًا للاستكانة والقبول بالقدر أم مجاهدة الأقدار بالحق ومدافعتها كما يقول عبد القادر الجيلاني. وكان محمد إقبال، الفيلسوف الباكستاني، في كتابه «تجديد الفكر الديني» أشار إلى فكرة ختم النبوة، وأنه مع انقطاع النبوة بعد خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، فليس سوى الاجتهاد والتجديد الذي هو عملية مستمرة لا تتوقف بين العقل والواقع للإجابة على ما يستجد من أسئلة جديدة. لقد أكمل الله الدين وأتم النعمة على المسلمين ولم يعد هناك نبي جديد، وإنما العلماء والمجتهدون والمجددون في كافة المجالات وفروع المعرفة والعلم يبحثون ويجتهدون بلا توقف وبشكل مستمر لا ينقطع حتى قيام الساعة.

اليوم يقف الإنسان العربي وقد كُشفت له الحقائق وعرف ما كان مجهولًا ومخبأً عنه بالنسبة لتاريخه المعاصر، وهو يدرك أن مصيره يقرره هو ولم يعد ممكنًا ترك أمر تقرير مصائر الأمم لنخب أو أنظمة حكم لم تستطع إنجاز مشاريعها للنهوض أو التقدم أو الأخذ بيد الإنسان العربي إلى مسار الإقلاع الحضاري، وهنا نعود مرة أخرى إلى مالك بن نبي الذي يشير إلى ضرورة تجاوز الإنسان العربي اليوم لسمات الإنسان العربي القديم الذي أثقلت كاهله عقلية «ما بعد الموحدين»، فأفقدته الروح الدافعة للتقدم وبذر بذور العمران والتحضر ومقاومة التدهور الحضاري الشامل الذي أصاب عالمه وحضارته بالشلل.

وكما يشير محمد المبارك في تقديمه لكتاب «وجهة العالم الإسلامي» لمالك بن نبي (عام 1954 الذي نُشر فيه الكتاب):

العالم الإسلامي هو الذي يحقق الظروف النفسية لظهور الإنسان الجديد، ورسالته في هذا العصر هي التوفيق بين العلم والضمير، بين الأخلاق والصناعة، بين الطبيعة وما وراءها، وأنه فيما يبدو في منتصف الطريق لهذه الغاية، وهذا الإنسان العربي الجديد ربما يبدو أنه فقد طريقه وتقهقر عن منتصف ما كان قد قطعه، بيد أنه لا يزال قادرًا على استئناف البدء من جديد بإشعال الروح التي كانت قد حركته في البداية وهي اتصاله الروحي بمصادر بعث تلك الروح التي كانت قبل معركة صفين. تراجع الوهج الروحي، ووهن الدفعة القرآنية التي أعطت للإنسان العربي معنى لوجوده وأن له رسالة، لصالح مطامع القبيلة والروح الجاهلية العصبية جعلته يشرف على حالة انحطاط أوقفته كحالة المحرّك حين يستنفد آخر قطرة من الوقود.

الإنسان العربي الجديد عليه أن يتحرر من آفات وسمات إنسان ما بعد الموحدين الذي أورث المجتمعات العربية حالة مرضية ظهرت في السياسة وصورة العمران، وكان يحمل في كيانه جميع الجراثيم التي عبرت عن نفسها في كل المشاكل المتفرقة في العالم العربي والإسلامي، فالنقائص التي تعانيها نهضتنا اليوم يعود وزرها إلى ذلك الرجل الذي لم يكن طليعة في التاريخ، فنحن ندين له بمواريثنا الاجتماعية وبطرائقنا التقليدية التي جرينا عليها في نشاطنا الاجتماعي، فهو لم يكتف بدور المحرك الخفي الذي دفعنا لارتكاب خيانة واجبنا وأخطاء في حق نهضتنا، بل اشترك معنا في فعلنا، لم يبلغنا نفسه المريضة التي تخلقت في جو يشيع فيه الإفلاس الخلقي والاجتماعي والفلسفي والسياسي فبلغنا ذاته أيضًا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.