في ثنايا حوار تليفزيوني أُذيع على قناة الغد أواخر شهر ديسمبر/ كانون الأول 2016، وإجابةً على سؤال طرحه المحاور على السيد موسى أبو مرزوق، نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس – وأحد المرشحين بقوة لخلافة خالد مشعل في رئاسة المكتب – حول ما إذا كانت حماس يمكن أن ترى في الوحدة الفيدرالية مع الضفة الغربية حلًا ممكنًا لإنهاء الانقسام الفلسطيني (الحمساوي الفتحاوي بالأساس)، أجاب أبو مرزوق بأنه «إذا استمر الوضع بهذا الشكل فقد تكون فيدرالية بين قطاع غزة والضفة الغربية أفضل من الانقسام»، ومضى بعدها أبو مرزوق في تبرير جوابه – الذي بدا مرتبكًا كما لو كان قد فوجئ بالسؤال – بالإسهاب في ضرب أمثلة لنماذج من الدول القائمة على الوحدة الفيدرالية مثل الولايات المتحدة وسويسرا والإمارات العربية المتحدة.

فجّر رد أبو مرزوق عاصفة ساخنة من النقد والهجوم على شخصه وعلى الحركة، ووجهت إليهما اتهامات بالسعي لتكريس حالة الانقسام وتقنين انفراد حماس بحكم قطاع غزة، فيما حاولت الحركة تدارك الأمر،نافية على لسان أبو مرزوق نفسه بعد يومين من اللقاء التليفزيوني أن تكون الفيدرالية مطروحة في برنامجها أو نوقشت داخل مؤسساتها، لكن الفكرة بحد ذاتها بحاجة للتحليل بالقدر المستطاع من الموضوعية بعيدًا عن التهجم أو التبرير.


توقيت سيء

انتقى أبو مرزوق أسوأ وقت ممكن للحديث عن الفيدرالية، فقد كان يجري وقتها الإعداد لاجتماع لجنة تحضيرية فلسطينية بمشاركة الفصائل كافة – منها حماس – في بيروت، مكلفة بوضع تصور لإحياء المجلس الوطني الفلسطيني وتفعيل دوره على أسس جديدة وبتشكيل جديد، وبعد أيام من اللقاء التليفزيوني وجهت روسيا دعوة للفصائل الفلسطينية للاجتماع في موسكو وبحث سبل إنهاء الانقسام، ويبعد عن الظن أن دعوة موسكو كانت مفاجئة، إذ لا بد أن تكون قد سبقتها مشاورات روسية غير معلنة مع الأطراف المدعوة لقياس مدى استجابتها، ولا بد أيضًا أن السيد أبو مرزوق كان على علم بها، فهو نفسه الذي رأس وفد حماس في اجتماع موسكو منتصف يناير/ كانون الثاني 2016.

عندما استشهد أبو مرزوق بنماذج الوحدة الفيدرالية، أغفل أن هذه الدول تتمتع باستقرار بعيد الأمد وبديمقراطية ذات أسس راسخة وتمثيلية حقيقية.

من ناحية أخرى، فقبل اللقاء التليفزيوني بيوم واحد كان نفتالي بينيت وزير التعليم الإسرائيلي ورئيس حزب البيت اليهودي قد صرّح بأن وصول دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة أتاح فرصة لإسرائيل لتجاهل المفاوضات مع الفلسطينيين، وأن دولته ماضية في فرض سيطرتها على مناطق المستوطنات في الضفة الغربية، معتبرًا أن هناك دولة فلسطينية موجودة بالفعل في غزة ولا حاجة لقيام دولة فلسطينية أخرى في الضفة.

عامل التوقيت لعب ضد تصريح أبو مرزوق، فلم يلتفت أحد لقوله قبل تصريح الفيدرالية بثوان «لا دولة فلسطينية في غزة ولا دولة فلسطينية بلا غزة»، مع ملاحظة أنه يتحدث عن موقف حماس المبدئي من الحل لا الأمر الواقع، وبالطبع لم يأبه مناهضو الحركة لنفيها تبني الفيدرالية، ولم يأبهوا لسياق حديث أبو مرزوق عن الفيدرالية باعتبارها حلًا وسطًا ممكنًا بين الوحدة المتعثرة والانقسام المؤلم، لكن تظل الحقيقة في النهاية أن أبو مرزوق هو من تبرع لخصوم الحركة بسبب قوي لكيل الاتهامات لها.


حسابات الواقع

عندما استشهد أبو مرزوق بنماذج الوحدة الفيدرالية مثل الولايات المتحدة وسويسرا والإمارات، أغفل أن هذه الدول تتمتع باستقرار بعيد الأمد وبديمقراطية ذات أسس راسخة وتمثيلية حقيقية – في حالتي الولايات المتحدة وسويسرا على الأقل – وليست واقعة تحت احتلال، وهو ما أدى في التحليل الأخير إلى الانقسام والاستقطاب بين القوى الفلسطينية.

والنموذج الأقرب للمقارنة في دولة نشأ فيها النظام الفيدرالي تحت الاحتلال هو العراق، حيث ضرب الاحتلال بنية الدولة المركزية وفككها، مستعيضًا عنها باتحاد فيدرالي بين الحكومة المركزية في بغداد وإقليم كردستان المتمتع بالحكم الذاتي واسع الصلاحيات، والذي تحول بالأمر الواقع إلى دويلة مستقلة عن العراق الأكبر. وصحيح أن جذور الفيدرالية العراقية تكمن في التمايز العرقي والقومي واللغوي بين أكراد العراق وعربه – وهو ما ليس موجودًا في الحالة الفلسطينية – إلا أن نشأة الفيدرالية العراقية كأحد مخرجات الاحتلال وغياب الدولة المركزية والديمقراطية الجامعة لفئات المجتمع تدفع للتخوف من تكرار النموذج في فلسطين.

كما أن معظم الاتحادات الفيدرالية قد نشأت كدول قومية على أساس الفيدرالية من البداية، باستثناء حالتي العراق وبلجيكا اللتين تحولتا من دولة بسيطة مركزية إلى اتحاد فيدرالي، وصحيح كذلك أن معظم الاتحادات الفيدرالية قد لجأت إلى هذا الترتيب إما لتجاوز خلافات أو أزمات بين فئات متمايزة ثقافيًا أو عرقيًا في المجتمع، أو طلبًا لمزيد من الديمقراطية بعيدًا عن مركزية السلطة والإدارة، إلا أنه يلزم تكرار القول إنه – باستثناء العراق – لم يكن هناك احتلال هو ما فرض الانقسام، جغرافيًا على الأقل، ويستوجب بالأولَى القفز فوق الخلافات الحزبية والبحث عن صيغة للاتحاد في مواجهته، لا تستبعد بشكل مطلق أحد الخيارين الاستراتيجيين: التفاوض والمقاومة المسلحة.

إن الأقرب للمنطق هو أن الفيدرالية ليست مطروحة في برنامج حماس، لأنه بالحسابات العملية النفعية البحتة لا بد أن حماس تضع في اعتبارها احتمال خسارتها الأغلبية في أي انتخابات محتملة مقبلة حال الاتفاق على إجرائها، وسواء تشكلت حكومة فتحاوية أم مستقلة فسيكون من شأن ذلك القضاء على سيطرة حماس على قطاع غزة أو إضعافها على الأقل، وهو ما لا مصلحة لها فيه.


الحالة الفلسطينية

ليس جديدًا القول إن أفق المصالحة الفلسطينية يكاد يكون كامل الانسداد، في ظل تشبث حركة فتح بالسلطة في الضفة الغربية وخيار التفاوض إلى النهاية – أو إلى ما لا نهاية إن أردنا الدقة – مع الاحتلال الإسرائيلي، وتشبث حركة حماس بسلطتها في غزة ورفضها الأسس التي قامت عليها السلطة الفلسطينية بموجب اتفاق أوسلو، وأولها نبذ المقاومة المسلحة واعتماد التفاوض كخيار وحيد في مواجهة العدو الإسرائيلي والتنسيق الأمني معه.

لكن والحال هكذا، فإن الفيدرالية في فلسطين لن تكون خطوة في اتجاه توحيد القيادة الفلسطينية، ولن يعدو دورها تكريس الانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة وتقنين الوضع القائم، وتشكيل مؤسسات حكم محلي جديدة في قطاع غزة كحكومة وقوات أمن محلية – وهو أمر واقع بالفعل – وبرلمان محلي وربما تمثيل دبلوماسي خارجي، وهذا في ظل وجود وفرة مبالغ فيها من المؤسسات الفلسطينية داخل وخارج فلسطين، يتبع بعضها منظمة التحرير والبعض الآخر يتبع السلطة الوطنية؛ وبين النوعين من المؤسسات تداخل وسيولة وغياب لتحديد الاختصاصات بسبب غياب أي حدود واضحة بين حركة فتح ومنظمة التحرير والسلطة الوطنية، ناهيك بمؤسسات الإدارة الحمساوية في غزة.

ثم إنه من السذاجة التعويل على الفيدرالية كأداة لتجاوز الخلاف بين فتح/ السلطة الوطنية وحماس، فالخلاف بينهما بالأصل أيديولوجي مبدئي يتعلق بالموقف من الاحتلال ومرجعية المقاومة وهوية الدولة المأمولة ذاتها، ومن ثم فالحل الأقرب للمنطقية هو حوار وطني شامل حول القضايا المصيرية والبحث عن الحد الأدنى من المشتركات بين طرفي الانقسام وغيرهما من الفصائل.


العقبة والحل

مع تعذر تحقيق المصالحة، فإن بقاء الوضع الراهن على حاله والفيدرالية سواء، لكن الفارق أن الفيدرالية ستقنن الانقسام وتُكسبه قابلية أكبر للاستدامة.

إن كان من المتعذر تحقيق المصالحة والوحدة الوطنية في المرحلة الراهنة، فإن بقاء الوضع الراهن على حاله والفيدرالية سواء، لكن الفارق أن الفيدرالية ستقنن الانقسام وتُكسبه قابلية أكبر للاستدامة، قاطعة الطريق على جهود تحقيق الوحدة الوطنية وتشكيل كيان فلسطيني موحد، وليس من شأنها المساهمة في تجسير الهوة الأيديولوجية أو الخلاف المبدئي أو حتى المصلحي بين طرفي الانقسام.

إن الحل الأبسط والأدعى للوحدة هو إجراء انتخابات عامة تتوفر لها ضمانات الشفافية والنزاهة، وأن يقبل الجميع مخرجاتها باعتبارها إرادة الشعب الفلسطيني، وأن يتم تكرارها في مواعيدها المستحقة والامتناع عن وضع العقبات وعرقلة الحكومات المنتخبة أيًا كان الطيف المسيطر عليها.

وعوضًا عن الفيدرالية، يمكن البدء بإصلاح وإحياء وتفعيل دور منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها على أسس جديدة، بحيث تستوعب جميع الفصائل الفلسطينية بما فيها حماس والجهاد الإسلامي، وتستعيد دورها كمظلة جامعة فاعلة ومرجعية أعلى للسلطة الوطنية، بدلًا من تجميدها في ثلاجة الأخيرة، والتوافق على صياغة ميثاق وطني جديد يعكس الحد الأدنى من مطالب وحقوق الشعب الفلسطيني، وعلى رأسها الحق في مقاومة الاحتلال بكل السبل الممكنة المدنية أو المسلحة.

والأهم من البحث عن آلية لحل معضلة الوحدة وما إذا كانت هذه الآلية هي الوحدة المركزية أم الفيدرالية، هو إجراء وقفة وطنية شاملة ومراجعة جميع الأطراف الفلسطينية لذواتها ومواقفها بأكبر قدر ممكن من التجرد ومراعاة المصلحة الوطنية البحتة، لعل ذلك يفضي إلى إخراج القضية الفلسطينية من نفق الركود الآسن المظلم، سواءً على صعيد الانقسام الوطني أم المواجهة مع الاحتلال.