الزمان: مطلع عام 1890.
الحدث: معرض الفنون في بروكسل عاصمة بلجيكا. 
يقف الرسام «فنسنت فان جوخ» بجانب لوحاته المعروضة. تمر أمامه السيدة «آنا بوخ» التي تجمع التحف، ثم تسأله عن اسم إحدى اللوحات، ليجيب فنسنت: الكرم الأحمر. ازداد الإعجاب في أعين آنا، تأملت اللوحة مرة أخرى ثم قررت شراءها. كانت هذه هي اللوحة الوحيدة التي باعها فان جوخ في حياته.

بعد شهور بسيطة، اصطحب فنسنت ألوانه وخرج ليرسم في إحدى ضواحي باريس، لكنه عاد لمنزله مصابًا برصاصة. يختلف العالم كله في مصدرها، لكن ترجح الأغلبية أنها كانت حادثة انتحار، أنهت حياة الرسام الفذ عن 37 عامًا. ويربط البعض بين بيع لوحة الكرم الأحمر، وإقدام فان جوخ على إنهاء حياته. لست مختصًا في الفنون، لكني أظن أنها واحدة من أجمل لوحاته. 

الزمان: مايو/أيار 2019. 
الحدث: مؤتمر صحفي لنادي أتليتكو مدريد.  
يدخل المدرب دييجو سيميوني بينما ترتسم ملامح الحزن على وجهه. يسأله أحدهم عن إعلان أنطوان جريزمان الرحيل عن صفوف الأتليتي خلال الصيف، فيحاول الشولو أن يبدو متماسكًا قدر الإمكان. بدأ الإجابة بشكر أنطوان على ما قدمه، ثم رفض التعليق على قراره، لكنه أكد أنه استنفد كل المحاولات معه. بالطبع كان صعبًا على سيميوني إخفاء قلقه بعد رحيل اللاعب الذي بنى حوله الفريق خلال السنوات الأخيرة. فهذه لم تكن مجرد لوحة عادية باعها دييجو، بل المؤكد أنها أجمل وأهم لوحاته في آن معًا.

 وهنا تنبأ البعض أن يستمر مشروع سيميوني في التراجع، حتى يخفت تدريجيًا، ومن ثم يموت، وهو مصير مشابه بدرجة ما لفان جوخ. الشيء المختلف هو أن سيميوني عندما قرر الخروج بحثًا عن لوحة جديدة، لم يعد مصابًا بالرصاص، إنما عاد وفي جعبته برهان جديد سيبني حوله مشروع أتليتكو مدريد مرة أخرى، اسمه:«جواو فيليكس».

أن تخسر نصف قوتك

أحيانًا تكون الإحصائيات مضللة، لكنها في حالتنا تلك تمثل مشكلة أتليتكو مدريد مع رحيل جريزمان بدقة. الأزمة هي أن اعتماد سيميوني على لاعبه الفرنسي تضخم للغاية خلال الموسمين الأخيرين. وقد أخذ دييجو ينتدب صناع الألعاب ويغير في رؤوس الحربة فقط لخدمة أنطوان، حتى أصبح الأخير يساهم فيما يعادل 46% من مجموع ما يسجله الفريق الإسباني في الليجا، وهو ما يعني أن غيابه سيؤدي لعقم هجومي مؤكد. 

تبدو المشكلة بصورة أعقد حين تدرك تراجع رفاق كوكي على صعيد صناعة الفرص، إذ يحل الأتليتي في المركز ال17 من أصل 20 فريقًا بالدوري في ترتيب الأهداف المتوقع تسجيلها من لعب مفتوح، بل إن أنطوان نفسه كان أحد أكثر من يصنع الفرص المحققة لزملائه، وبالتالي يتوقع أن يعاني أتليتكو مدريد أكثر إذا لم يجد البديل الأنسب لجريزمان.

لكل ذلك، هرعت منتديات الأتليتي الجماهيرية في تخمين اسم من سيخلفه. رشح البعض أليكسيس سانشيز، وفكر آخرون في باولو ديبالا، وحضر اسم نبيل فقير بدرجة أقل. لكن بمرور الوقت لم يبدُ المدرب الأرجنتيني متحمسًا لأحد تلك الأسماء، لماذا؟ ربما لأن سانشيز سنه كبيرة وراتبه أكبر، أو لأن ديبالا لاعب متقلب المستوى ومن غير المضمون الاعتماد عليه في قيادة خط الهجوم وحده، أو لأن فقير مهدد بسبب إصابات الركبة. إذن ماذا يريد الشولو؟ 

أعلن دييجو للصحفيين عن المواصفات التي يحتاجها؛ هو يبحث عن لاعب يشارك بصورة أساسية كمهاجم ثانٍ، يمكنه تسجيل ما يزيد عن 20 هدفًا بالموسم، ويمتلك القدرة على امتصاص فلسفة الأتليتي في أسرع وقت. تلك الأخيرة دفعت البعض للظن أن الأرجنتيني يستهدف لاعبًا شابًا، لكن لا أحد توقع أن يراهن سيميوني على ناشئ لم يتجاوز التاسعة عشرة، من خارج الدوريات الكبرى، مقابل 126 مليون يورو.

مخاطرة؟

طبعًا هي كذلك، لكنها تحمل قدرًا لا بأس به من الوجاهة على أي حال، وأول ما يجعلها هكذا هو أن جواو تدرب في الفئات السنية المختلفة لنادي بنفيكا على دور المهاجم الثاني، وفي سجله 50 هدفًا من أصل 100 مباراة خاضها كناشئ. لذلك حين تولى مدرب فريق الرديف برونو لاج مسؤولية الفريق الأول قبل تسعة أشهر، فكر في الدفع بفيليكس أساسيًا ضمن الرسم الخططي: 4/4/2، وهو نفس الرسم الذي يتبناه أتليتكو مدريد، ولم يخيب الصغير رجاء برونو. 

حيث سجل 18 هدفًا وصنع 8 آخرين بمختلف البطولات، لتظهر بوضوح مزاياه الفنية، التي تبدأ بقدرته على التسديد بكلتا قدميه ومن أي مكان، سواء داخل أو خارج أو على حافة منطقة الجزاء. فيليكس يسدد كلما سمحت له الفرصة، لذلك لا تندهش حين تعرف أنه يمتلك معدلًا يزيد عن 3.4 تسديدة/المباراة، وهذا المعدل يفوق ذلك الذي يمتلكه جريزمان خلال الموسم الماضي. 

أتليتكو مدريد، دييجو سيميوني، الدوري الأسباني، جواو فيليكس.
خريطة توضح أماكن تسديدات جواو فيليكس. المصدر: موقع Statsbomb.com

الأهم من التسديد هو دقة التسديد، خصوصًا في فريق مثل أتليتكو لا يصنع فرصًا كثيرة، والحقيقة أن جواو يحظى بدقة تسديدات جيدة تصل لنسبة 39%، والمفارقة هي أنها تعادل تلك الخاصة بالمهاجم الفرنسي المنضم حديثًا لبرشلونة. أما الأهم من التسديد ومن دقة التسديد، هو ماذا يسجل فيليكس من الأهداف المتوقع تسجيلها؟ 

تقول إحصائيات موقع Statsbomb إنه يهدّف أكثر مما هو متوقع، بحيث سجل خلال جولات الدوري البرتغالي 15 هدفًا، بينما كان المتوقع تسجيله هو 8.8 هدف فقط، وهذه الإحصائية تقودنا لاستعراض أهم مزايا جواو فيليكس على الإطلاق.

جواو لا يحظى بسرعة خرافية مثل كيليان مبابي، ولا هو مراوغ فذ كويلفريد زاها، ولا هو صاحب إمكانيات بدنية مثالية كساديو ماني، لكنه يتميز بما يسميه محرر شبكة ESPN توم كوندرت بالحاسة السادسة. تلك الحاسة يقوم فيليكس بتفعيلها كلما واجه المرمى، هو يعرف كيف يتحرك ليهرب من الرقابة، ومتى يطلب الكرة من زملائه بحيث يطلق التسديدات في أفضل وضعية، ولأي زميل يمرر. باختصار تبدو قرارات اللاعب البرتغالي أكثر نضجًا من سنه خصوصًا في الحالة الهجومية.

بيعرف يدافع؟

طالما أننا بصدد صفقة يراهن عليها سيميوني، فلا بد من مطالعة أرقام فيليكس الدفاعية. لأنه ببساطة مهما كانت نجاعته الهجومية، فإنه سيكون جزءًا من المنظومة الدفاعية التي يقوم عليها أتليتكو مدريد. ومركز جواو فيها سيحتم عليه تنفيذ أدوار بدنية مثل الفوز بالكرات الثنائية، والدخول في صراعات هوائية مع المدافعين ولاعبي الارتكاز. هذا بالإضافة لتقديم الدعم لزملائه في وسط الملعب حين يقرر الأتليتي الانكماش وتضييق المساحات أمام الخصوم.

للوهلة الأولى قد تظن أن صغر بنيان البرتغالي سيقف حائط صد أمام تنفيذ أي من تلك المهام، لكن ببعض التدقيق في إحصائياته تكتشف أننا أمام لاعب لا يستهان به بدنيًا، إذ ينجح في 50% من العرقلات التي ينفذها، كما يفوز بـ 45% من الكرات الهوائية، بل إنه سجل أهدافًا برأسه في مواجهة مدافعين أقوى وأطول منه. 

أما المفاجأة السعيدة لسيميوني فهي الخريطة التي نشرها موقع Statsbomb عن نشاط جواو الدفاعي، وفيها يظهر بوضوح أن اللاعب البرتغالي لا يكتفي بالثلث الهجومي وحسب، بل على النقيض تتركز أدواره الدفاعية سواء من تنفيذ ضغط أو عرقلة أو استخلاص في الجانب الأيمن من وسط ملعب الخصم، وهو ما يعني أن بإمكانه تقديم المساندة للاعب الطرف لتضييق أكبر المساحات. وطبعًا الشولو لا يحب شيئًا كما يفعل مع تضييق المساحات. 

خريطة النشاط الدفاعي لجواو فيليكس.

هذه كلها مؤشرات تقول إن بإمكان فيليكس الاندماج داخل منظومة المدرب الأرجنتيني، خصوصًا مع صغر سنه وقابليته للتعلم والتطوير، هكذا فعل دييجو قبل خمس سنوات مع جريزمان عندما وفد من ريال سوسيداد، ولم يكن بهذه الفاعلية البدنية التي نراها اليوم.

أفضل من جريزمان؟

ربما تكون منبهرًا بكل تلك المميزات التي ذكرناها في الموهبة البرتغالية، وتظن أنه سيحل مشاكل الأتليتي بعد جريزمان، وهنا ينبغي عليك أن تنتبه لأمرين في غاية الأهمية؛ الأول أن كل تلك الإحصائيات تخص موسم واحد فقط للاعب لم يبلغ عامه العشرين بعد. والثاني أنه سجلها في منافسات الدوري البرتغالي، وليس الإسباني أو الإنجليزي أو الإيطالي.

الأمر الأول مهم لأن ما قدمه فيليكس حتى الآن ليس النموذج الأخير منه، وأمامه ما لا يقل عن موسم واحد حتى يتشكل أسلوبه وينتظم مستواه، حين يكتسب خبرات ويتعرض لضغوط مختلفة عما كان عليه في بنفيكا، فهو الآن لم يعد الناشئ الذي ينال الاستحسان كلما قام بمراوغة ناجحة، بل لاعب يحمل طموح جماهير نادٍ ينافس محليًا وأوروبيًا. 

والأمر الثاني مهم لأن وضع بنفيكا مختلف تمامًا عن أتليتكو مدريد، ولن يكون خصوم جواو هذه المرة هم بورتو أو سبورتنج لشبونة، بل ريال مدريد وبرشلونة. هذا مستوى مختلف من التنافسية، ولا زلنا لا نعرف بعد كيف سيتعامل معه فيليكس. وبالتالي لا يمكن لنا الحكم من خلال إحصائياته في تجربته السابقة على مدى نجاحه مع كتيبة سيميوني، صحيح أنها معدلات مبشرة، إلا أن بعضها مرشحة للانخفاض، وبعضها الآخر مرشح للصعود، وهذا هو الوضع الطبيعي. 

في الوقت ذاته، هناك أمر يجب على سيميوني أن يأخذه بعين الاعتبار. إحصائيات فيليكس تخبرنا أنه لاعب لا يقوم بكل شيء وحده، بل هو يحتاج مساعدة زملائه خصوصًا على مستوى صناعة اللعب حتى يتمكن من تهديد المرمى.

وهذا الأمر يستدعي من دييجو إعادة النظر في تراجع إنتاجية لاعبي وسط الملعب كساؤول وكوكي وليمار، لأنه لو استمرت معدلات الفرص المتوقع تسجيلها بهذا الانخفاض، سيتحول فيليكس من الرهان الأهم لدييجو للرصاصة التي تمزق مسيرته، وسيكون حينها الشولو قد خسر كل شيء حين باع الكرم الأحمر فعلًا.