كعادتها في الصبيحة، جلست ثومة تلهو في صحن الدار، تترنم بصوت خافت ببعض الأناشيد، عندما دخل والدها الشيخ إبراهيم السيد. من شدة الخوف ابتلعت صوتها مع الكلمات، وأنكرت أن ما تسلل لأذنيه هو صوتها، لكن ربتة من يده أعادت لها الطمأنينة لتشدو بصوتها العذب مرة أخرى.

حكاية من مذكرات كوكب الشرق، توضح لنا كيف كان من الصعب على أنثى أن تقول «أنا هنا، أمتلك شيئًا يستحق أن يُسمع». لكن ثومة فعلتها. صنعت لنفسها سلماً درجاته الموهبة الطاغية والشخصية القوية والإصرار والذكاء، وصعدت به إلى سماء المجد والشهرة.

شهرة جعلت من سيرة «الست» مساحة صالحة لأي غريبين يبحثان عن أرض مشتركة لجذب أطراف الحديث. نجاح أجبر المواهب الرجالية في الغناء على احترامه والتسليم به.

نظرة على تاريخ الموسيقى تكشف أن ما أحدثته أم كلثوم وغيرها من العناصر النسائية في مجال الغناء، لم يتحقق في جوانب الموسيقى الأخرى، من تلحين وتأليف، جميعها تجارب ظهرت واختفت دون أن تترك أثرًا قويًا، ورغم وجود إسهامات مهمة وخالدة، فقد ظلت ملامح التجربة النسائية ضائعة وسط زخم وهيمنة رجالية.

رائدات اللحن الموسيقي

بحلول منتصف العشرينيات، نسجت أصابع نسائية خيوط الموسيقى، مستفيدة من عصر فني جديد قاده سيد درويش. كانت «بهيجة حافظ» أول امرأة تؤلف الموسيقى التصويرية للسينما في فيلم «زينب» عام 1930، وسجلت «عواطف عبد الكريم» اسمها كأول دارسة ومؤلفة للموسيقى أكاديميًا، وفي الستينيات كانت «نبوية سعيد» أشهر عازفة في الإذاعة.

حضور الآلة النسائية لسوق الموسيقى لم يقوَ على منافسة مواهب بحجم محمد عبد الوهاب والقصبجي والسنباطي. خير دليل على ذلك، أن الروح الموسيقية لأم كلثوم لم تجد متنفسًا على المسرح وقت ما غنت أغنيتين من ألحانها، هما «يا ريتني كنت النسيم» و«على عيني الهجر».

غاب اللحن النسائي عن الأغنية المصرية لعقود طويلة، إلى أن كسرته بعض تجارب الموسيقى المستقلة، مثل مريم صالح ودينا الوديدي، لكنها بقيت تجارب ذاتية، فألحان كل منهما تقتصر حتى الآن، على الأغاني التي تؤديها بنفسها.

نبيلة قنديل: ونس رمضان

البداية الأبرز للمرأة في الشعر الغنائي كانت من نصيب المونولجست «نبيلة قنديل»، بعدما اعتزلت الغناء واتجهت إلى كتابة الأغاني، ربما ساعدها زواجها من الموسيقار علي إسماعيل في تقديمها للجمهور وتلحينه لمعظم كلماتها، لكن موهبتها ظهرت واضحة في انتشار أغانيها وتحقيق نجاح كبير في الخمسينيات والستينيات، مثل: هاتوا الفوانيس، وأهو جه يا ولاد، وسبحة رمضان.

ربما لا يعلم كثيرون أن الأغنيات الأشهر لرمضان من تأليف الشاعرة نبيلة قنديل، وربما أيضًا أخذك الأداء المتقن لاستعراض «حلاوة شمسنا» بعيدًا عن محاولة معرفة مؤلف الكلمات. وبشكل عام، غالبًا ما يظلم نجاح المطرب أو المؤدي اسم مؤلف الأغنية وملحنها، أما عندما يكون المؤلف امرأة في مجتمع يسيطر عليه الرجال، فالأمر يزداد سوءًا.

سبقت نبيلة أيضًا بدخول منطقة مختلفة فكتبت الأغاني الوطنية، بأسلوب رشيق وحماسي، فهي صاحبة أغنية «رايحين شايلين في إيدنا سلاح» التي غنتها المجموعة، وغنت شريفة فاضل من كلماتها أغنية «أم البطل».

علية الجعار: في مدرسة المحافظين

خلال الفترة من السبعينيات إلى الثمانينيات، ظهرت بعض الأسماء النسائية، لكن إسهاماتهن لم تحقق نفس انتشار أغاني قنديل، منهن شريفة فتحي، وسكينة حسن، وحورية المانسترلي، ومنهن أيضًا علية الجعار.

غلب الطابع الديني والشعر الفصيح على كتابات علية، وأشهر ما ألفته أغنية «خد بإيدي» آخر أعمال الفنانة الراحلة شادية عام 1984، كما كتبت الكثير من الأغاني الإذاعية، وربما ترجع ندرة إنتاجها الغنائي لتوجهها المحافظ.

آمال شحاتة وشيخ الملحنين

عُرف سيد مكاوي باكتشاف المواهب، وكان من بينهم الشاعرة آمال شحاتة، حيث قدم من كلماتها إحدى أجمل أغنياته «أنت واحشني»، ورغم بساطة التعبير استطاع شيخ الملحنين تسخير الكلمات في لحن دافئ وعذب، واستمر التعاون بينهما في أغنيتين أخريين، هما «يا حب أهلا»، و«إوعى تخليني أحبك».

ولم تكن تجربة آمال مميزة بقدر يدفع للاستمرار، لتُغلَق بذلك صفحة الثمانينيات دون ملامح نسائية في كتاب الأغاني.

فاطمة جعفر: لسه ناوي ع الرحيل؟

في أوائل التسعينيات، وسط زخم الأغاني التي تحدثت عن السفر، الغياب، البعد والاشتياق، خرجت «فاطمة جعفر» بصورة شعرية مكتملة، تفوقت على كل الرجال ممن كتبوا في ذات الموضوع، سفر الأحبة، بخبرة شاعرة مخضرمة وإحساس ينتقل بسلاسة من مطلع الأغنية.

لم تكن «شنطة سفر» مجرد طفرة فنية وانتهت، بل تكررت في موضوعات أخرى كتبت فيها فاطمة جعفر، أبرزت شخصيتها الفنية القوية، فعبرت بعمق عن شعور المرأة بالخيانة في أغنية «مش حبيبتك» لـ منى عبد الغني من زاوية ما كان لرجل أن يفكر في الذهاب إليها.

لا يعرف أحد أين ذهبت فاطمة جعفر بعد كتابة بضع أغان فقط، أو لماذا تختفي موهبة تملك الجرأة والإبداع قلما ظهرت من امرأة في هذا المجال.

كانت التسعينيات أيضًا شاهدة على ظهور شاعرات كتبن أغنية أو أكثر ولم ينلن نصيبًا من الشهرة، أو كتبن تحت أسماء ذكورية، أو اعتزلن بعد تجارب لم تصمد أمام قوانين السوق.

تجربة أخرى غير مكتملة كانت من نصيب المذيعة والشاعرة «هند القاضي»، فبعد أن قدمت عدة أغان لـ محمد الحلو وديانا حداد وأنغام، أنجحها «قلبك»، كانت «عنقود العنب» مع محمد منير أكثر ما أثبت تفرد أسلوب القاضي، قبل أن تقرر الاكتفاء بالقصيدة الفصحى، لأن سوق شعر الأغنية تتحكم به «مواصفات كثيرة»، بحسب حوار صحفي.

كوثر مصطفى: زعيمة «بلد البنات»

خطوات «كوثر مصطفى» في كتابة شعر العامية، مهدت لأول موضع قدم حقيقي لامرأة على أرض رجالية تمامًا. فقد كان المخرج خيري بشارة في جولة لشراء بعض الكتب، عندما لمح ديوانًا بعنوان «موسم زرع البنات»، فاشتراه مُنفعلاً باستفزاز العنوان، رغم معارضة السيناريست يحيى عزمي، الذي كان بصحبته حينها، بحجة أن الكاتبة «واحدة ست»، لكن بشارة حسم الجدل قائلاً: «لو طلع وحش هارميه».

استحوذ الديوان على عقل المخرج الكبير وبدأ البحث عن كوثر مصطفى لكتابة أغاني فيلمه الجديد «طعم الدنيا»، على أن يقوم بالبطولة والغناء الفنان محمد منير. ولظروف إنتاجية لم يكتمل الفيلم، لكن منير كان قد رأى في أشعار كوثر شيئًا لامعًا، دفعه ليقدمها للمخرج العالمي يوسف شاهين، لتكتب أغاني فيلم «المصير».

وجد منير ضالته في أشعار كوثر مصطفى. التقت بينهما رؤية تداعب الحلم الإنساني، الذي ينازع بين الضغوط النفسية والرضا بنعمة الحياة، خلقا نغمة مثابرة تهمس بالأمل، ورسما شكلاً جديدًا للأغاني تفرّد به الكينج في 28 أغنية.

الثنائية الفنية بين كوثر ومنير مزجت أيضًا بين الروح الدينية والصوفية للأغاني، في ألبوم «الأرض… السلام»، وحتى الأغاني التي قدماها للأفلام وتترات المسلسلات، حملت الرؤية الفريدة لكوثر، القادرة على تحويل مجرد تتر لمسلسل كارتوني، إلى نشيد وطني لبلاد النوبة السمراء.

الغموض الشفاف هو إمضاء كوثر على أغانيها. كلمات تقبل التفسير على الهوى الشخصي لكل سمّيع، فعندما كتبت «حط الدبلة وحط الساعة» ترجمها كثيرون بلغة السياسة، بينما اعترفت كوثر برمزية الأغنية لحياة الإنسان وروتينها القاتل.

لم يحتكر منير إنتاج كوثر من الأغاني رغم نجاح الكيمياء الفنية بينهما، فكتبت لمدحت صالح وعلي الحجار ومحمد الحول وحنان ماضي وآمال ماهر وريهام عبد الحكيم وغيرهم. فالمتأمل لتجربة كوثر مصطفى يجد بوضوح أنها الأكثر تجليًا بين شاعرات الأغاني، سيمفونية ثورية نسوية متكاملة الإيقاع، عزفتها بجرأة وإتقان أمام جمهور من الرجال، لم يملك سوى أن يصفق بشدة.

بنكهة العسل الأسود

جاءت الألفية الثالثة بأفكار ثورية في كل النواحي، وضعت الروح البشرية في سباق سرعة مع كل شيء، وبنفس السرعة كان وهج المواهب الشعرية النسائية ينطفئ بمجرد أن يشتعل.

فقد كان للشاعرة «نور عبد الله» تجربة يمكن وصفها بأنها ذات اتجاه واحد، حالة حب وطنية ممزوجة بمرارة المعاناة، تجلت في أغنيتين هما وهج تجربتها: «مشربتش من نيلها» و«بالورقة والقلم»، ولم تتعد كونها حالة عابرة.

أمّا إذا ربطنا مقاييس نجاح الشعراء بالتعاون مع كبار المطربين، يمكننا منح علامة كاملة لتجربة «عبير الرزاز». فقد غنى لها: عمرو دياب، وجورج وسوف، وتامر حسني، ومحمد محيي، وفضل شاكر، ورغم أن تجربتها الشعرية غير ذات سمة واضحة من حيث الحالة أو الفكرة، نرى بوضوح أنها شاعرة غنائية تكتب ما يطلبه «السوق».

الموت المبكر للشاعرات

«شاعرات الأغاني في مصر عمرهن الفني قصير». هو اعتراف بالإجماع لخمس شاعرات لكل منهن في السوق أغنية أو اثنين. والسؤال هنا: لماذا تموت الشاعرات مبكرًا؟

الإجابة كانت واحدة أيضًا: «شللية الوسط الغنائي، وانشغال المرأة بالبيت وتربية الأطفال، وصعوبة مواعيد الفنانين بالنسبة للنساء في مجتمع شرقي».

مر أكثر من قرن على دخول المرأة لنادي الأغنية المصرية، ولم تكتسب عضوية دائمة، التغير الوحيد في وضعها هو تغير للأسوأ، فسوق الأغنية كان وما زال أرضًا قاسية يموت فيها غرس البنات قبل أن تتفتح بذوره.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.