عندما نشاهد فيلماً ونرى ممثلاً يقدم عملاً رائعاً وقدرة تمثيلية لا تُصدَّق، لكنه يلعب دوراً مُساعداً، وحين توزيع الجوائز على الفيلم لا يفوز صديقنا، حينها ينعى الممثل حظه، لكنه لا يلبث أن يلعب دور البطولة في فيلمٍ جديد، حينها يُدرك أن المجد علي بُعد خطوة. هكذا كان الأمر مع «فينج تشانج» الرجل الذي ظلمته نوبل.

مشكلة براءة اختراع

عام 2020 فازت كل من جينفر دودنا وإيمانويل شاربنتيه بجائزة نوبل في الكيمياء على تطويرهما لتقنية جديدة في تحرير الجينوم تسمى «كريسبر»، ومنذ ذلك الحين وقعت توقعات كبيرة على تلك التقنية، على الصعيد الوراثي. وكان أول تطبيق لتلك التقنية على يد فينج الذي أثبت أنه يمكن تطبيقها على خلايا الفئران والبشر، حيث نشر ورقة بحثية بعنوان «هندسة الجينوم باستخدام نظام كريسبر». وكان الفرق بين إنجاز دودنا وإيمانويل أن فينج يقوم بتطبيق تقنية كريسبر على خلايا الكائنات حقيقة النواة كالفئران والإنسان، بينما عملهما يقتصر على الخلايا بدائية النواة كالبكتيريا.

كان دور إيمانويل أنها اكتشفت الأجزاء المكونة لنظام كريسبر، ثم أتت دودنا لتختبر ذلك النظام ولترى ما فائدته، ثم أكمل فينج الأحجية بأن جعلها جزءًا من تقنيات التعديل الجيني. وفي عام 2014 منح مكتب براءات الاختراع والعلامات التجارية الأمريكي (USPTO) الحق التجاري في استخدام كريسبر لمعهد برود ومعهد MIT الذي يعمل فيه فينج، وهذا معناه أنه لكي تقوم أي شركة باستخدام كريسبر لا بد من التفاوض مع معهد برود أولاً، وهذا أشعر دودنا وإيمانويل بالغيظ، فقاموا بتكوين تحالف CVC (عباره عن دودنا وإيمانويل وجامعة بيركلي وجامعة فيينا)، ودار بينهم نزاع في ساحة القضاء حول الأحقية التجارية لكريسبر، انتهى في عام 2017 لأجل معهد برود، بموجب حكم مجلس البراءات والاستئناف (PTAB) ،وهذا ما جعل تحالف CVC يقوم بالاستئناف مرة أخرى عام 2018 في محكمة الاستئناف الأمريكية والتي قضت أيضاً لصالح برود.

انتهى الأمر تماماً عام 2022، عندما قضت (PTAB) لصالح برود، وعليها قامت بإصدار بيان بأحقيتها في كريسبر واستخدامها على حقيقيات النواة، وبأن ما قام به تحالف CVC بالأساس قائم على استخدام التقنية في «أنبوب اختبار» وليست على كائنات. وفي ظل نظام «منْ أول منْ اخترع»، جادل التحالف أن عمل برود هو امتداد لعمل دودنا وإيمانويل، وهذا ما جعل (PTAB) ينفي ذلك. وعلى الرغم من ريادة دور فينج في تقنية كريسبر، فإنه لم يشارك دودنا وإيمانويل في جائزة نوبل.

التعديل الجيني وتقنية فانزور

يُعرَّف المعهد القومي لبحوث الجينوم البشري (NHGRI) مصطلح التعديل الجيني بأنه عبارة عن تقنيات تسمح للعلماء بتغيير الحمض النووي لعديد من الكائنات الحية، بما في ذلك النباتات والبكتيريا والحيوانات، حيث يؤدي هذا إلى تغييرات في السمات الجسدية. تعمل هذه التقنيات مثل المقص، وتقطع الحمض النووي في مكان معين. ثم يمكن للعلماء إزالة أو إضافة أو استبدال الحمض النووي حيث تم قطعه. من ضمن تلك التقنيات ما هو معروف مثل كريسبر، وما هو جديد كفانزور.

تقنية كريسبر يستخدمها علماء الأحياء الجزيئي لتعديل الحمض النووي للكائنات الحية بشكل انتقائي. وكلمة كريسبر تعني أنها جزء طبيعي من النظام المناعي في خلايا البكتيريا للدفاع ضد خلايا فيروسات البكتيريوفاج، ثم تمت برمجتها لاستهداف تسلسلات محددة من الشفرة الجينية وتحرير الحمض النووي في مواقع محددة، حتى تُمكِّن للباحثين تعديل الجينات بشكل دائم في الخلايا والكائنات الحية، وتم اكتشافها بداية في خلايا العتائق ثم البكتيريا علي يد الإسباني «فرانسيسكو موخيكا». وتعمل التقنية عن طريق نسخ تسلسلات قصيرة من الـRNA، قادرة على مطابقة تسلسلات الحمض النووي المُستهدَّف، وعند عثوره يرتبط إنزيم CaS-9 بالحمض النووي المستهدف ويقطعه.

صورة لأنظمة كريسبر

في البداية تم اكتشاف نظام كريسبر المناعي في البكتيريا بوصفها كائنات بدائية النواه (أي لا تحتوي خلاياها على نواة)، ثم تم تطبيقها في كائنات حقيقية النواة علي يد فينج، لكن نفس الشخص سأل إذا كان هناك نظام مشابه في كائنات حقيقية النواة (أي وجود نواة داخل خلاياها كالإنسان والنبات والحيوان). وبالفعل عمل فينج وفريق معمله على ذلك وظهرت ورقة بحثية في Nature، في يونيو/حزيران 2023، عن تقنية جديدة تستخدم نظام الـRNA الموجه قابل للبرمجة، حيث أظهرت بروتينات فانزور (Fanzor) أنها تُستخدم في قطع الحمض النووي بدقة. معنى هذا أن آليات قطع الحمض النووي الموجهة من الحمض النووي الريبي موجودة في جميع ممالك الحياة.

عُزلت بروتينات فانزور من فطريات وطحالب، وتم التعرف على وظيفتها بأنها عبارة عن إنزيمات نيوكلياز داخلية تقطع الحمض النووي، حيث تستخدم RNA غير مُشفر يُسمى ωRNAs (تنطق أوميجا RNA) لاستهداف مواقع معينة في الجينوم، ويتم ترميز جينات فانزور داخل عناصر قابلة للنقل (أو الجينات القافزة)، كما وتعد أيضاً من الإنزيمات الأكثر وفرة على كوكبنا، وبالتالي فلها القدرة على التنقل بين حقيقيات النواة وبدائيات النواة.

في التجارب، لاحظ فينج أن بروتينات فانزور تتشابه مع كريسبر، حيث إن كليهما يستخدم جزيء RNA موجه، حيث يمكن قطع الحمض النووي بواسطة جزيء ωRNAs))، التي وُصِفت بأنها أسلاف لكريسبر، وبالتالي فإن أوميجا RNA اكتسبت قدرة وجودها في حقيقات النواة على هيئة فانزور وبدائيات النواة على شكل كريسبر. باختصار فهي تعتبر حلقة وسيطة بين الاثنين.

عند اختبار فانزور، وجدوا في البداية أنها غير فعّالة بنسبة 12%، لكن تم عمل طفرات في جينات فانزور رفعت كفاءتها إلى 18%، لكن فانزور أكثر إحكاماً ولديها قدرة أكبر على توصيلها إلى الخلايا والأنسجة، وأقل عرضة لتلف الحمض النووي، مما يعني آثارًا جانبية أقل، على عكس كريسبر، حيث يعيبها وجود آثار جانبية تؤدي لتدهور أجزاء من الجينوم.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.