إن قضية «النهاية» متموضعة وبشكل متجذر في الحس العام المصري اليوم. فكثير من الناس على مختلف مستوياتهم التعليمية والثقافية والعملية يكادون أن يكونوا مُطبقين على أن ما يحياه الإنسان اليوم من أحداث لهي نهاية الزمان حقا وصدقا بشكل يلفت كل من يخبر الحياة اليومية المصرية ويكابدها. فمسموع الإذاعة ومقروؤها يضجون بأحاديث النهاية واقتراب وصول «المسيح الدجال» الذي يعني تجسيدا للشر الذي تخبره البشرية في الوقت الراهن، وأن حتمية ذلك هي كحتمية شروق الشمس وغروبها. فما السر وراء تجذر تلك الظاهرة إلى ذاك الحد؟

الفيلسوف الألماني إريك فوغلين قدَّم في كتابه «العصر المسكوني» تحليلا لبنيةٍ مشابهة لبنية «خطاب أحداث النهاية المصري» تفشَّت بين بني إسرائيل، بعد عدة هزائم وإخفاقات، أسماها فوغلين بالنظرة الأبوكاليبتية أو «النظرة المتعلقة بنهاية العالم».

يُقدم فوغلين قراءةً لتطوّر نظرة بني إسرائيل لنفسهم عبر زمنية طويلة، تبدأ بحدث الخروج Exodus من مصر مع نبي الله موسى، وتصل ذروتها مع إشعياء الثاني Deutero-Isaiah الذي سادت بعده رؤية أن إسرائيل هي مركز العالم روحيًا وأنها هي المُختارة من قبل الإله لكي تنشر نوره على المعمورة كافة. فإسرائيل ليست أمةً عادية وإنما هي الأمة المركز في هذا العالم. ثم مع اصطدام اسرائيل مع الإمبراطورية السلوقية وبدأ تعاقب الإمبراطوريات والهزائم المتلاحقة للأمة اليهودية، بدأت نظرة إسرائيل لنفسها تتحول من نظرة المركز إلى نظرة النهاية الأبوكالبتية.[1]

فعند التصادم بين اليهود والسلوقيين وما أعقبه من خضوع اليهود للسلوقيين أصبحت نظرة اليهود للتاريخ على أنه لا معنى له، ولا أمل يكمن في التاريخ، إذ قوة الإمبراطوريات المواجِهة لليهود هي بالفعل أكثر قوةً من قوة اليهود أنفسهم، وعليه فلا يمكن أن يتغير هذا الوضع لصالح اليهود، حتى يعودَ للتاريخ معناه، إلا بتدخل إلهي صرف قد لا يحدث [2].

إن النظرة الأبوكاليبتية تنشأ متى شعرت جماعة ما أن مركزيتها قد فُقدت، وأنها أصبحت مثلها مثل سائر الأمم التي اعتادت أن تنظر لها الأمة المرادة على أنهم أمم أقل منها في تراتبية الوجود نحو الإله المتجاوز. وفي بنية تلك الرؤية هناك شعور بأن العدو هو عدو لا يُقهر و أن الإنسان أصبح يواجه شراً منفلتًا، أو بلغة مستوحاة من شكسبير: أن الشر انفلت من عقاله. وعليه فلا يمكن للإنسان أن يواجه هذا الشر المستطر أصالةً، فلابد من تدخل إلهي لكي تُعَاد الأمور لنصابها.

وبصورة أعمق فإن النظرة الأبوكاليبتية هي تتلخصُ في أن الجماعة بدأت ترى توترا فيما أسماه فوغلين «البداية» و «المارواء». فالبداية هي التجربة الأولى الصافية بين الحماعة والإله، والتي تم التعبير عنها رمزيًا عند اليهود بكونهم «شعب الله المختار»، أما الماوراء فهو شعور الجماعة بوجود الإله معهم وأنه يرعاهم وأن أفعالهم تصدر عن ذلك الشعور. فمتى فقدت الجماعة بدايتها ساد ظنٌ بأن الإله لم يعد يرعاهم، و أن الإله تركهم في طغيانهم يعمهون، وأن النهاية قد حلّت عليهم بالفعل [3].

وهذه النظرة -أزعم- هي البنية الداخلية للنظرة الشائعة حاليا بين المصريين، أو بين المسلمين العرب تحديدًا [4]. فإذا نظرنا –على عَـجلٍ- إلى «بداية» الجماعة الإسلامية العربية وجدنا آية «كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ»[5]، والتي –بدون خوض في التفاسير المختلفة- تعتبر آية مركزية توضح علاقة الإله مع الجماعة. ثم إذا نظرنا لتجلي تلك العلاقة في التجربة الحياتية الإسلامية وجدنا مؤرخ كإدوارد جيبون يقول:

«(إن) نظام رجال الدين وانضباطهم الدنيوي والروحي أمور غير معروفة لدى المسلمين، وحكماء الشرع هم دليل ضميرهم وهداة إيمانهم. من المحيط الأطلسي إلى نهر الغانج، يعد القرآن التقنين الأساسي، ليس للدين فقط، بل للفقه المدني والجنائي. والشرائع التي تحكم تصرفات البشر وممتلكاتهم تحميها إرادة الله المعصومة التي لا تتغير»[6]

فكان هناك مركزية لعلاقة الإله مع الأمة تجلّت في موضعة القرآن في قلب الحضارة الإسلامية حتى في فترات ضعفها و انحدارها، أي أن «الماوراء» كان حاضرًا في التجربة الإسلامية.

ثم تُـفجع هذه الجماعة بفاجعة انهيار الخلافة ودخول الإحتلال لأراضيها، ثم بداية علاقة ولع تقليد المغلوب للغالب كما أشار إليها إبن خلدون في مقدمته [7]، ثم بمأسسة النظم الدستورية واختزال الشرع في مؤسسة القانون [8]، ثم بتقسيم البلدان، ثم ظهور إسرائيل ككيان محتل لفلسطين، ثم هزائم عدة أبرزها الصدمة الكبرى في 1967، ثم بعهود من النظم الإستبدادية والقمع، ثم بداية الثورات العربية والتي تزامن معها انفلات أمني، ونتج عنها حرب ضروس في سوريا، وظهور «تنظيم الدولة الإسلامية»، وحدوث مذابح على المستوى الداخلي بين المتصارعين سياسيًا في البلدان المختلفة. فالنظرة الأبوكاليبتية العربية بدأت تأخذ شكل جديّ مع عام سقوط الخلافة 1925، وتبلورت وصار لها ثقلها في الحس العام بعد أحداث الثورات العربية.

فلا عجب إذًا أن ينظرَ العربي المسلم اليوم إلى ما يحدث على أنها حقاً النهاية، وعلى أن المسيح الدجال -الذي هو تجسيد للشر المنفلت- على وشك الظهور، إن لم يكن ظهرَ بالفعل. ولا عجب أيضاً من أن تبدأ موجةٌ جديدة من «تأليه» الحكام العرب، خاصة بعد الثورات وانفلات الزمن والشر من عُقاليهما، إذ -كما رأينا- الحلُ الوحيد لانعدام الأمن والضياع المشهود في النظرة الأبوكاليبتية يكون بتدخل إلهي، وعليه فأي بادرة من أي حاكم عربي لإعادة الأمن والأمان للجماعة يصحبها تصدير خطاب عود العزة و الكرامة، من شأنه أن يجعلَ الحاكمَ مبعوثَ العناية الإلهية، بل وأن يُرى في الحاكم أنه المهدي المنتظر [9] الذي سيهزم الشر ويأتي بجنة اللى على الأرض.


[1] Ed. Michael Franz, “the collected works of Eric Voegelin: the Ecumenic Age”, (Columbia; University of Missouri, 2000), p. 73 [2] Ibid, p.73 [3] Ibid, p.66-74 [4] على أن تلك النظرة موجودة أيضا عند المسيحيين العرب، مما يستلزم مزيد بحث و بسط لا تسعه تلك الورقة الصغيرة.[5] القرآن الكريم، سورة آل عمران، آية 110.[6] Edward Gibbon, “The decline and fall of the Roman Empire”, (New York; Fred de Fau and Co., 1906), Chapter 5, P 325 [7] عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، مقدمة ابن خلدون، القاهرة: مكتبة ابن سينا، 2009، صـ 157.[8] انظر: وائل حلاق، الدولة المستحيلة: الإسلام السياسي و مأزق الحداثة الأخلاقي، الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014.[9] انظر في ذلك: معتز نادي، حاكم مصر في عيون مريديه: مبعوث السماء لأرض المحروسة، مقال منشور في المصري اليوم بتاريخ: 11/ 5/ 2014.