في الإنسان بدن طيني وروح ربانية، واجتماع الروح مع البدن يجعل الإنسان نفسًا، ثم يكون الإنسان لما يغلب عليه من صفات الخير والشر؛ فتصير القسمة ثلاثية: نفس مطمئنة إذا غلب خيرها شرها، ونفس أمارة بالسوء إذا غلب شرها خيرها، ونفس لوامة إذا كانت تراوح بينهما. فالنفس متشابكة مع البدن تسري فيه سريان الماء في العود، ومهمة المسلم تتمثل في:

1. تخليصها من هذا التشابك بحيث يميز بين جيد فعلها ورديئه، دون الوقوع في تلبيس إبليس.. فتتعلم كيف تميز بين دواعي الشيطان ودواعي الرحمن.

2. التربية والتهذيب لتنمو فيه اللطيفة الربانية، فتصبح أقوى من دواعي البدن، ليصل الإنسان إلى مرحلة قيادة الروح للجسد، أي قيادة المعاني الربانية للرغبات الشهوانية.

3. العمل على صفاء النفس وشفافية الروح، وعندها ستتعلم كيف ترى في بعض أفعال الشيطان نفسه معنى التدبير والحكمة الإلهية! فكيف يحصل هذا؟


في العالم أحداث ووقائع كثيرة، اسأل نفسك: كيف أراها وأفهمها؟

1. إن كنت متحققًا بالإيمان بالله الواحد؛ ستنسب له كل فعل وحركة في الوجود، لأنه لا فاعل إلا هو.

2. إن كنت تؤمن بحكمته؛ ستفسر من خلالها كل فعل وحركة، منتظرًا ظهور أوجه الحكمة إن لم تظهر لك وقت الحدث أو الواقعة.

وليسهل عليك الأمر ، احفظ الآتي: فعل الله تعالى في كونه يتمثل في أسباب ومسببات، مقدمات ونتائج، ويقع بيد أشخاص نعرفهم ولا نعرفهم، فلو نظرت لهذا كله دون اعتبار الفاعل الأصلي؛ ستكون من الغافلين.. لماذا؟

لأنك ستُرجع الأمور إلى أسبابها القريبة، ترى الحوادث فلا ترضيك، وترى الأشخاص فتعاديهم وتسخط عليهم، لظنك أنهم فاعلون متصرفون، وسترى المقدمات فتنسب لها التدبير، فتدور في حلقة المُلك وتنسى الملكوت، الذي يجعلك تنسب الفعل للأكوان غافلًا عن رب الأكوان.. فماذا سيحدث إن سرت في هذا الطريق؟


حين يحدث هذا سيكون إيمانك اسمًا لا تحققًا، وستجد شيطانك يحول طاقة غضبك إن غضبت عن الله، وطاقة رضاك إن رضيت عن نفسك، وهو عكس المطلوب؛ ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك، أي ستجد نفسك تسيء الظن بالله، وتحسن ظنك بنفسك!

ومن يرد الله فتنته وزيادة بلائه، سيصل إلى درجة إثبات وجود نفسه نافيًا وجود الله بالكلية، كحال الملحدين، وهو عكس المطلوب أيضًا! فما الذي يترتب على هذا الحال؟


سينظر العبد لنفسه باعتباره: المدبر المهيمن، وانظر كيف احتل اسمين من أسماء الله تعالى، حتى لا تعجب كيف يدعي بعض الناس الألوهية فيحتل زورًا جميع الأسماء؟!

يقع العبد في فخ التدبير عندما لا يرى ربه في الحوادث، مع إيمانه بهيمنته في الوقت نفسه! وإبليس يتصرف في قلب العبد بطريقة عجيبة فأحيانًا يريه نفسه وأحيانًا يريه ربه، فيرى فعل الخالق فيما لا يحبه من الأمور والحوادث، ويرى فعل نفسه وينفي فعل الخالق فيما يحب من حوادث.. والهدف في الحالتين؛ نفي وجود الله وإثبات النفس! فمتى يصل العبد إلى هذا الحال؟


يصل العبد إلى هذا الحال حين تظهر في قلب العبد لمحات من إساءة الظن بربه، وذلك إذا قَوِي في نفسه نسبة الحوادث لأسبابها القريبة سواء كانت مادية أو بشرية.

إحسان الظن بالله يعنى توقع الخير من كل فعل تراه، ومن كل واقعة تعيشها، تحدث فيك أو معك، انطلاقًا من إيمانك بحكمته تعالى في فعله وفي خلقه، فهو المدبر لشؤون خلقه، القيوم: القائم على ما يصلحهم في الدنيا والآخرة.

والعيش بهذا المعنى وإشراب القلب فحواه عسير على قلوب لا تقف على حكمة الله في فعله ولا تصبر على بلائه، بل ناظرة إلى ما تحت الأقدام، تدور في الأحداث والمواقف لا تخرج عن مقتضى الحس، فتعيش في دوامة لا تنتهي.

ولو أنها رفعت رأسها إلى الله واستحضرت معنى الحكمة في فعله ومعنى التدبير في خلقه؛ ما وقعت فيما وقعت فيه من سوء ظن بالله تعالى.. فما سبب الوقوع في هذا البئر المظلمة؟


تكون البداية من خلل في الإيمان بالقضاء والقدر، الذي هو فعل الله في كونه ومع عباده.. والإيمان بالقضاء والقدر عاصم من الكفر، وأول سبل صفاء النفس ونقاء الروح.

إذا ضعف الإيمان بالقضاء والقدر وضع العبد نفسه مدبرًا للكون، فقال: ينبغي أن يكون كذا وينبغي ألا يكون كذا.. والناس في هذا التدبير متفاوتون، فتتفاوت سعادتهم وشقاؤهم.

للكون رب، هو الفاعل الحقيقي والمتصرف الأوحد، ولا ينبغي للعبد أن يسأل الرب أو يتهمه في فعله قائلًا: لم فعلت كذا؟! وربما لا يصل الأمر إلى هذا الحد إذ يكتفي بإضمار التذمر والغضب الذي هو نقيض الرضا والتسليم، فيقع في الاضطراب والحيرة.. فكيف نحسن الظن بالله؟


الخلق عيال الله يُجري عليهم فعله وينفذ بهم مراده، ووقائعهم وحوادث أيامهم من خلق الله لا غيره، فالوقوف على تلك الوقائع وهذه الحوادث دون اعتبار الفعل الإلهي مؤد إلى سوء الظن بالعباد، وقادح في الإيمان، لأنه سيؤدي إلى سوء الظن بالله.

المؤمن الصادق ينظر لما يقع له باعتباره من تربية الله له، عقوبة وبلاء أو ترقية واصطفاء، فيتهم نفسه ويتذكر ذنوبها وتقصيرها.. فالمؤمن متهم لنفسه والغافل يدافع عنها! ولا يحدث ذلك للغافل إلا لأنه أشرك وتأله، أشرك فرأى الفعل من العباد، وتأله فرأى نفسه لا يخطئ!

من أراد أن يتعلم حسن الظن بالله؛ فليحسن الظن بعباده، والجزاء من جنس العمل.