السؤال الأهم في علاقة ألواح جزولة بأحكام الشريعة والفقه هو: هل الأعراف التي دونها أهل جزولة في تلك الألواح معتبرة شرعاً أم لا؟ وما علاقتها بالاجتهادات الفقهية ذات الصلة بموضوعاتها؟

والإجابة التي قدمها الأستاذ امحمد العثماني تؤكد أن تلك الأعراف الجزولية معتبرة شرعاً، وأنها مستندة إلى المصالح المرسلة، وإلى السياسة الشرعية، وهي كذلك منضبطة بالمقاصد العامة للشريعة. ولكن بعض الفقهاء اعتبرها خارجة وليست منضبطة بالأحكام الشرعية، وبعضهم ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فاعتبرها ضلالاً وتحاكماً إلى الطاغوت. وتلكم هي المعضلة الكبرى التي تتجلى في الاستقطاب الحاد بين ضيق النظر الجزئي، واتساع النظر المقاصدي القائم على مراعاة المصالح ودرء المفاسد.

لقد انتظمت «ألواح جزولة» مختلف جوانب الحياة في «سوس» بالمغرب الأقصى، قبل العصر الحديث. وقد رصد الأستاذ امحمد العثماني في كتابه «ألواح جزولة» –تم التعريف به في مقال سابق– أهم المرافق والمصالح التي انتظمتها تلك الألواح وهي: الأمن والدفاع، بما في ذلك ترتيب أنظمة الحصون ومخازن الأقوات. والتجارة وتنظيم الأسواق، بما في ذلك تأمين الواردين إلى السوق والمنصرفين منه، حيث كان يتم تأمينهم يوم السوق ويوماً قبله ويوماً بعده. والمدارس وطلاب العلم والمدرسين والفقهاء والقراء والغرباء والسائحين. وشئون الفلاحة والري والرعي وترتيب حصص المياه لسقي المزروعات دون خلافات أو نزاعات. وطحن الغلال وتدبير الدقيق ومواد عمل الخبز وتأمين الغذاء. ورعاية الحرف والأشغال الصناعية بما في ذلك الحدادة وما إلى ذلك.

وحفظت الألواح أيضاً مصالح «الحي اليهودي» في منطقة جزولة. وأقدم أحيائهم هو الحي اليهودي في إيفران بالأطلس الصغير. واستندت الألواح في ذلك على أن حكم اليهود في الشريعة أنهم «معاهدون»، ولأجل ذلك وفر لهم الجزوليون الأمن على أنفسهم وأبنائهم وأموالهم، ودونوا ذلك في ألواح خاصة، مع توفير الحرية لهم في التمليك، وفي البيع والشراء، مما وفر لهم الاستقرار والازدهار عبر الزمن (ص 120).

وفي الجملة، عالجت الألواح قضايا الجنايات، والجنح، والمخالفات -بلغة القانون المعاصر- وفرضت عقوبات زجرية تجاوزت أحياناً العقوبات المنصوص عليها في مصادر الشريعة، كما عالجت بعض المسائل المدنية بما يتفق مع أحكام الشريعة وقواعدها الأساسية. ومن هذه الناحية، كانت الألواح مرآة للحياة الاجتماعية، وبوتقة لتنزيل الحكم الشرعي على الوقائع والأقضيات المستحدثة. ووجد المؤلف أن نصوص الألواح تشبه نصوص القوانين الحديثة من حيث احتواؤها على مبادئ عامة، وتعريفات للجرائم، وأحوال التلبس وغير التلبس، والجرائم السلبية وهي الامتناع عن فعل مأمور به، والجرائم الإيجابية وهي إتيان الفعل المنهي عنه، والجرائم ضد الجماعة، وتلك التي ضد الأفراد، والجرائم السياسية، وتلك العادية. كما أن أصول العقوبة التي يرد النص عليها في الألواح يجب أن تكون واردة في لوح صادر عن جماعةٍ أو قبيلة، وأن تكون شخصيةً تصيب الجاني وحده وشركاءه، وعامةً تنطبق على الجميع دون تفرقة. وبهذا المضمون يكون «اللوح» بمثابة تشريع ملزم للمخاطبين به، وتقوم على إنفاذه هيئة من العلماء، أو من الأعيان في كل قبيلة من قبائل جزولة.

ومن أهم الأعراف التي تضمنتها الألواح، ما نص عليه لوح آيت وادريم المؤرخ أواخر صفر 1235هـ/أواخر نوفمبر 1819م، بشأن عقوبة «كسر العافية»؛ ومعناها: نقض الهدنة إذا انعقدت بين حلف القبائل، أو بين قبيلة وقبيلة أخرى، وهذه العقوبة هي: أن من «يكسر العافية» يدفع مائتي مثقال، وتخرب داره، ويغرب عن بلدته. أما عقوبة من مات أثناء قيامه بالسرقة فهي أن لا دية له. وعقوبة من أحرق الشعير يغرم متاع الناس ويدفع عشرة مثاقيل. وتلك بعض الأمثلة على بعض العقوبات المغلظة التي لم يرد بها نص صريح في الشريعة، وهذا ما أثار الاختلاف بين علماء جزولة أنفسهم.

بعض الذين رفضوا التحاكم إلى «الألواح» من علماء جزولة المالكية؛ رفضوها بحجة أنها غير شرعية وأن «الضوابط التي اتفق عليها الشيوخ والضُّمان هي ضلال مبين» حسب رأي أبي عبد الله الهشتوكي قاضي مراكش (ت 1098هــ). وقال أبو زيد التامانارتي (ت1060 هــ): «إن هذا من التحاكم إلى الطاغوت الذي أمرنا أن نكفر به». والشيخ محمد ناصر الدرعي (ت 1058هــ) عندما سئل عن قوم من أهل البادية أعرضوا عن الأحكام الشرعية إلى أحكام وعادات وعقوبات بالمال قال: «إنهم عصاة». وهذه الآراء تمثل الفريق الحروفي/النصوصي، الذي يقف عند جزئيات الأحكام وحدها، ولا ينظر إليها في سياقها الاجتماعي وضروراته، لا في ضوء المقاصد العامة للشريعة.

أما أغلبية علماء جزولة، وهم مالكية أيضاً، فقد أجازوا الألواح، وذهبوا إلى أنها لا تصادم الأحكام، بل تحقق مقاصد الشريعة، وسندهم في ذلك هو فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما هاجر إلى المدينة، وأمره بكتابة «دستور المدينة»، و«اعتبار العرف» مصدراً من مصادر الأحكام عند أغلب المذاهب الفقهية. ومن أولئك العلماء الذين أجازوا تلك الألواح بما تضمنته من أحكام عرفية: الحسن بن عثمان الجزولي (ت 933هــ) قال: «ومسائل ألواح القبائل منها ما وافق الشرع، وهو أكثرها، لكن على غير مذهب مالك». ومنهم أيضاً فقيها جزولة: أبو عبد الله محمد التامانارتي (ت 971هــ)، وعبد الله بن مبارك الأقاوي (ت 1015هــ)، وهما أول من أحدث «الحلَّاف» في قضاء الأموال. وقد قررت الألواح أيضاً العقوبات في الأموال وبالأموال. ولكن ما معنى «الحلَّاف»، وما سند شرعيته؟

تكشف أغلبية ألواح جزولة عن أنها اعتمدت في «البينة» (إقامة الدليل) على: الإقرار، والشهادة، واليمين. وهي في ذلك موافقة للأصول الشرعية المتعلقة بالبيِّنة. ولكن «اليمين» بحسب الألواح غالباً ما تكون «جماعية»؛ حيث يحلف المتهم مع عدد من أقاربه، ولا يحلف وحده. ويسمى هؤلاء الحُلَّاف في عرف جزولة بـ «زكات»، أو «إيمزكان». ومن شروط الحالف أن يكون رجلاً بالغاً مسلماً، ولا تحلفُ المرأة في قضاء الألواح إلا إذا كانت المدعى عليها في القضية. وتنص بعض الألواح في بعض الجنايات أن يكون من بين الحُلاَّف عدد من المبرزين يسمون عندهم «إيمرّْضى»، والمفرد «إمرْض»، ويكون رجلاً معروفاً بالصلاح والتقوى، وما لم يأت المتهم بالحُلَّاف تكون يمينه باطلة، ويعدُّ ناكلاً. وبعض الألواح اشترطت أن يأتي المتهم بالحلاف من أقاربه فقط. وهذا النوع من اليمين لم يرد به نص شرعي؛ إلا في الدماء، دون الأموال. والفقهاء يقولون من قديم إن «الأصل في الشرع أن المكلف لا يحلف ليستحق غيره». فهل للجزوليين مستند في هذا غير العرف؟

يرجِّح الأستاذ امحمد العثماني أن مستندهم هو: سد الذريعة، وأحكام السياسة الشرعية التي تقوم على الردع والزجر. وإذا كان الفقهاء يقولون إن اليمين شرعت لحفظ المال، فإذا عُلم أنها لا تحفظه، أو غلب الظن بذلك، لم تشرع، ويكون المشروع ما يحصل به الحفظ، ومن هنا وجد الجزوليون أن إلزام المتهم بإحضار جملة من الشهود يتحقق بشهادتهم مقصد «حفظ المال»، تماماً كما هو الشأن في قضاء «اللفيف»؛ وقد أجاز فقهاء المالكية الشهادة باللفيف؛ أي بمجموع الناس الذين يعيشون في المنطقة التي ينتمي إليها أطراف النزاع أو الخصومة، وإليه أشار الونشريسي (راجع كتاب الونشريسي الذي طبعته وزارة الأوقاف المغربية في سنة 1998م، بعنوان: فتاوى تتحدى الإهمال). وقد اقتبس النظام القضائي الإنجليزي «الشهادة باللفيف» من الفقه المالكي، وأدخلها في إجراءات الإثبات.

ونحن نعلم أن للحلاف واللفيف سوابق كثيرة عند المالكية. ومن ذلك ما نقله ابن وضَّاح عن قاضي الجماعة بقرطبة محمد بن بشير، وهو: أن ابن عاصم كان محتسباً في الأندلس، وكان يُحلِّف الناس بالطلاق، يَغلظ عليهم، في قضايا الأموال، قال ابن وضاح «فذكرت ذلك لسحنون»، فقال: من أين أخذ ذلك؟ فقلت له من الأثر المروي عن عمر بن عبد العزيز: «تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور». والمتهم لما كان لا يرعوي بتوجيه اليمين عليه وحده، ألزمه أعيان جزولة في ألواحهم بتزكية أقاربه وجيرانه إياه، وهم الذين يتقوى بهم ويتقوون به، فإذا أبوا تزكيته ومتابعته في اليمين الموجه عليهم فإن التهمة تكون قوية عليه.

وعليه؛ ولما كان الفساد منتشراً، ابتكر ذوو المسئولية في المجتمع الجزولي هذا الإجراء الرادع بحثاً عن الحقيقة، وزجراً للظلمة، وصوناً للأموال، وإقامة للعدالة. والأمر نفسه يقال بالنسبة للعرف الجزولي الذي يقضي -بحسب الألواح- بأن يؤخذ الإنسان بجريرة غيره، ويسمى في لغة الألواح «الناعر»؛ أي الذي تأخذه نعرة القرابة أو التعصب لشخص ارتكب جناية أو مخالفة فيؤيده ويساعده على جريمته، وهو «المُحرِّض» في لغة القانون المعاصر، ورغم أن القرآن الكريم ينص صراحة على أنه «لا تزر وازرة وزر أخرى»، فإن الأعراف في جزولة عاقبت «الناعر»، وتضمنت مؤلفات الفقهاء ما يفيد إجازة مؤاخذة الإنسان بذنب غيره، مستدلين عليها بحديث عمران بن حصين الذي رواه مسلم، معبرين عنها بــ «الكفاف»: وهو أن يضيع لشخص حق في بلد، ولا يجد من ينصفه منه فيها، لعدم وجود قضاة أو حكَّام عدول، فيذهب المظلوم صاحب الحق لبلده؛ حتى يجد واحداً من قرابة الظالم أو من قبيلته فيأخذ منه الحق. وقد جرى العرف لأزمنة طويلة بالعمل بــ «الحلاف»، وبعقوبة «الناعر»، وكما قال الفقهاء: «كل عرف تقادم عهده بأمرٍ، لا بد أن يكون له سند في الشرع»، و«العوائد التي لا تصدم النص معتبرةٌ».

انتهى الأستاذ امحمد العثماني من دراسته للأعراف التي تضمنتها ألواح جزولة إلى أنها تركزت في باب التعازير، وفي الجنايات، دون أن تتطرق إلى العبادات والعقائد بحال من الأحول سوى الإقرار بوجوب الالتزام بها، والأخذ على يد المنتهكين لها. وقد وجد أن أهل جزولة كانوا يستندون -فيما قرروه في ألواحهم من قواعد عرفية تخالف العقوبات المنصوص عليها في بعض الجنايات والتعازير- إلى أمرين هما: المصالح المرسلة، والسياسة الشرعية.

أما المصالح المرسلة فهي أوسع أبواب الفقه الإسلامي وأكثرها مرونة وقبولاً لاستيعاب المستحدثات. والمصالح المرسلة بحسب المالكية هي: المصالح المطلقة عن كل تقييد يدل على اعتبارها أو إلغائها، وهي تقتضيها البيئات والضرورات وتطور حاجات الناس بعد انقطاع الوحي، وهي معتبرة وتنبني عليها الأحكام ولو خالفت النص والإجماع إن كانت المصلحة ضرورية قطعية كلية. وقد سماها بعض العلماء بالاستصلاح، وبعضهم بالسياسة الشرعية، وبعضهم بالمناسب المرسل، والمعنى لديهم متقارب.

وأما السياسة الشرعية؛ فهي اجتهاد أولياء الأمر فيما يصلح أحوال الناس، وهي تشريع لرعاية الآداب والمصالح وانتظام الأحوال ودرء المفاسد. وذهب فقهاء السياسة الشرعية في أغلبهم، قديماً وحديثاً، إلى أن: التوسع في أحكام السياسة الشرعية ليس فيه إحداث شرع جديد، بل هو من صميم الشريعة؛ إذ للضرورات والنوازل أحكام تخصها بحسب قدرها.

التزم الأستاذ العثماني بالإرث الموروث في باب «السياسة الشرعية» أثناء بحثه عن سند شرعي للأعراف التي وضعها الجزوليون في ألواحهم التي درسها. ولكنه لم يحاول الاقتراب من هذا الإرث برؤية نقدية، رغم أن تناوله لمسائل موضوعه تكشف عن امتلاكه ناصية النقد ومعرفته بأدواته وآدابه.

وبدلاً من أن يوجه الأنظار إلى وجوب البحث في وسائل الوقاية من إساءة استعمال أولياء الأمر للسلطة التقديرية التي تمنحهم إياها «السياسة الشرعية»، راح يعيد أقوال قدماء العلماء في ترسيخ «السلطة المطلقة» لهم في فعل ما يرونه تحت دعوى «رعاية المصالح العامة». ولا أحد يعترض على أن تكون لأولياء الأمور سلطات لتحقيق هذه الرعاية، ولكن حوادث التاريخ وتجاربه القديمة والمعاصرة أثبتت أن «السلطة المطلقة مفسدة مطلقة»، وأنه لا بد من وضع ضمانات صارمة على ممارسة هذه السلطة بصفة عامة، والسلطة التقديرية التي تأتي تحت عنوان «السياسة الشرعية» بصفة خاصة.

وما لم ينتبه إليه الأستاذ العثماني، نبهه إليه برفقٍ أستاذه «سي علال الفاسي» في تقريره عن هذا الكتاب، وقد كان مشرفاً عليه وموجهاً له؛ حيث نفى ما نسبه بعض المؤلفين إلى الإمام مالك من القول بجواز قتل الثلث لاستصلاح الثلثين، وقال علال الفاسي: «فالتحقيق أن ذلك لم يصح عن مالك، ولا يتفق مع أسس الإسلام التي تعتبر القتل ضرورة تقدر بقدرها، ولا ينبغي التجاوز فيها (لا بسياسة شرعية أو غير شرعية)، علاوة على أن القول بذلك يفتح الباب لأولياء الأمور قد ينفذون منها إلى الإضرار بكثير من الناس بدعوى حماية الباقين» (ص13).

وحب الحصيد هنا هو: أن ما قدمه الأستاذ العثماني في هذا الكتاب «ألواح جزولة والتشريع الإسلامي» يعتبر -في نظري- إسهاماً معتبراً في الدراسات التي تستهدف التأسيس لما أسميه «علم اجتماع الفقه»، وتمهد أيضاً لتأسيس «علم التاريخ الاجتماعي للفقه» على ما سبق بيان الفرق بين هذين العلمين الغائبين.

والله تعالى أعلى وأعلم.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.