بدأت منصة «HBO» في عرض مسلسل «House of Dragons»، والذي تبدأ أحداثه قبل 300 عام من مسلسل «Game of Thrones»، ليعود عالم التنانين ولعبة السياسة المُميتة في قارة «ويستروس» إلى الشاشة مرة أخرى بعد غياب ثلاث سنوات.

المسلسل الجديد اقتُبس من كتاب «Fire & Blood» الذي نُشر عام 2018 باللغة الإنجليزية، عقب النجاح الاستثنائي للمسلسل الأصلي المقتبس بدوره من سلسلة روايات «أغنية الجليد والنار» للكاتب الشهير «جورج أر. أر. مارتن».

وضع جورج مارتن Fire & Blood على أنه كتاب دُوِّن في عالم ويستروس الخيالي من خلال المؤرخ الوهمي (مايستر جيلداين)، يسرد فيه تاريخ حكم عائلة التارجيريان، لنتتبع هروب تلك العائلة النبيلة من قارة فاليريا قبل فنائها بسبب كارثة طبيعية غامضة، ثم غزوهم للممالك السبعة في قارة ويستروس، مستخدمين قوة التنانين التي كانت غائبة عن خصومهم، وتوحيد الممالك تحت العرش الحديدي لأيجون تارجيريان، الذي لُقِّب بـ «أيجون الفاتح».

ثم يتناول الكتاب تاريخ الملوك من نسل الملك أيجون، الذين حكموا معظم أنحاء الممالك السبعة ما يقرب من ثلاثة قرون، وتباين حكمهم بين الحكمة والغباء والشدة والضعف، كما يسترسل الكتاب في الصراعات الدموية داخل عائلة التارجيريان التي تطحن جميع الأطراف وتبدأ بعدها فترة استقرار، لتدور عجلة الصراعات من جديد.

في عالم الفانتازيا

لا يمكن وصف Fire & Blood بأنه رواية، لأن مارتن لم يستخدم أساليب الحكي الروائية التقليدية، بل هو كتاب تاريخ يقتبس أساليب سرد وألفاظ مؤرخي العصور الوسطى الأوروبيين، لسرد أحداث وتواريخ خيالية من قارة ويستروس، التي ليس لها وجود إلا في مخيلة الكاتب.

محاولة تأليف كتاب خيالي كجزء من عالم فانتازي ضخم ليست الأولى من نوعها، فكان الأب الروحي لهذا النوع من الفانتازيا «جي. أر. أر. تولكين» الذي نشر كتاب «السيلماريلين» Silmarillion، الذي يضم التاريخ الأقدم للأرض الوسطى في روايات «سيد الخواتم»، كما حاول «أتش. بي. لافكرافت» تدوين تاريخ كتاب «العزيف الغامض»، كما توجد محاولات معاصرة عديدة في هذا النوع من الفانتازيا.

كل تلك الأمثلة لكتب أُلفت داخل عالم فانتازي، ويمكن اصطلاح هذا النوع من الأدب بصناعة الأسطورة (ميثوبايا – Mythopoeia)، حيث يصنع الكاتب أساطير خاصة بعالمه الخيالي من الأساس في عصرنا الحديث، أي إنها ليست أساطير شعبية قديمة مرتبطة بديانة أو طقوس معينة طُوِّرت مع مرور الزمن، لكنها من اختلاق كاتب معاصر، أي إنها ليست ناتجة تطور ثقافي معين.

هذا التصنيف لا ينطبق تمامًا مع كتاب Fire & Blood؛ لأنه لا تُصنع فيه الأسطورة، بل يُصنع التاريخ، يحاول الكاتب فيه الاقتراب من وقائع حدثت في تاريخ ويستروس القريب نسبيًّا، فهو محاولة للتماهي مع العالم الفانتازي الذي خلقه الكاتب.

يعتبر الكتاب تجربة جادة، لن يشعر القارئ بالاستسهال أو التهاون في تناول تاريخ عائلة التارجيريان، دعنا فقط نذكر بأن الكتاب مُكوَّن من حوالي 800 صفحة، لنعرف مدى جدية الكاتب في وضع تاريخ تفصيلي لأسرة التارجيريان، بل يجب ملاحظة أن الكتاب لا يغطي الخط الزمني الكامل لحكم العائلة، وسينشر الكاتب جزءًا ثانيًا لتناول ما تبقى، ويبدو أن الكتاب الثاني لن يقل ضخامة.

ومع ذلك نجح الكتاب في توفير جرعة التسلية التي تجعل القارئ لا يشعر بضخامة العمل، فنجد فيه المزيج المعهود الذي برع فيه جورج مارتن بين الدراما السياسية ودراما الشخصيات، ونسبة العنف التي تصل إلى حد البشاعة، والتي تعطي للعمل واقعية تاريخية بشكل مريب.

راوٍ لم يشاهد الأحداث

نقل جورج مارتن حكايته من الوسيط الروائي إلى وسيط أدبي مختلف في كتابه، وسيط جعل للحكاية طابعًا سرديًّا مميزًا، سريع الإيقاع بشكل كبير لكن لا يخل بالأحداث أو يهمل في منطقية الدراما، ولكي نعرف ما هي طبيعة هذا الوسيط الجديد، يجب أن نعلم من هو راوي كل هذه الأحداث.

في عالم الكتاب والرواية الخيالي المايسترز (Maesters) هو تنظيم مكون من باحثين وأطباء وعلماء يتعلمون جميع الفروع المعرفية – الخاصة بعالم الكتاب – داخل مقر التنظيم في (القلعة) الموجودة في مدينة (أولدتاون)، لذلك فقد تعلَّم راوي أحداث الكتاب – وهو مايستر (جيلداين) – فروع المعرفة الأساسية لكي يكون مؤهلًا للقب «مايستر»، ولكتابة هذا الكتاب الضخم وجب عليه الاطلاع على مصادر كتبها مايسترز أقدم منه، وذلك لسرد أحداث سبقت عصره بقرون، لأنه بدأ في كتابة هذا الكتاب في عصر الملك (روبرت باراثيون) أي بعد نهاية حكم التارجيريان.

فنحن بصدد راوٍ لم يشاهد الأحداث التي يسردها بنفسه، بل نقل ما دوَّنه سابقوه من نفس التنظيم (Maesters) الذي خضع لسلطة التارجيريان في أغلب سنوات حكمهم، وكما هو الحال مع المؤرخين القدماء، يُؤرِّخ (جيلداين) ما وصل له من أخبار شفهية أو مكتوبة أحيانًا دون الاشتباك معها وكأنه مجرد مُبلِّغ.

الراوي هنا مؤرخ يستقصي أخبار عهد التارجيريان من مصادر أقدم تنوعت واختلفت فيما بينها، وينقلهم مايستر جيلداين ويحاول بقدر استطاعته ألَّا ينتقد مصادره، وسنجد جورج مارتن يستفيد من هذا الأسلوب بذكاء حتى يُثقل شخصياته ويجعلنا نتعرَّف عليهم من زوايا ورؤى متعددة ومختلفة عن أساليب السرد التقليدية، أي إن تجربة القارئ مع الشخصيات مختلفة وأكثر ثراءً.

لوحات من التاريخ

نتج عن هذا الوسيط رؤية متضاربة أحيانًا للشخصيات نتيجة لتضارب المصادر، لكن في النهاية جيلداين له انحيازاته الواضحة لكل شخصية سواء بالسلب أو بالإيجاب أو كلاهما معًا في نفس الوقت، كما نجد هذا التضارب في وصفه للملك (جهريس تارجيريان) رابع ملوك ويستروس من بعد غزو أيجون.

ففي أول اجتماعاته مع لوردات العائلات النبيلة في أحد الحفلات يسرد الكتاب انطباعات اللوردات المختلفة عن الملك الشاب (جهريس تارجيريان)، منهم منْ يثني عليه ومنهم منْ دعاه بالمُتجهم والصارم، ليختتم السرد بتعليق مميز من اللورد (براندون ستارك) بأنه مثل أجداده.

أتى جهيريس ليعيد الاستقرار للممالك السبعة، بعد صراع عنيف تسبَّب به الملك السابق (مايجور تارجيريان) الذي لقب بـ «مايجور القاسي»، الذي يُعتبر من أكثر شخصيات الكتاب إثارة للاهتمام، مع أنه شديد القسوة والعنف، وتسبَّب في حرب أهلية مع جماعات دينية غريبة، لأنه اتخذ زيجات مُحرَّمة بالنسبة إلى ديانة الآلهة السبعة، وأحرق بواسطة تنينه الضخم (باليريون) قلاعًا وحصونًا من أجل هذا القرار، ولكننا نجد الكتاب يبرز شجاعته ورفضه للهزيمة تحت أي وضع، مثل قبوله لمبارزة ملحمية مع مجموعة (أبناء المحاربين) ليدافع عن حقه في العرش الحديدي، لم يبقَ من تلك المبارزة أحد حيًّا إلا مايجور نفسه دون تدخل حرَّاسه.

كتاب Fire & Blood قدَّم تاريخًا خياليًّا مُعقدًا وممتعًا بشخصيات متعددة الطبقات برغم ابتعاد الكتاب عن الأسلوب الروائي، كما أنه عمل قائم بذاته يمكن تتبع أحداثه من القارئ الذي ليس لديه أي خلفية عن عالم «أغنية الجليد والنار»، كما نأمل في أن المسلسل الجديد يستطيع نقل أهم ما يميز الكتاب دون تسطيح. كما نأمل ايضًا أن تصدر نسخة عربية من الكتاب بشكل رسمي قريبًا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.