إذا قرأت وصف الجنة في القرآن سيسبح عقلك في خياله لأبعد مدى، ستحاول أن تتصور ما لم تره عين من قبل، وتستمع لما لم تسمع أذن، وستتجاوز كل ما خطر على قلب بشر، لكن ماذا سيكون حالك إذا قدمت لك تصورًا فنيًا للجنة، وللحظاتك الأولى في السماء؟

بداية الأمر كانت عندما نشرت فتاة عشرينية تُسمى «ديانا جاد» مجموعة لوحات وعنونتها بجملة: «الحظات الأولى في السماء»، كان مجرد توصيف لإحساسها تجاه اللوحات وليس اسم اللوحات الحقيقي، والتي ذكرتها بمن فارقتهم بعوامل القدر، لكنها لم تدرك أن الأمر سيتحول إلى هذه الضجة.

بعد ذلك تصارعت التفسيرات التي أحاطت باللوحات، حتى شاعت آراء تنسبها إلى جماعة دينية تُسمى «شهود يهوه»، لا تعترف بها الكنيسة المصرية، وأن هذه اللوحات لا تعبر إلا عن عقائدهم وليس لها علاقة باللحظات الأولى في الجنة، لكننا هنا لا نعارض هذا العمل بسبب انتمائه لجماعة دينية، ولن نحاول إثبات صحة ذلك من عدمه، بل سنوجه الأنظار إليها لتعلق الكثيرين بها قبل أن يعرفوا حقيقتها، وتعاملوا معها على أنها تمثل بالفعل لحظات الموتى في السماء، وسنفترض أنها لو تمثل ذلك بالفعل فلماذا نعارض لوحات تمثل الجنة؟

يُقال إن من أبرز عيوب تحويل العمل الروائي لتلفزيوني هو أنه بذلك يحصرك المخرج في حيز معين يقتل به خيالك، ويقضي على إبداعك العقلي، فتتحول بذلك رؤيتك إلى ما قرره مخرج العمل وليس عقلك، هذا ربما يكون مقبولًا في نطاق عمل روائي لا تتعلق به كل حياتك، لكن حينما يتجاوز الأمر ذلك ويصل إلى وضع حواجز لخيالك لشكل الجنة، فإن للأمر حدودًا!


الإخفاق في تصور الجنة

في كل مرة حاول بعض الفنانين تصور الجنة، أخفقوا في جعلها جذابة للأفئدة، مجرد حدائق خضراء وحياة رتيبة لا شيء ممتع فيها، لا روح في مخيلاتهم، فحصروا خيالنا على مكان عكس ما وصفه الله في كتابه لنا، ولله في ذلك حكم.

في إحدى أروع ما كتبه «نجيب محفوظ» وهي رواية حديث «الصباح والمساء»، وبعد تحويلها لعمل تلفزيوني، كانت مقدمة كل حلقة مشهد لأبطال الرواية بعدما صعدوا إلى السماء، من شاهد المسلسل سيتفق أنه كان مملًا في كل يوم، ومن تصور الجنة بهذا الشكل لم يتخطَ خياله عقل تلميذٍ عمره لما يتجاوز عدد أصابع اليدين، فضلًا عن وقوعه في خطأ كارثي من ضمن عدد تصورات لا منطقية على مدار الحلقات، وهو إيجاد مشاحنة بين بطلين بالمسلسل داخل الجنة، وأمهما – ليلى علوي – تبكي على ذلك، لكنه تذكر أن هذا يحدث بالجنة فلابد أن تلمع دموع الأم كما اللؤلؤ! لكن السؤال هنا: هل بالجنة مشاحنات ودموع من الأساس؟

تجاوزنا المسلسل، وبعد مرور ما يزيد على 17 عامًا برزت لنا مجموعة لوحات بعنوان: «اللحظات الأولى في السماء» ـ كما تداولها النشطاء قبل معرفة حقيقتها، ولعلها توارد خواطر أن يكون تخيل راسم اللوحة للجنة كالعادة مجرد حديقة خضراء مملة لا متعة فيها، لحظاتها متشابهة عكس ما نعرف عن الجنة، فيتبادر إلى ذهنك سؤالٌ وحيد: هل هذا ما لا عينٌ رأت؟


كيف قد يقتل الفن كل جميل؟

دائمًا كنت أقول إن هناك تشبيهات في الشِعر قد تقود للكفر، وبعدما رأيت تصورات البعض للجنة أيقنت أنه قد يقتل الفن أيضًا خيال جميل، من عجب النفس البشرية أنها لا تخضع لفكرة أن هناك ما يتجاوز العقل البشري، يحاولون القضاء على كل ما تعلمنا أنه من الغيبيات، وينسون أن الله خلق العقل الإنساني عاجزًا عن تخطي حواجز محددة؛ حتى يُثار داخل الأنفس تشوق وولع أكثر لرؤية هذا الأمر، ويصبح خيالهم في كل يوم يتصور أجمل ما لديه إذا تعلق الأمر بالجنة، وأصعب ما لديه إذا تعلق الأمر بالنار، وفي كلتا الحالتين سيكثر من عمله الصالح.

يرى البعض أن تصوير الجنة في الأعمال الفنية بمختلف أشكالها لا يضر الخيال، بالعكس يبررون أنهم بذلك حينما يذكرون الجنة سيتخيل عقلهم ما هو أروع من هذه اللوحة، وستكون بذلك المنصة التي ينطلقون منها في تخيلهم لما هو أسمى، وهم في ذلك الظن مخطئون، فالعقل البشري يحتفظ بالصور بشكل قوي، ويعمل بقاعدة واحدة وهي: «إذا حضرت الصورة بطُل التخيل».

جرب مرة أن تقرأ رواية خيال علمي، ثم شاهدها بعدما تحولت إلى عمل مصور، ثم عاود قراءة الرواية مجددًا ستجد كل ما تخيلته في قراءتك الأولى أصبح والعدم سواء، ولن يبقى في ذهنك سوى ما رأته عينك، وللجنة المثل الأعلى.

حتى أنك إذا ما حدثك أحدٌ عن شخصية عم الرسول محمد – صلى الله عليه وسلم – سيدنا «حمزة بن عبد المطلب»، سيذهب عقلك دون استئذان إلى استحضار صورة الممثل «عبد الله غيث» الذي أدى دوره في فيلم «الرسالة»، وربما هذا أحد أبرز أسباب اعتراض الأزهر الشريف على تمثيل الأنبياء والصحابة؛ حتى لا ترتبط أسماؤهم بصور ممثلي أدوارهم في مختلف الأعمال.

لم يقتصر الأمر على مجرد قتل الخيال، تحول الأمر بعد ذلك لمادة من السخرية على مواقع التواصل الاجتماعي، جعلت اللوحة من الجنة شيئًا متداولًا بين الجميع، وكأي عمل فني يقبل النقد الساخر ولا قدسية له، فهل ستعاتب الساخرين لأنهم يمارسون النقد بطرقه لعمل فني – وهو حقهم، أما ستعاتبهم لأنهم وجهوا سخريتهم لعمل يمثل شكل الجنة؟ وبذلك تكون سقطت في موضوع محل جدل؛ لأن قدسية الجنة حاولت اللوحة تهديدها.

عليك أن تعي أن أي عقل بشري تتوقف حدوده عند تخيل أمور غيبية، ولو أراد الله لك أن ترى تصورًا ماديًا للجنة فلماذا قال الرسول محمد – صلى الله عليه وسلم – في حديث قدسي: «يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر..»!