هل سألت نفسك يومًا عن أول ثورة في التاريخ؟ عن أول تحرُّك جماهيري ضد حاكم ظالم أو حكومة فاسدة؟

هذا المقال هو فرصتك لتعرف إجابة هذا السؤال، حيث سنقوم بعرض كتاب «أول ثورة على الإقطاع» للكاتب المصري «محمد العزب موسى»، ويتناول هذا الكتاب الحديث تفصيلًا عن أول ثورة عرفها التاريخ، والتي ترجع زمنيًا للعهد الفرعوني أثناء حكم الأسرة السادسة. وسنشرح أسباب تلك الثورة ونتائجها الفكرية والمادية والاجتماعية، طبقًا لوثائق تاريخية مثل «وثيقة الحكيم ايبور» التي وصف فيها أحداث الثورة وصفًا دقيقًا.

ملامح الدولة المصرية القديمة

تبدأ الدولة القديمة تاريخيًا بقيام الأسرة الثالثة التي أنشأها زوسر حوالي عام 2780 قبل الميلاد، وتنتهي بسقوط الأسرة السادسة عام 2280 قبل الميلاد، وبذلك تكون استمرت حوالي 500 عام. عُرفت مصر خلال هذه الفترة بفخامة آثارها، مثل تشييد الأهرامات الثلاثة الشهيرة.

ويتضح عند النظر إلى الآثار الضخمة الخالدة -حتى الآن- في مواجهات عدة مع عوامل الزمن، أنه تم استغلال القوة المادية والبنيانية للمصريين على أكمل وجه، وذلك لخدمة فكرة الخلود التي كانت مسيطرة على عقل الحكّام آنذاك. وباعتبار أن الخلود مضاد للفناء، فكانت –ولا زالت- تسيطر على الحكّام الرغبة التّامة في الخلود، مما جعلهم يُشيّدون مثل تلك الآثار الضخمة، واستغلال كل قوة بدنية ومعرفة لديهم لمحاولة التغلب على الفناء والاندثار. ولكن هل كانت عملية البناء تلك سهلة، أم أن الأمر كان بالقهر للعبيد الذين قاموا بالبناء؟

هناك وجهتا نظر في ذلك الأمر: الأولى تعتبر الهرم رمزًا لمهانة الإنسان المصري القديم، ودليل على العبودية، وأنه أُقيم تحت ضغط وإرهاب وظلم واستعباد للبشر تحت سطوة وجبروت الفرعون. أما الثانية تعتبر هذا الرأي متسرع وخاطئ وقائم على معايير العصر الحديث، متجاهلًا تمامًا الحالة الاجتماعية في الدولة القديمة وتوقيت بناء الأهرامات، والذي ثبت أنه كان وقت الفيضانات، حيث يخشى الفلاحون فيه البطالة فكانوا يُقبلون تطوعًا على العمل في مثل هذه لأعمال.

بالتأكيد هذا الجدل بين وجهتي النظر سيظل مستمرًا، ولكن الأكيد أن فلسفة بناء الهرم تدل على الذكاء والتفوق العلمي والهندسي الذي وصل إليه الفراعنة، كما يدل على قوة أو تجبر الحاكم وقتها، والذي ظل عشرين عامًا يشيّد في مثل هذا الهرم دون ارتباك يُذكر، على الجانب السياسي.

أما على الجانب الديني، فكان المصريون القدماء أكثر الشعوب تدينًا، ويرجع هذا التدين إلى العهد السحيق حيث كانت مصر مُقسَّمة إلى 24 إقليمًا، لكل إقليم إله خاص به، وقامت العديد من المعارك والفتوحات بين الأقاليم وبعضها على أساس الدين والإيمان. وعندما بدأ التاريخ المكتوب بعد التوحيد الثاني على يد الملك مينا، تطورت مظاهر التدين وتبلورت في عقيدتين شائعتين هما «رع وأوزوريس».

وظهر الدين نتيجة التأمل في قوى الطبيعة وانبهار المصريين بها، فكان الإنسان يشعر أنه في حاجة إلى قوة عظمى أكبر منه يحتمي بها ويُنمي بها وجدانه وتتناسق مع فكرة الخلود والبعث في ذاته، فتقاربت فكرة الفضيلة  –والتي أطلق عليها الحكماء اسم ماعت– مع فكرة الدين، وأصبحت ماعت هي حركة الوصل بين الدين والأخلاق.

إن سوء الحظ قد يُذهِب بالثورة، لكن قوة الفضيلة (ماعت) هي التي تدوم، طوبى للرجل الذي يتمسّك بالفضيلة ويسير على هداها.
من حكم «بتاح حتب».

سبب قيام الثورة: الإقطاع

بدأ الإقطاع في الظهور أواخر عهد الدولة القديمة، عندما بدأ حكام الأقاليم يطالبون بسلطات مستقلة وأملاك خاصة، وتمثَّل ذلك في إعطائهم ملكيات زراعية معفاة من الضرائب. وازداد هذا الأمر في عهد ملوك الأسرة الرابعة عندما كانوا يُكافئون بناة الأهرام بهدايا سخية متمثلة في إقطاعيات زراعية مُعفاة من الضرائب. وإلى جانب هذه الإقطاعيات المدنية، ظهرت الإقطاعيات الدينية التي تلت بناء المعابد الضخمة، فكان يُخصص لكهنتها مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية المُعفاة من الضرائب ليتعبّدوا فيها ويقوموا بوظائفهم.

ومع هذه التطورات، قويت سلطة حكام الأقاليم على سلطة الفرعون، فأصبح الأخير مجرد صورة رمزية فحسب وكل إقليم مستقل بذاته تحت إمرة حاكمه. وترتب على هذا التطور الخطير انقلاب شامل في كافة نواحي الحياة التي عرفتها مصر في عهد الدولة القديمة، فكان المجتمع الإقطاعي ينقسم إلى طبقتين: طبقة الأشراف، وطبقة عامة الشعب. الأولى تضم الملوك والحكام والكهنة الذين يُوّرثون ثرواتهم لأبنائهم، والثانية تضم باقي الفئات والمهن الأخرى من الطبقة العاملة الكادحة التي أيضًا تورّث الفقر لأبنائها.

وكان عهد الأسرة السادسة هو المرحلة الحاسمة في سقوط الدولة القديمة، فبجانب كل المشاكل الداخلية والصراعات الدينية التي سبق الإشارة إليها كانت البلاد فريسة للمطامع الأجنبية. وبلغت الأمور أقصى درجات السوء في عهد «بيبي الثاني» الذي لم يستطع حماية بلاده وأطرافها من الغارات الأجنبية، وكذلك في عهده استشرى الفساد وأصيبت حكومته بالشلل التام لتجاوزه في السن وعدم قدرته على إدارة البلاد، بالإضافة إلى تحالف حاشيته ضده وحجبهم للحقائق عنه، ففاض الإناء بالشعب ولم يكن في وسعه سوى ثورة عارمة تكتسح في طريقها كل شيء، الجماد والبشر والقيم.

ثورة شعب

حفظ لنا الزمن وثيقتين «نبوءات الحكيم ايبور» و«بردية نفر روهو»؛ اللتين تصفان الثورة الشعبية الهائلة التي اقترنت بسقوط الدولة القديمة في نهاية الأسرة السادسة. بطل الوثيقة الأولى هو حكيم قديم استطاع أن يقتحم عزلة الملك كبير السن مجهول الاسم –يُعتقد أنه بيبي الثاني- ويخبره بحقيقة أوضاع شعبه والأكاذيب التي يروجها حاشيته. أما الثانية تدور أحداثها في عهد الملك «سنفرو» مؤسس الأسرة الرابعة والذي أراد أن يأتي له كاهن يحدثه ويسليه، فأتوا له بـ «نفر روهو» من معبد الآلهة، فأخذ يحدثه عن المستقبل والدمار الذي سيحل بالبلاد نتيجة لتفشي الظلم والقهر.

والحقيقة لا أحد يمكنه تحديد وقت قيام الثورة، ولكن كل الوثائق أشارت فقط إليها وهي في أوجها وشدتها، فكانت الثورة طبقية بامتياز، قلبت الأوضاع الاجتماعية رأسًا على عقب؛ انهارت الدولة ومؤسساتها ودواوينها ومحاكمها وسُلبت أوراقها وسجلاتها كما وصف ايبور. وأصبحت مخازن الملك ملكًا مشاعًا لكل فرد، ولا ضرائب تُجبى للقصر. وتدهورت الحالة الاقتصادية للبلاد فتوقف الإنتاج وبارت الزراعة، وترك الناس الحرف والصناعات، وعمّ الفقر والخراب، وتعطلت التجارة الخارجية التي نشطت في عهد الدولة القديمة، وانتشرت الأمراض والأوبئة، كما أقدم بعضهم على الانتحار كما وصف ايبور في وثيقته حينما قال:

أصبحت التماسيح في تخمة بما قد سلبت، إذ يذهب إليها الناس عن طيب خاطر.

وكذلك انهارت الحالة الدينية والروحانية والأخلاقية، فتمرد الناس على ماعت التي استُخدمت لتبرير شرور واستبداد الحُكّام، كما انتشر الإلحاد ورفض ذلك الدين فيما بينهم؛ لارتباط الصورة الدينية والأخلاقية بالآلهة، والذين كانوا حين ذاك الحكام، بمعنى أدق: الحكام الفاسدين.

الآثار الفكرية للثورة

تميز عهد ما بعد الإقطاع بازدهار ألوان الفنون المختلفة ورقيّها، فحدثت نهضة أدبية شاملة أخرجت لنا أزهى الآداب الفرعونية في كل العصور. وتمدنا هذه الآداب بكل المعلومات عن الدولة القديمة، كما أحدثت انقلابًا فكريًا في فكرة الطبقية وبدأ الناس يعرفون قيمتهم وحقوقهم، كما ظهرت نزعة الانتقاد للأفعال أو التقاليد المجتمعية وهذا لم يكن موجودًا من قبل، وكذلك ظهور نزعة المادية والشك. ففي عصر ما قبل الإقطاع، كانت الحياة مستقرة فانصرف الناس إلى الدين، أما بعد الإقطاع انقلبت الأوضاع وبدأ التفكير بسخط وغضب على سوء الأحوال المعيشية ولم يبلغ الدين مرتبته السابقة من الأهمية.

وبالنظر في مقطوعات متروكة من تلك الفترة، نجد نزعة الشك والمادية واضحة، حيث الشك في فكرة الخلود والبعث بعد الموت، والمادية في النظر للموت نفسه على أنه مجرد أمر مُخلّص له من مأساته وآلامه فقط. وهذه الفلسفة في التعامل مع الموت لم تكن موجودة من ذي قبل، بل نتيجة الانقلاب الفكري الذي نتج بعد الثورة.

ومن النتائج التي أحدثتها الثورة أيضًا ما ورد في الوثيقتين عن شروط الحاكم الصالح، فصفات الحاكم أنه يجب أن يكون راعيًا للبشر، إذا شردت رعيته يمضي يومه في جمعها لأنه المسئول عنها، ولا يحمل شرًا في قلبه، وظيفته العدل بين الناس، وإطفاء لهيب الحريق الاجتماعي، وألا يصبح جبارًا متغطرسًا، وأن يكون خادمًا لشعبه مُلبيًا احتياجاته، وأن ينصح ابنه بتجنب الطمع ويحضه على الخير والعدل لتدعيم ملكه.

كل هذا كان نتاج الآثار السياسية والاجتماعية للثورة التي قلبت كل الموازين في جميع النواحي.

تطورات ما بعد الثورة

عندما دمرت الثورة المعابد والمقابر والتماثيل التي أُقيمت للعظماء، يبدو أنها دمرت معها فكرة ارتباط الجزاء بالماديات، فعندما عاد الدين إلى سلطانه في النفوس لم تكن فكرة الجزاء مرتبطة بالماديات في قبر الميت، بل بفضائله وأعماله فقط، لا المقابر التي يشيّدها ولا القرابين التي يقرّبها. هذه الفكرة ظهرت لأول مرة في تاريخ الفكر البشري في «التعاليم الموجهة إلى مري كا رع» والتي منها:

فضيلة الرجل المستقيم خير عند الله من ثور يقدمه صاحب الآثام.

ويقول رع في أحد نصوص توابيته:

لقد خلقت الأنهار العظيمة كي يستخدمها الفقير والسيد والعظيم.
لقد صنعت الرياح الأربعة من أجل أن يستطيع كل إنسان أن يتنفس مثل أخيه أثناء حياته.

ويتضح من ذلك أن الأرض أصبحت تتسع لأول مرة للقوي والضعيف والغني والفقير دون أي تفرقة بينهم إلا بأعمالهم، وهنا نجد آثارًا للمساواة والعدل الاجتماعي قد ترسخت بين الناس وقد انحدرت الطبقية، وقد انعكس ذلك في نصوصهم الدينية المقدسة مما يوضّح الأثر العظيم الذي تركته الثورة الاجتماعية على جميع نواحي الحياة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.