أولى الرسول محمد أهمية خاصة بحملة الألوية والرايات في الجيش، ووكل لهم تنفيذ مهام خاصة في المعارك، لذا أخضع اختيارهم لمعايير محددة، منها السبق في الإسلام والشجاعة والقدرة على اتخاذ القرارات الحاسمة في المواقف الصعبة.

ويذكر عبد الرءوف عون، في كتابه «الفن الحربي في صدر الإسلام»، أن العرب عرفوا اللواء في الجاهلية والإسلام، وكان من جملة مناصب قريش منصب «اللواء»، وكانوا يسمون رايتهم «العُقاب» اقتباسًا من الروم، لأن شارتهم التي كانوا يرسمونها على أعلامهم وينقشونها على أبنيتهم هو «النسر»، حيث رأوا فيه رمزًا للقوة، فاتخذوه شعارًا لهم، ثم نقله العرب عنهم.

ومن الجائز أيضًا، بحسب عون، أن يكون العرب نقلوا الرايات عن الفرس، فقد اتصلوا بهم في الجاهلية والإسلام، ورأوا عندهم نُظمًا لم يعرفوها، ورأوا الفرس يتخذون الرايات، فكانوا يُخرجون في معاركهم راية كبيرة من جلود النمر، عرضها ثماني أذرع، وطولها اثنتا عشرة ذراعًا.

ولكن ما يرجح نقل العرب عن الروم ما توحي به التسمية، فـ«العُقاب» كان شعار الروم، بينما كان شعار الفرس أسدين، حسب ما ذكر عون.

وسواء كان المسلمون في ذلك مقلدين للفرس أو الروم، أم اتخذوا اللواء استقلالًا، فإنهم جعلوه أمارة القيادة، ورمز الجيش، يلوذ به الجند ويحاربون من حوله، فكانوا يحملونه عند المسير مطويًا، فإذا وصلوا إلى أرض المعركة نشروه، وكانوا يكتبون عليه عبارة «لا إله إلا الله، محمد رسول الله».

الفرق بين اللواء والراية

يذكر عون أن اسم الراية اختلط باللواء عند كثير من المؤرخين واللغويين القدامى والمحدثين، فأطلقوا كلًّا منهما على الآخر بلا تحديد، رغم أن بينهما فرقًا من وجهين. الأول أن اللواء يكون كبيرًا أبيض اللون، بغض النظر عن كتابته، والراية تكون مختلفة الألوان، فأهل السير قالوا إن لواء الرسول كان أبيض اللون، وإن رايته كانت سوداء، وقيل إنها كانت صفراء، ويُلاحظ أنهم يذكرون الألوان مع الرايات، ولم يذكروها قط مع اللواء، ويقولون عن اللواء «كان مكتوبًا عليه كذا»، والكتابة تظهر واضحة في البياض لا في الألوان.

والاختلاف الثاني يتمثل في أن اللواء هو الرمز العام للجيش ومركز القيادة، أما الرايات فتكون صغيرة دالة على فرقة أو قبيلة أو وحدة يتألف منها الجيش، فقد كان لكل قبيلة رايتها التي تحمل شارتها، وكان قائد القبيلة يقول: «الزموا رايتكم فلا تميلوها».

معايير اختيار حملة الألوية والرايات

لم يُشترط تخصيص اللواء والراية لشخص بعينه، وإنما من تتوافر فيه معايير حامله وفقًا لرؤية النبي، ففي يوم خيبر أخذ اللواء أبو بكر الصديق، فرجع ولم يفتح، ثم أخذه عمر بن الخطاب، فرجع ولم يفتح، فدفعه الرسول لعلي بن أبي طالب، وفي تناوبهم على حمل اللواء إشعار بأنه لم يكن خاصًّا بشخص معين، بل كان يعطيه في كل سرية أو غزوة لمن يراه مناسبًا لحمله، حسب ما ذكر ماجد علي سليمان الجبوري في دراسته «ألوية ورايات الجيش ومعايير إسنادها في العصر النبوي».

وتمتع حملة الألوية والرايات بصلاحيات واسعة في إصدار الأوامر وإعطاء التوجيهات، لذا حرص الرسول على إسنادها بكل روية وتأنٍ طبقًا لشروط وأحكام تؤهل صاحبها لتلك المهمة العظيمة، وأيضًا بما يتلاءم مع طبيعة الموقف.

ومن جملة الشروط التي كان يجب توافرها في حملة الألوية والرايات السبق في الإسلام، إذا توافرت معه الخبرة الحربية، لقوله تعالى: «لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ»، لذا كان الرسول يؤمٍّر من هو سابق في إسلامه من أصحابه كعلي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب.

وكان يجب أن يتمتع حامل اللواء أو الراية بقوة العقيدة، والفطنة والخدعة والبراعة في التخطيط، والبصيرة بأمر الحرب، والحزم والسرعة في إصدار القرارات التي قد تطرأ، والشجاعة الكبيرة، والاستماتة في الدفاع عن الراية لأن سقوطها يعني خسارة المعركة وانهزام الجيش.

 حملة الألوية والرايات

ويذكر طه عفان الحمداني، ومها عداي سلمان، في دراستهما «الشعارات والأهازيج والرايات في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه»، أنه كان لا بد لدولة فتية مثل دولة المدينة المنورة أن يكون لها دور عسكري لإثبات وجودها والدفاع عن كيانها، لذا أرسل الرسول حملات استطلاعية كبداية تدريبية لمعرفة الأرض المحيطة بالمدينة، والطرق المؤدية لها، وطرق تجارة قريش مع بقية الدول، وكان لتلك السرايا راية أو لواء يميزها ويعلن عن هويتها.

وأول تلك السرايا هي سرية «سيف البحر» في رمضان من السنة الأولى للهجرة بقيادة حمزة بن عبد المطلب، فقد عقد له الرسول لواءً أبيض، وهو أول لواء عُقد في الإسلام وحمله أبو مرثد كناز بن الحصين الغنوي.

وفي شوال من السنة نفسها، عقد الرسول راية بيضاء لعبيدة بن الحارث إلى وادي رابغ، وحملها مسطح بن أثاثة، كما حمل المقداد بن عمرو لواءً أبيض في سرية سعد بن أبي وقاص إلى الخرار (موضع في الحجاز وقيل إنه وادٍ من أودية المدينة) في شهر ذي القعدة من السنة نفسها.

وأرسل الرسول أبا سلمة بعد أن شُفي من جراح أصيب بها في معركة أُحد في سرية لملاقاة نفر من قوم بني أسد خرجوا لحرب الرسول، وعقد له لواءً أبيض، وكان ذلك في المحرم من السنة الرابعة للهجرة، بحسب الباحثين.

وتخلل الفرق الزمني بين السرايا غزوات حافلة بالنصر على المشركين قادها الرسول، فعقد لواء لعبد الرحمن بن عوف في سرية لدومة الجندل دفعه له بلال الحبشي في شعبان من السنة السادسة للهجرة، وفي السنة السابعة عقد الرسول لواءً لغالب بن عبد الله عندما واجهت سرية بشير بن سعد إلى موقع فدك ظروف صعبة، وكان «غالب» عونًا له في إنجاز المهمة. وخلال السنة نفسها عقد لواءً لبشير بن سعد في سرية إلى «الجناب»، وهي من ديار فزارة بين المدينة وفيد.

وفي السنة الثامنة للهجرة بلغ الرسول أن جمعًا من قبيلتي «بلي» و«قضاعة» احتشدوا من أجل الاقتراب من أطراف المدينة، فدعا الرسول عمرو بن العاص وعقد له لواءً أبيض وراية سوداء وبعثه في سرية من المهاجرين والأنصار.

كما بعث الرسول علي بن أبي طالب إلى «الفُلس»، وهو صنم طيء ليهدمه في السنة التاسعة، ودفع له لواءً أبيض وراية سوداء، ثم بعثه في السنة العاشرة إلى اليمن وعقد له لواءً وعممه بيده، فدفع اللواء إلى مسعود بن سنان السلمي.

ولم يختلف الأمر في الغزوات، حسب ما ذكر الحمداني، إذ دفع النبي اللواء إلى حمزة بن عبد المطلب، كما غزا الأبواط ودفع اللواء فيها إلى سعد بن أبي وقاص، وفي بدر الأولى دفع اللواء إلى علي بن أبي طالب، وكذلك غزوة العشيرة التي حمل لواءها حمزة بن عبد المطلب.

وفي غزوة بدر الكبرى، والتي تعتبر المواجهة الأولى مع جيش المشركين، دفع النبي اللواء إلى مصعب بن عمير، وبحسب عبد الملك بن هشام في كتابه «السيرة النبوية» دفع الرسول رايتين سوداوين، واحدة إلى علي بن أبي طالب وتدعى «العُقاب» والثانية لأحد رجال الأنصار، في حين روى غيره أن الرايتين إحداهما لعلي بن أبي طالب، دون ذكر اسم الراية، والثانية لسعد بن أبي معاذ. وقيل إنه خُصص لواء للخزرج مع الحباب بن المنذر، ولواء الأوس لسعد بن معاذ.

أما غزوة بني قينقاع التي أعقبت بدرًا الكبرى، فدفع النبي فيها اللواء إلى حمزة بن عبد المطلب، ثم غزوة قرقرة الكدر (قرارة الكدر) وحمل اللواء فيها علي بن أبي طالب.

وفي غزوة أحد، والتي تعرض فيها المسلمون لدرس قاسٍ، عقد النبي ثلاثة ألوية، فدفع لواء المهاجرين لمصعب بن عمير، ولواء الأوس إلى أسيد بن حضير، ولواء الخزرج إلى الحباب بن المنذر، ويقال إلى سعد بن عبادة، ومثلت هذه الألوية فرق الجيش الإسلامي في تلك المعركة.

واستمر الرسول يوكل حمل اللواء والراية لمن يراه مناسبًا بحسب ظروف كل معركة، حتى جاءت غزوة مؤتة التي شاهد النبي أحداثها عن طريق الوحي، وهذه المرة عقد اللواء لثلاثة أمراء على المعركة بالتتابع، فكان أمير القوم زيد بن حارثة، فإن قُتل فجعفر بن أبي طالب، فإن قُتل فعبد الله بن رواحة، وإن قُتل فأمر القيادة شورى بين الجنود.

أما فتح مكة فجاء بطريقة مغايرة لما عهده النبي، فقد تم بأسلوب الحرب قبل الإسلام، لما كانت القبائل تستنفر أحلافها لمساندتهم في الحرب، فقد قام عمرو بن سالم الخزاعي بإخبار الرسول عندما نقضت قريش عهدها معه في صلح الحديبية، وكانت راية الرسول مع سعد بن عبادة، ثم أُخذت منه ودُفعت لابنه قيس بن سعد، لما بدر من سعد من قول أثار به حفيظة أبي سفيان، عندما قال له سعد: «اليوم يوم الملحمة، اليوم تُستحل الحُرمة»، وذلك لعدم إحداث فرقة بين المسلمين.

وجاءت غزوة حُنين لما فتح النبي مكة بهدف صد تجمع هوازن وثقيف ومنعهم من التعرض للمسلمين، ولما عبأ الجيش وصف الصفوف جعل الألوية والرايات في أهلها من المهاجرين، فدفع لواءه لعلي بن أبي طالب، وراية يحملها سعد بن أبي وقاص، وأخرى لعمر بن الخطاب، ولواء الخزرج حمله الحباب بن المنذر، ولواء الأوس حمله أسيد بن حُضير، وفي كل بطن من الأوس والخزرج لواء وراية يحملها رجل منهم.

وكانت «تبوك» آخر غزوة للنبي، وسببها أن الروم جمعت جموعًا كثيرة في الشام، فندب الناس إلى الخروج ليتأهبوا لذلك، وبعث إلى مكة وقبائل العرب يستنفرهم، وأمرهم بالصدقة، حتى جُمعت صدقات كثيرة في سبيل الله، وأمر النبي كل بطن من الأنصار والقبائل من العرب أن يتخذوا لواءً أو راية حتى قدم تبوك.

ألوان الألوية والرايات

الملاحظ أن الرسول حرص على أن تكون ألوية سراياه وغزاوته المبكرة باللون الأبيض، وهو ما يرجع إلى الخيرية الكبيرة التي امتاز بها هذا اللون في الدين الإسلامي. ويذكر الدكتور عاصم محمد رزق في كتابه «رايات الإسلام من اللواء النبوي الأبيض إلى العلم العثماني الأحمر»، أن الأبيض جاء في القرآن الكريم معبرًا عن أسمى ما أعده الله لعباده المخلصين في الجنة، فقال: «أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ».

وقد عبر الرسول أيضًا عن خيرية هذا اللون فقال: «عليكم بالبياض من الثياب فيلبسها أحياؤكم وكفنوا فيها موتاكم فإنها خير ثيابكم». والذي لا شك فيه أن هذا اللون – فوق الخيرية القرآنية والتوجيهات النبوية – هو لون الطُهور والنقاء والشفافية، لذلك لم يكن غريبًا أن يعتمد الرسول هذا اللون لألوية سراياه وغزواته المبكرة.

أما اللون الأسود فزين الرايات، من ذلك ما ورد عن غزوة بدر الكبرى من أن راية النبي في هذا اليوم كانت سوادء من مِرط لعائشة (المرط هو كساء من صوف أو كتان تتلفع به المرأة)، وذكرت بعض المصادر أنها لم تكن راية سوداء واحدة، وإنما كانت رايتان سوداوان.

ومنها ما ورد في غزوة خيبر التي حدثت في السنة السابعة للهجرة، وفيها وعظ الرسول الناس ووزع فيهم الرايات لأول مرة في غزواته، فكانت رايته السوداء من برد لعائشة تدعى العُقاب، وما ورد عن سرية ذات السلاسل في السنة الثامنة، وجاء فيه أن لواءه في هذه السرية كان أبيض ومعه راية سوادء.