لم تكن مسيرة الأعلام تحظى طيلة السنوات الماضية بأي اهتمامٍ يُذكر، فهي ليست حدثاً سياسياً أو دينياً بالمعنى المتعارف عليه، فما الذي جدّ ليُحوِّل ذكرى ضم الاحتلال للقدس الشرقية عام 1967 وتوحيدها تحت سيطرته إلى حدث سياسي يأخذ زخماً متصاعداً خلال السنوات الأخيرة؟ وما الدلالات السياسية التي تتعلق بهذا الحدث، خاصة فيما يتعلق بهوية القدس كمدينة عربية والمقدسات الدينية كدور عبادة للمسلمين والمسيحيين على حد سواء؟

شكّل الصراع حول مدينة القدس حلقة من حلقات الصراع العربي-الإسرائيلي على مدار حقب متعددة، بداية من اعتبار غولدا مائير السيادة العربية في القدس غير ممكنة، ولا يمكن تقسيمها بين اليهود والعرب، بأي نسبة كانت، وأن الطريقة الوحيدة التي ستخسر إسرائيل بها القدس هي أن تخوض حرباً وتخسرها؛ وفي هذه الحالة –وفقاً لقول غولدا مائير– «ستخسرها كلها».

اختصرت تلك العبارات رؤية الاحتلال للصراع حول مدينة القدس واعتبارها قضية مركزية سعى منذ عام 1967 للسيطرة عليها، وإنهاء الوجود العربي فيها بشتى الطرق والوسائل، بداية من سياسة التوسع الاستيطاني ومصادرة الأراضي، ومروراً بالسعي الدؤوب لتهجير الفلسطينيين وسحب الهويات، ووصولاً لوضع العراقيل لإصدار الاحتلال لتراخيص البناء.

هذا ولم يختلف المسار السياسي التفاوضي بين الاحتلال من جهة، والسلطة الفلسطينية من جهة أخرى، عن تلك السياسة الساعية للمماطلة حول وضع سياسي ملزم بشأن القدس، بدءاً من مفاوضات أوسلو وتجاهل كل القضايا المحورية، ووصولاً إلى كامب ديفيد والتي جعلت الرئيس الراحل ياسر عرفات ينسحب من تلك المفاوضات بعد إصرار الجانب الإسرائيلي على قضية السيادة على القدس، حيث قال: ما الذي تمتلكه إسرائيل في القدس غير حائط المبكى والحي اليهودي!

ولم يتوانَ الاحتلال عبر القوة الخشنة عن محاولة إحكام السيطرة على القدس والتكريس للسيادة من خلال سياسة الاقتحامات المتوالية للقدس والمسجد الأقصى، بدءاً من 1967 وإلى الآن، لتتحول سياسة الاقتحامات من مجرد أداة عسكرية لعقيدة صهيونية مارستها كل الحكومات على اختلاف توجهاتها، وكان من أبرزها زيارة شارون عام 2000 وما تلاها من أحداث انتفاضة الأقصى أو الانتفاضة الثانية، لتتحول من هذا التاريخ إلى محاولة لفرض التقسيم الزماني والمكاني للأقصى.

كما لم تخلُ تلك المحاولات من استفزاز المسيحيين واعتداء قوات الاحتلال بشكل همجي على المصلين الآمنين الوافدين إلى كنيسة القيامة، للاحتفال بسبت النور، 15 أبريل/نيسان 2023، في مشهد عدواني يتكرر ويتصاعد في كل عام.

وتأتي مسيرة الأعلام ضمن تلك السلسلة الطويلة من الصراع حول مدينة القدس ومقدساتها الدينية (إسلامية ومسيحية)، والتي لا يمكن فصلها عن تلك الحالة الرامية إلى تكريس القبول الضمني لسلطة الاحتلال على مدينة القدس، عبر استخدام قطعان الصهاينة في مسيرة ترفع الأعلام الإسرائيلية، وهي تقطع المدخل الرئيسي في الحي الإسلامي عبر باب العمود.

وبالرجوع للماضي، نجد أن تلك المسيرات تشكّلت بمبادرة فردية عام 1968، وكانت مسيرات متواضعة تنطلق مساءً، ثم تطورت من خلال الحاخام «يهودا حزاني» إلى مسيرة لها طقوس خاصة، كالرقص ورفع الأعلام، وتتم بمباركة التيار الديني.

عام بعد عام اكتسبت تلك المسيرات زخماً شعبياً، وتزايد عدد المشاركين فيها، لتسمح سلطة الاحتلال عام 2017 بمرور تلك المسيرة من باب العمود والحي الإسلامي، في استفزاز واضح وصريح للمقدسيين والعالم العربي أجمع، ولتبرز كبؤرة توتر جديدة مع الاحتلال، والذي بلغ ذروته في مايو/أيار 2021، حين تحول لموجة تصعيد كبيرة بين المقاومة والاحتلال الصهيوني، أو ما عرف إعلامياً بمعركة «سيف القدس»، ليُشكِّل الحدث في كل عام موجة تصعيد محتملة، خاصة بعد حماية تلك المسيرات من قبل الشرطة، مما جعل جماعة (العودة إلى جبل المعبد) تقدم طلباً رسمياً لشرطة الاحتلال للسماح لهم بتنظيم اقتحام واسع للمسجد الأقصى من باب الأسباط، وهذه هي المرة الأولى في تاريخ الصراع التي يتم فيها التخطيط لتنفيذ مسيرة الأعلام في داخل المسجد الاقصى، علماً أن جماعات المعبد المتطرفة قررت تقديم الاقتحام ليصبح يوم الخميس بدلاً من يوم الجمعة، والذي يكثر فيه عدد المسلمين في المسجد عادة، ولتجنب حالة الحشد الشعبية داخل المسجد الأقصى.

وعلى الرغم من أن تلك المحاولات الرامية لتهويد القدس، والتي نجحت أحياناً، وواجهت مقاومة شديدة في أحيان أخرى، فإن أخطر ما يمكن أن تُكرِّس له تلك المسيرات مستقبلاً، هو قدرتها على كي الوعي الجمعي والقبول الضمني لهذا الوضع، خاصة مع تكرار تلك المشاهد لتصبح حدثاً عادياً، يمكن قبوله تحت سلطة الأمر الواقع، وذلك مع طول أمد الصراع وضعف الإمكانات، مما يستوجب على المقاومة والجماهير على حد سواء العمل المتناغم.

إن الاحتلال يجيد إدارة الصراع من خلال منطق القوة، لأنها في الغالب ستكون مواجهات قصيرة ونتائجها متوقعة، بعكس الحالة الجماهيرية والتي يعتبرها الاحتلال العقبة الحقيقية التي تحكم الصراع، فإذا سقطت السلطة بقيت المقاومة عبر قاعدتها الجماهيرية، والتي يجب أن تستمر كحالة نضال طويل النفس، لا تعتمد منطق القوة وحده، بل إشراك القاعدة الجماهيرية في الداخل المحتل والضفة وغزة، أو كما قال «جورج حبش»:

إن النضال ضد المشروع الصهيوني قد يستمر مائة عام وأكثر، فعلى قصيري النفس أن يتنحوا جانباً.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.