الجهلُ ليلٌ ليس فيه نورُ .. والعلمُ جرٌ نورُهُ مشهور[1]
العباس بن فرناس

لم تنقطع أحلام الإنسان أبدًا منذ نشأ على هذه الأرض، فوقت كان عاريًا بحث عن ثياب، وحينما كان جائعًا بحث عن الطعام، ولما أراد التنقل بحث عن الدواب، وحينما أراد ركوب البحر كانت الفلك فيه مواخر. ولكن بقي الحلم العصي على التحقيق أبدًا، ما بال تلك الطيور تحلق في فضاء رحب متسع ولا يستطيع إنسيُّ أن يحلق مثلها؟ هي تروح وتجيء سراعًا، وهو ما زال محتاجًا للدواب وكثير الأيام ليبلغ غايته، بقي حلم الطيران إذن عصيًا على التحقيق.


ثم كانت الأسطورة

دائمًا ما كان الخيال متنفسًا فهناك لا حد ولا حدود، وإذا ما عجز واقع الإنسان عن تلبية أمانيه كانت الأسطورة أسرع وأقدر، فها هي الأسطورة أعطته جنيًا ومصباحًا وسحرًا وقوة، وفوق كل ذلك بُساطًا مسحورًا ليحقق أمنيته العتيدة في الطيران بعيدًا عن كل مشاكله ومعاناته، ذلك كان في الشرق، وأما الغرب فلم يخل منه الحلم أيضًا، فها نحن نرى «إيكاروس» المعزول على جزيرة مع أبيه فيصنع أجنحة من الشمع يطير بها في السماء الرحبة، وكلما ارتفع أكثر كلما عرف أكثر، ثم جاءت المعرفة على صاحبها بالهلاك حينما ذابت الأجنحة من الشمس فهوت به الريح؛ فصارت تجربته حائط الصد بين الحلم ورغبة المعرفة.


بين الواقع والخيال

بقيت الأمور على حالها إذن حتى وصول البشرية للعصر الفارق، فقد جاوزت سنيها العام 190هـ/ 805م وهنالك وجدت «العباس بن فرناس».

العباس الذي ظهر في الأندلس المسلمة في عصر الأمير «الحكم بن هشام الأموي» وجد الأرض ممهدة للعلم والخيال معًا، فالأندلس للمعاصر أضحت من أقوى ممالك الأرض وأكثرها تقدمًا ونهضةً وعلمًا، والحرب الدموية المهلكة بين الأمويين والعباسيين انقضت وأصبحت حربًا في العلم والفنون والأدب، وصارت بذلك قرطبة وبغداد عاصمتين للدنيا تشعان النور في كامل أرجاء المعمورة، وبهذا ظهرت البيئة التي نما فيها العباس.[2][3]


حكيم الأندلس

أول ما ظهر من أمر أبي القاسم العباس بن فرناس كان نبوغه في الشعر والأدب بل والنحو واللغة، فمن ينسى قول العباس في الأمير «محمد بن عبد الرحمن» بعد توسيع مسجد قرطبة الجامع الكبير:

محمد خير مسترعى ومؤتمن .. للمسلمين جميعًا حيث ما كانوا بنى لهم مسجدًا جلّت عجائبه .. لولا السماء لما ضاهاه بنيان[4][5]

وبرغم ذلك مما اشتهر به علماء العصر، إلا أن العباس تميز فيما ليس يضاهيه فيه غيره، فتوالت اختراعاته على أهل الأندلس: فكان أول من صَنع الزجاج من الحجارة، ووفر بذلك على أهل الأندلس استيراد الزجاج وتقطيعه في مصر وأصبح هذا من أوائل فتوح الأندلس في الحضارة والعلوم[6]. ثم كان له السبق في اختراع آلة فلكية عرفت بالميقاتة، وهي ساعة لتحديد الوقت بمنتهى الدقة في الليل والنهار، وقد أهداها العباس للأمير محمد بن عبد الرحمن لتساعد في تحديد وقت الصلاة.

وكان اهتمامه بالفلك عظيمًا، فصنع نموذجًا للكواكب والشمس والنجوم حار فيه أهل عصره وأكَّد به على لقبه «حكيم الأندلس»[7]، وهو الأمر الذي يصفه «المقري التلمساني» في كلامه عن أهل الأندلس بالقول:

كان للأندلسيين حذق باستخراج العلوم واستنباطها، من ذلك أن عباس بن فرناس حكيم الأندلس صنع في بيته هيئة السماء وخيل للناظر فيها النجوم والغيوم والبروق والرعود.[8]

ولكن مع كل ذلك ظل الحلم الذي راود البشرية كلها يراود العباس ولا ينفك يطارده.


الإنسان الذي طار!

كان الطيران حلمًا رئيسيًا من أحلام العباس بن فرناس، وهو الأمر الذي أثار استغراب الناس ودهشتهم منه على الدوام، من دراسته لهياكل الطيور وأشكالها وطرق طيرانها المختلفة، وعدم اكتفاء العباس باختراعاته الكثيرة وتصميمه على جعل ذلك الحلم واقعًا ممكنًا.

وأخيرًا بعد دراسة طويلة زادت على عشرين عامًا، صنع العباس لنفسه آلة على شكل جناحين هائلين من الريش تناسب وزنه وحجمه، وجمع الناس وصعد على ربوة عالية من ناحية قصر الرصافة وألقى بنفسه وطار مسافة طويلة، ورأت الأرض لأول مرة في تاريخها إنسانًا يطير بجناحيه في سمائها، ولكن الهبوط الذي كان عنيفًا بعض الشيء، وهو الأمر الذي لم يقلق العباس بل جعله يدرك أنه في هذا الحماس العلمي الجارف نسي أن يضيف الذيل لآلته فيكتمل تحكمه في توجيهها، وعكف العباس الذي لم يمت من تجربته كما هو مشهور على تدوين تجربته العلمية الفريدة وتطويرها وتحسين أدائها.


الكافر والزنديق!

بالرغم من التقدم العلمي الواضح للأندلس في ذلك الحين إلا أن اختراعات العباس كما أثارت اهتمام الكثيرين فقد أثارت سخطهم أيضًا.

فكانت النتيجة أن اتهمه بعض الفقهاء المتشددين ومعهم الكثير من جهلة العوام بالإضافة إلى أعداء العباس وحاسديه بأنه ساحر يفعل ما لا يُعقل، ويستعين بالجان والسحر وأدوات خفية، بل ورموه بالكفر والزندقة وارتقى أمره حتى وصل لمحكمة علنية أمام قاضي الجماعة في العاصمة قرطبة «سليمان بن أسود الغافقي».


المــحــاكـمة

وصل الأمر لدار القضاء إذن واجتمع الناس من كل مكان ليشهدوا محاكمة العالِم على علمه، والنظر في أمر كفره وزندقته، والأمور كلها متوقفة على رجلين لهما الحكم والحزم؛ أولهما القاضي الصارم سليمان بن أسود الغافقي المعروف بالشدة والحزم، حتى أنه حكم على الأمير محمد بنفسه في مرة لصالح يهودي كان له عنده حق[9]. وأما الثاني: فهو أمير الأندلس ابن الخلائف الأمير المحمد بن عبد الرحمن الأموي، وهو الذي اشتهر في الدنيا بعدله وحبه للعلم والعلماء، وهنا انتظر الناس وأتت الشهود.

فمن الشهود من شهد على العباس أنه كان يقول السحر ومن كلماته «مفاعيل مفاعيل»! ومنهم من قال إنه رأى الدم يخرج من الصرف الخاص بدار العباس في الليالي التي يكون فيها القمر بدرًا، وهي الأقوال التي رأى فيها «ابن حيان» التي وصف شهودها بالجهل وقال فيها:

ولما رأى القاضي سليمان هذه الأقوال التافهة، وشاور جماعة الفقهاء استقر في ذهنه براءة العباس الكاملة مما قالوا، فكانت تلك المحاكمة دليل براءته وعلمه ومعرفته.


دولة العلم

أحموقات من غتراء شهود عليه ذوي جهل وقدامة.[10]

وهكذا استمر العباس العالم البربري الأندلسي في إثراء دولته بعلمه واختراعاته، تلك الدولة التي اتخذ أميرها وحاكمها محمد بن عبد الرحمن الأموي على نفسه القرار بأن يكون العلم فيها سيدًا، وأن يكون العلماء فيها أصحاب الدولة وأهل مشورتها، فلم يكن العباس وحده فيها بل كان معه «ابن عبد ربه»، و«مؤمن بن سعيد»، و«عبد الله بن حبيب»، و«بقي بن مخلد» وغيرهم من العلماء الكثير.

وبرغم بروز العلماء في الأندلس إلا أن العباس سيبقى دائمًا وأبدًا حتى بعد وفاته عن عمر مديد جاوز الثمانين، سيبقى العباس بن فرناس خالدًا ليس في تاريخ الأندلس فقط بل في تاريخ البشر جميعًا، فهو أولًا وأخيرًا الإنــسان الذي طار.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. رسالة بعنوان: العباس بن فرناس شاعرًا، د. صلاح جرار، الجامعة الأردنية.
  2. دولة الإسلام في الأندلس، محمد عبد الله عنان.
  3. تراجم إسلامية شرقية وأندلسية، محمد عبد الله عنان.
  4. مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، شهاب الدين العمري.
  5. تاريخ آداب العرب، مصطفى صادق الرافعي.
  6. دولة الإسلام في الأندلس، محمد عبد الله عنان.
  7. نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، المقري التلمساني
  8. نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، المقري التلمساني.
  9. المرقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا، أبو الحسن النباهي.
  10. تراجم إسلامية شرقية وأندلسية، محمد عبد الله عنان.