تبدأ الحكاية من شريط حدودي يفصل بين شمال السنغال وجنوبها، ولكنها دولة مستقلة بالفعل تُسمى «غامبيا»، دولة مُغطاة بالحدود السنغالية من الشرق والشمال والجنوب ولا يستثنى إلا غربها المطل على المحيط الأطلنطي، دولة لم نسمع بها على مستوى كرة القدم إلا مؤخرًا عندما بلغ منتخبها ربع نهائي أمم أفريقيا العام الماضي في الكاميرون، قبل أن يعيد منتخب شبابها التذكير بها ببلوغه نهائي أمم أفريقيا تحت 20 عامًا على أرض مصر وأمام السنغال، وبالتبعية الوصول لمونديال الشباب.

قبل سبع سنوات من تلك الإنجازات، لم يكن لغامبيا وجود على خارطة كرة القدم العالمية بقرار من الاتحاد الأفريقي، الذي أعلن استبعاد غامبيا من المنافسات القارية على خلفية إشراك منتخب الشباب حينها للاعبين فوق السن القانونية في بطولة أفريقيا تحت 20 عامًا، قبل أن تدب الحياة مُجددًا في كرة القدم الغامبية عام 2017، والتي شهدت محاولات وخطوات مهمة وسريعة لإعادة تعريف كرة القدم في بلاد أرادت ألا يُختزَل اسمها وتواجدها قاريًّا وعالميًّا في صورة الحكم «باكاري جاساما» فقط.

صعود السلم

تعد أكاديمية «جي تيك» من الأشهر في البلد الغرب أفريقي، حيث تُقدِّم تلك الأكاديمية برامج تدريبية حسب الفئات السنية للاعبين الصغار بما يتناسب مع قدراتهم الذهنية والبدنية حسب متطلبات كل فئة عمرية، فالأعمار من بين 6 و7 أعوام، يتم تدريبهم ليوم واحد، وتشمل التدريبات خوض مباريات مُصغَّرة؛ لاعب أمام لاعب أو 2 ضد 2 أو 3 ضد 3، ليستوعبوا اللعب في مجموعات صغيرة، والتي تتحول بعد ذلك إلى مواقف في المباريات، وبين عمر السابعة والـ 18؛ يتم تدريب الناشئين في نهاية الأسبوع ليومين متتاليين حتى يتمكنوا من استيعاب فكرة العيش معًا، مما يُمكِّنهم من التكيف مع المعسكرات عندما ينشطون ضمن فرق أو مع المنتخب.

أما في المرحلة بين سن الخامسة والـ 12، يتم تدريب الأطفال على فهم أساسيات اللعبة وتقويم سلوكياتهم رياضيًّا واجتماعيًّا، في أجواء خالية من ضغوط المنافسة، وذلك من أجل ضمان فهم اللاعبين للأسس الموضوعة، بالإضافة إلى تطوير ثقتهم في أنفسهم.

أما في المرحلة الأخيرة؛ وبين الأعمار من 12 إلى 18 عامًا، يتم وضع اللاعبين في بيئة تنافسية، مع خوض مباريات تصل إلى ثمانية لاعبين ضد ثمانية لتصبح مثل مباريات الأكاديميات الخارجية، هذه الحصص أيضًا تشمل تطوير الجوانب التكتيكية ما بين الهجومي والدفاعي من أجل أن يُطبِّق اللاعب كل ما يفعله في المباريات ويكون جاهزًا للمنافسة.

كما تُقدِّم تلك الأكاديمية برامج تدريبية للاعبيها على كيفية استخدام الكمبيوتر والولوج إلى شبكة الإنترنت، حتى يتمكنوا من تصفح أخبار الفرق العالمية ومتابعة المباريات، فضلًا عن تحسين استيعابهم للمحاضرات وتعليمات المدربين، كما تساهم تلك البرامج في تطوير مهارات اللاعبين على مستوى اللغة، وبالتالي تسهيل عملية التواصل في الملعب سواء فيما بينهم أو مع المدربين أو حتى الحكام، وفي حال لم يكمل أي لاعب مشواره الكروي سيتسفيد بتلك المهارات في الحصول على وظيفة في أي مجال آخر.

إنعاش الملاعب

تتزامن النهضة الكروية في غامبيا على مستوى المنتخبات مع محاولات حثيثة للمسئولين في البلاد لتطوير الملاعب، وذلك لتحسين أداء المنتخبات عندما تلعب المباريات على أرضها، وبالفعل نجحت اللجنة الأولمبية الغامبية في التوصل إلى اتفاق مع الغرفة الفنلندية للشراكات المؤثرة، من أجل استاد فارافيني الصغير، والذي يبعد بما يقارب 120 كيلومترًا عن العاصمة بانجول، ويحمل الاتفاق خطة كاملة لتطوير الملعب، والذي سيفيد غامبيا، وكذلك القاطنين بمقاطعة فارافيني.

وستقوم تلك الغرفة والتي تتولى مسئولية عدة مشاريع في الجارة السنغال، بالتعاون مع شركة «جي أر»، وهي أيضًا شركة فنلندية مختصة في البناء الأخضر والمستدام، وذلك لتطوير الملعب، مُستفيدين من خبرة «معهد فارالا الرياضي»، وهي وكالة رائدة في التعليم والتدريب الرياضي، وكذلك مركز التدريب الأولمبي الفنلندي.

وقد اُختير هذا الملعب تحديدًا لأنه تعرَّض لانتقادات شديدة من وسائل الإعلام في البلاد، مع توجيه اتهامات للسلطات المحلية بالتورط في وصوله إلى تلك الحالة السيئة، مما يعكس حرص المسئولين في البلاد على التركيز على كافة المدن والمقاطعات وعدم التفكير في تلميع صورة العاصمة فقط.

أيدٍ نظيفة

يعمل الاتحاد الغامبي لكرة القدم على قدم وساق ليس فقط لتطوير كرة القدم في البلاد، ولكن أيضًا لإظهار مدى الشفافية التي يتم بها العمل الكروي في غامبيا، ويمكنك ملاحظة ذلك من خلال الموقع الرسمي للاتحاد، والذي يعطيك فرصة الاطلاع على أعماله من خلال تقارير سنوية تشرح ما يتم العمل عليه وما تم إنجازه بالفعل طوال العام، سواء على المستوى الرياضي كالوصول إلى كأس العالم للشباب وكأس الأمم عام 2021، أو عن آلية تسيير الأمور داخل الكرة الغامبية.

وتتضمن تلك التقارير كيفية تطوير مدربين الدوري الغامبي من خلال دورات الرخص التدريبية من الكاف، وتطوير الحُكَّام بالتعاون مع الفيفا، وحتى تطوير الكرة النسائية بالتعاون مع اليويفا، كما تُبيِّن التقارير كيفية مساعدة الفيفا لغامبيا لتطوير بنيتها التحتية من ملاعب ومرافق، وهو أمر اعترف الاتحاد الغامبي في تقاريره بأنه ما زال قيد التطوير، وبحاجة إلى المزيد من الأعمال.

ولكي يتجنب مُسيِّرو الكرة في غامبيا مصير ما حدث مع أسلافهم، فهو حريصون أيضًا على شرح كل ما يحدث من الناحية المالية، وإرفاق مصروفات الاتحاد على كل هذه الأعمال، كما يتم نشر الموازنات المالية للاتحاد على الموقع بشكل سنوي، ويمكن لأي شخص مُطالعة تلك التقارير دون أي قيود، مما أكسب هذا الاتحاد مصداقية كبيرة في الشارع الكروي الغامبي، وهي الثقة التي تعزَّزت في ظل الإنجازات التي تعيشها الكرة الغامبية، سواء ببلوغ ربع نهائي أمم أفريقيا للكبار، أو الوصول لنهائي أمم أفريقيا للشباب، فضلًا عن الوصول لمونديال الشباب في مناسبتين متتاليتين، أو ببزوغ نجوم في دوريات أوروبا، مثل «موسى بارو» نجم بولونيا الإيطالي، والذي تصدَّر قائمة من 22 لاعبًا غامبيًّا محترفًا في أوروبا، ضمَّتهم قائمة غامبيا في أمم أفريقيا الأخيرة في الكاميرون.

والآن يمكن للمشجع واللاعب الغامبي أن يحلم بما هو أكثر من التواجد في أمم أفريقيا، فالدولة التي بلغت ربع النهائي من أول مشاركة وثبَّتت أقدامها في مستقبل الكرة الأفريقية، وتفوقت على مدارس مهمة في بطولة الشباب مثل تونس وبالطبع نيجيريا، يمكنها أن تُنافس بشكل جدي على زعامة القارة السمراء مُستقبلًا، تزامنًا مع التحول الجذري في القوى الكروية هناك.

ومع زيادة عدد منتخبات كأس العالم، وبالتبعية عدد المنتخبات الأفريقية المشاركة إلى تسعة، فربما تحلم غامبيا بوقوف منتخبها لعزف النشيد الوطني لغامبيا في كأس العالم، وحينها سيكون وقوفًا تاريخيًّا، لأنه أتى من رحم إيقاف، كان من المفترض أن يمحو كرة القدم الغامبية، أو على أقل تقدير كان ليؤخر ظهورها حتى إشعار آخر.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.