يُقال إن المنتصر هو من يكتب التاريخ، وهذه المقولة إلى حدٍ ما صادقة، عُد إلى التاريخ الحديث الذي رأيته بعينيك وعايشته، وستجد أن الوقائع والأحداث تُكتب وفقًا لهوى وقوة من يكتبها، وهنا يأتي دور التأريخ.

والتأريخ «Historiography»، هو إعادة كتابة التاريخ بعد نقد المصادر الموجودة، وإعادة سرد التفاصيل والخوض فيها بطريقة أكثر مصداقية. يتناول التأريخ الحدث، ويحاول نقده وتفسيره، إما عن طريق طرح بعض الأسئلة، أو عن طريق التشكيك في الأشخاص والزمان والمكان ومحاولة إثبات جميع تلك الشكوك.

يعتقد علماء التاريخ، أن تاريخ البشرية عبارة عن مجموعة من العقود يعقبها ثورة في معظم الأحيان، ربما تكون ثورة سياسية وقد تكون صناعية أو ثقافية، الأكيد أن الثورات بمختلف أشكالها تحتاج لعقود ليرى تأريخها النور وفق شواهد مجردة، نظريات غير متهمة بالتحيز إما لها أو ضدها.

هناك عدة طرق لتأريخ مرحلة ما في حياة الشعوب، كرة القدم هي إحدى تلك الطرق، فمنذ نشأتها وهي أداة مهمة لهذه الثورات وشاهدة على عصرها، وكذا فاعلاً رئيسيًا للتأريخ لها، فكيف ذلك؟

أداة الثورة لغرس القومية

يتزامن مع حدوث الثورات تأجج مشاعر كالقومية والوطنية في نفوس الشعوب، ويحاول المسؤولون عن قيادة تلك الثورات العمل على استمرار لهيب هذه المشاعر لأقصى حد ممكن وتوطيدها بكل السبل الممكنة كاستثمار لفرض سيطرتهم على مقاليد الحكم.

ارتبط الصراع الطبقي والثورة بكرة القدم منذ نشأتها الأولى. يخبرنا التاريخ عن استخدام الرياضة، بخاصة كرة القدم، كأداة سياسية سواء من قبل الأنظمة الثورية، أو من الأنظمة الحاكمة.

بدأ هذا الأسلوب من الدعاية المتعلقة بكرة القدم كأداة سياسية مع الإيطالي«بينيتو موسوليني»، وفي وقت لاحق، اتبعه «أدولف هتلر» في ألمانيا، و«فرانسيسكو فرانكو» في إسبانيا، ثم إلى عدد من المواقف التي لا تعد ولا تحصى على مر تاريخ الكرة.

يعتقد علماء التاريخ أن كرة القدم هي الأداة الأهم لتوطيد هذه القومية في الجماهير، لأنها مطعمة هي وجمهورها في الأساس بمثل هكذا مفاهيم، وهذه المشاعر هي العملة الرئيسية التي تساعد قيادات تلك الثورات في معركة الصراع على الحيز والفضاء. ولم يختلف الأمر كثيرًا في مصر.

الصراع على الحيز: تقسيم كعكة الاتحادات بعد يوليو 52

في أعقاب الثورات يكون الصراع على الحيز هو المعركة الضارية التي تواجه من قاموا بها، والصراع على الحيز هو العملية التي يحاول بها الفرد أو الجماعة السيطرة على جل الفضاءات الممكنة، سواء كان هذا الحيز اقتصادياً أو سياسياً أو اجتماعياً.

تتناول كتب التاريخ قضية الصراع على الحيز عقب الثورات من كل المناظير، إلا أنها تُهمش دور الصراع على الحيز الرياضي، لكن عند التأريخ لهذه الثورات نجد هذا الصراع بخاصة الكروي كان الطريق في عديد من الأحيان لحسم باقي هذه الصراعات.

عقب ثورة يوليو 52 التي قام بها الضباط الأحرار على الملك فاروق، كان من مساعي هؤلاء الضباط لتوطيد نظام حكم جديد جمهوري، والتخلص من النظام الملكي، هو اهتمامهم بالرياضة.

سيطر رجال الثورة على رئاسة كل الاتحادات الرياضية حينها، حيث كان المشير عبد الحكيم عامر رئيساً لاتحاد كرة القدم‏، وعلي صبري رئيسًا لاتحاد السباحة‏، وحسين الشافعي رئيسًا لاتحاد الفروسية‏، وأنور السادات رئيسا لاتحاد تنس الطاولة، وعبد المحسن أبوالنور رئيسًا لاتحاد كرة السلة‏، وزكريا محيي الدين رئيسًا لاتحاد التجديف، والفريق علي علي عامر رئيسًا لاتحاد الرماية، والفريق أول صدقي محمود رئيسًا لاتحاد الإسكواش، واللواء عبدالله رفعت رئيسًا لاتحاد الكرة الطائرة، والفريق أول عبد المحسن كامل مرتجي رئيسًا لاتحاد المصارعة، وصلاح الدسوقي رئيسًا لاتحاد السلاح، ومجدي حسنين رئيسًا لاتحاد التنس.

ولأن من بين كل هذه الرياضات تستحوذ كرة القدم على قلوب وعقول الغالبية العظمى من الناس، فقد كانت محط اهتمام مضاعف من قيادات الثورات، نظرًا للقاعدة الشعبية لها؛ لذا أسند منصب رئيس اتحاد كرة القدم بعد ثورة يوليو 52 لنائب القائد الأعلى للقوات المسلحة حينها عبدالحكيم عامر، وهو أكثر الرجال قربًا من رئيس الجمهورية جمال عبدالناصر.

المشير عبد الحكيم عامر وصالح سليم
 

كرة القدم بخير= ثورة ناجحة

يعتقد الأستاذ محمد حسنين هيكل أنه بمجرد تمكن نظام ما بعد الثورة من مقاليد الحكم، تكون العقبة التالية التي تواجهه هي عقبة صناعة القرار السياسي أو حتى التأثير في صناعته، وأن الإدارة الثورية الناجحة هي من تدرك أهمية القوى الناعمة، وقدرتها على تمرير كثير من تلك القرارات.

ونحن هنا بالتحديد نتحدث عن كرة القدم باعتبارها أهم هذه القوى الناعمة بخاصة في فترات ما بعد الثورات، إذ كانت دائمًا أداة لإحكام السيطرة على صناعة القرار، وبالتالي كانت محط اهتمام القيادات السياسية للثورات.

ثورة يوليو 52 بالتحديد هي خير مثال على ذلك، ليس من باب التحيز، وإنما لتقاطعها التام مع كرة القدم، حيث كان المشير عبد الحكيم عامر نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، وفي نفس الوقت رئيساً لاتحاد كرة القدم. كان المشير مولعًا بكرة القدم لدرجة أنه وضعها تحت رعايته الخاصة، ومدركًا كذلك أهميتها في تحقيق مساعيه سواء كانت عامة أو شخصية.

لم يكن المشير وحده من العسكريين الذين عرفتهم نوادي الكرة. فقد كان رئيس النادي الأهلي الفريق أول مرتجى وهو قائد القوات البرية التي شاركت في حرب 1967، والفريق أول سليمان عزت كان رئيس النادي الأولمبي.

كان المشير مهتمًا بأدق تفاصيل الأندية والمنتخبات، وسعى دائمًا لتحقيق الأندية والمنتخبات لإنجازات دولية، وفي ظل رئاسته لاتحاد الكرة فازت مصر بالمركز الرابع في دورة طوكيو الأوليمبية، وهو إنجاز لم يتحقق منذ دورة أمستردام عام 1928 ولم يتحقق بعد ذلك.

هنا بالتحديد وبعد بسط الثورة وقادتها لأيديهم وأفكارهم، نكون أمام طريقين، فما هما وما علاقة الكرة بهما؟

في مفترق الطرق: المشير عاوز كده

يتحدث المؤرخون أن التغير الاجتماعي لا يرى النور و لا يكون ثوريًا إلا إذا فجر صراعًا أيديولوجيًا وفكريًا، يضرب المجتمع لفترة من الزمن قبل أن يتحقق الاستقرار، أما الطريق الآخر فهو محاولة إلغاء هذه التعددية، والعمل بما يُعرف بالتنظيم السياسي الواحد، وهو ما قد يتسبب في أزمة اجتماعية قد تصل بالنظام السياسي إلى الفشل.

وإذا ما أردت أن تستشف بعض العوامل التي قد تساعد على فهم أسباب نجاح ثورة أو فشلها، انظر إلى حال كرة القدم في ذاك العصر.

كرة القدم في هذه السنوات كانت انعكاسًا لما حدث من محاولة رجال الثورة لإلغاء التعددية الحزبية، والعمل وفقًا لأهواء قادة مجلس الثورة.

 كانت طلبات المشير الكروية أوامر، في الموسم الكروي 1961- 1962 دعا النادي الأهلي نادي بنفيكا البرتغالي – وكان بطل أوروبا- للعب في القاهرة. وقدم عبده صالح الوحش مدير الكرة في الأهلي طلبًا إلى إدارة النادي، بالاستعانة باثنين من اللاعبين من خارج الأهلي هما بدوي عبدالفتاح من الترسانة، ومحمد بدوي من المصري، لكنه فوجئ بأوامر منه باصطحاب لاعبين من الزمالك، وعندما أراد مناقشة القرار قيل له: «المشير عاوز كدة».

قس على ذلك عشرات المواقف الكروية للمشير فقط، التي كانت تومئ بأن الثورة حادت عن أهدافها، وأن أحد رجالها تجبر وصار لا يخشى أحدًا، وهو الفخ الذي تقع فيه الثورات التي قُدر لها الفشل.

من نظم ثورية إلى نظم بالية: وكرة القدم أيضًا

في دراسة نشرتها جامعة «كامبريدج» عام 1979، عن مقارنة الثورة الفرنسية و الروسية والصينية، أفادت بأن الأنظمة الثورية التي يحيد رجالها عن أهداف الثورة وفي مقدمتها تقبل الاختلاف، تنتج هذه الثورات أنظمة طغيان وتسلط، تنشغل بالمحافظة على النظام الداخلي، ثم تتحول بالتدريج إلى نظم بالية.

وكالعادة تكون كرة القدم خير تأريخ لهذه النتيجة أيضًا، كانت نكسة 1967 إيذانًا بفشل هذا النظام ورجاله، ولم تكن كرة القدم بمعزل عن هذه الهزيمة، انهارت بعض الأندية المحلية، بل ووصل الانهيار إلى الملاعب التي صارت ملجأً للمهجرين عنوةً بسبب الحرب.

توقف النشاط الرياضي لست سنوات كاملة، لم يلعب فيها المنتخب المصري سوى بعض المباريات الودية، وكذا هاجر اللاعبون الكبار للعب خارج مصر. كرة قدم بالية تُشير إلى أن النور مر من هنا ذات ليلة، هنا كانت توجد ثورة لكنها انهارت على يد رجالها.

تتقاطع معنا كرة القدم، تتداخل مع أدق تفاصيلنا، تحكي لنا الحكاية بمنتهى الصدق دون تزييف أو تجميل، نصيحتنا الأخيرة لك، إذا أردت أن تقرأ التاريخ فلا تنسَ أن تعرج على باب كرة القدم.