خلال سلسلة من المقالات، نستعرض أهم الاكتشافات الفلكية للسير جون هيرشل؛ الحياة على سطح القمر
أندرو جرانت، صحيفة «نيويورك صن»، 25 أغسطس 1835

بتلك الكلمات، روّجت الصحيفة حديثة العهد لسلسلة من ست مقالات، تصف الحياة على سطح القمر، متضمنة سردًا دقيقًا للكائنات التي تعيش هناك، بما فيها الحيوانات المجنحة التي قامت ببناء المعابد. فيما أعادت الصحيفة الفضل في هذا الاكتشاف العظيم لاستخدام «هيرشل» تلسكوبًا ضخمًا تم تثبيته في منطقة رأس الرجاء الصالح، قد يمكننا فيما بعد من ملاحظة أدق التفاصيل التي تحدث على القمر.

بالظبط كما توقعت، كانت القصة برمتها زائفة، ويُعتقد أنها الأساس الذي بُني عليه ما يعرف بالصحافة الصفراء، التي تقوم على إثارة القُرّاء بأخبار مغلوطة، لبيع أكبر عدد ممكن من النسخ.

وبعد نحو قرنين من الزمن، وحتى بعد امتلاك العالم بأسره لإمكانية الولوج لشبكة الإنترنت، لا تزال نفس الإستراتيجية قائمةً، لكن هذه المرّة لوصف الحياة في كوريا الشمالية.

لماذا نحن هنا؟

عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، أصبحت شبه الجزيرة الكورية ضمن تركة الحلفاء المنتصرين، الذين توصلّوا بشكل ما لأن يصبِح الجزء الجنوبي تحت حكم الولايات المتحدة الأمريكية، والشمالي في قبضة الاتحاد السوفييتي.

ربما الآن توصلت لما نريد أن نخبرك به، فقد شكلت الأيديولوجيات المختلفة الحياة في كلتا الكوريتين، حيث نشأ صراع -حديث قديم- ما بين الرأسمالية والشيوعية، الذي انعكست آثاره على كل نواحي الحياة في هذه البقعة من العالم، بما فيها الرياضة في العموم، وكرة القدم بشكل خاص.

كرة القدم في ظل الشيوعية

في عام 2014، انتشر مقطع فيديو على الإنترنت، يُظهر وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة في كوريا الشمالية وهي تخبر مشجعي كرة القدم أن المنتخب الوطني قد وصل إلى نهائي كأس العالم في البرازيل.
صحيفة «ذا إكسبريس» الإنجليزية، نوفمبر 2017

بغض النظر عن سذاجة الخبر أعلاه، إلا أنه يخبرنا الكثير عن تعامل الصحافة الغربية مع كوريا الشمالية تحت حكم «كيم جونغ إيل»، وكأنها كون موازٍ، يعيش ما لا يعيشه العالم بأسره، بسبب سياسات حفيد مؤسس الدولة القمعية.

بعيدًا عن هذا الجانب الهزلي، وكأي ديكتاتور متمرّس، يتعامل زعيم كوريا الشمالية مع كرة القدم كواجهة لتلميع صورة نظامه الذي نالت منه العقوبات الدولية، لذلك فهو يولي اهتمامًا باللعبة التي تعد ثاني أكثر الألعاب شعبية في «بيونغ يانغ» بعد رياضة العدو، لكن على الطريقة الشيوعية.

لا توجد أندية كرة قدم مستقلة بذاتها في كوريا الشمالية، حيث تتبع كل فرق كرة القدم أجهزة الدولة المختلفة؛ ولعل أبرزها نادي «25 أبريل»، التابع للجيش الكوري الشمالي، والذي يعد أكثر الأندية تتويجًا بلقب الدوري الممتاز.

إضافة لذلك، لا يوجد بث حي لمباريات كرة القدم، إلا في مناسبات محددة، مثل حضور الزعيم للمباراة، أو مشاركة المنتخب القومي في بطولة عالمية؛ كمشاركته في كأس العالم 2010 بجنوب أفريقيا، حيث عاش المواطنون الكوريون الشماليون حدثًا فريدًا، بإذاعة مباراة المنتخب ضد البرتغال، كأول مباراة خارجية تبث للجماهير، منذ أكثر من 12 عامًا.

لكن للأسف، انتهت المباراة بالخسارة بسبعة أهداف لزملاء كريستيانو رونالدو، ما استدعى قطع البث المباشر عقب تسجيل «برازيل أوروبا» للهدف الرابع مباشرة.

طبقًا لـ«جون سودورث»، صحفي «بي بي سي»، يصعب تصديق مزاعم البعض بأن زعيم كوريا الشمالية هو السبب في الخسارة المدوّية أمام البرتغال، بسبب إعطائه لمدرب المنتخب بعض التعليمات التكتيكية، لرغبته في أن يتحلى الفريق بشجاعة هجومية، بعد أن قدّم مباراة دفاعية مبشّرة أمام البرازيل في المباراة التي سبقت هذا اللقاء.

عقوبات خيالية

قد تكون عقوبة الخسارة بالإرسال للعمل في مناجم الفحم.
مون كي نام، مدرب هرب من كوريا الشمالي بالعام 2004

بتلك الكلمات، توقّع المدرب الذي فر من كوريا الشمالية مصير المنتخب الكوري الشمالي الذي أحرج البلاد بالمحفل الدولي، ويبدو توقعًا منطقيًا إذا نظرنا لوضعه كساخط على النظام، لكن العقوبة الحقيقية كانت أقل حدة بكثير.

طبقًا لمصدر، لم تصرح إذاعة آسيا الحرة عن اسمه، كانت عقوبة المنتخب الذي خرج من كأس العالم 2010 خالي الوفاض بعيدة كل البعد عن هذه المزاعم الهوليوودية، لكنها كانت قاسيةً بعض الشيء.

حيث تعرض عناصر المنتخب لما يعرف بالـ«العار العلني»، وهي أحد طرق العقاب في كوريا الشمالية، حيث تم إجبار جميع من عادوا من جنوب أفريقيا على الوقوف لست ساعات كاملة في قصر الثقافة ببيونغ يانغ، في حضور نحو 400 شخص، من بينهم وزير حزب العمال ووزير الرياضة، بينما يشير معلق التلفزيون المركزي «دونغ كيو» لأخطاء كل عنصر منهم بشكل منفصل.

حلم الريادة

ترتّب على الفشل في كأس العالم بجنوب أفريقيا تحلي القيادة السياسية في كوريا الشمالية ببعض الموضوعية، لأن الفارق بين كوريا الشمالية وجيرانها شاسع جدًا، لن يشفع لتخطيه دعم الرئيس لعناصر المنتخبات المختلفة ماديًا ومعنويًا، لذلك ظهرت فكرة إطلاق أكاديمية «بيونغ يانغ» الدولية لكرة القدم في عام 2013، التي تهدف في المقام الأول لجعل كوريا الشمالية قوة مسيطرة على آسيا في المستقبل القريب.

يرى «يورن أندرسون»، المدير الفني النرويجي السابق لمنتخب كوريا الشمالية، أنه من الممكن جدًا أن تنتج هذه الأكاديمية لاعبين جيدين لإفادة المنتخب الوطني، لكنها بالطبع لن تنتج «ليونيل ميسي»، إلا إذا نجح المتميزون منهم في الخروج واللعب كمحترفين بالدوريات الأوروبية.

يؤكد السويسري «كارل ميسرلي»، الذي عمل كحلقة وصل ما بين كرة القدم في كوريا الشمالية وأوروبا على هذه الفكرة أيضًا، حيث يرى أن كوريا الشمالية لا تعاني فقرًا في المواهب، لكن هذا وحده لا يكفي، فحسب وجهة نظره؛ اللاعب الكوري الشمالي يفتقر للخبرة والاحتكاك.

ونظرًا لعلاقاته الطيبة مع القيادات بـ«بيونغ يانغ»، نجح «ميسرلي» عام 2011، في إقناع مسؤولي اتحاد الكرة بأن السبيل الوحيد لتقوية المنتخب الوطني هو ترك اللاعبين في سن صغير ليخوضوا تجربة الاحتراف في أوروبا.

صناعة رونالدو «الغلابة»

في عام 2012، سعى اتحاد الكرة في كوريا الشمالية لإيجاد أكاديمية أوروبية مناسبة حيث يمكن لأفضل مواهب البلاد أن تتطور وتتعلم من نظرائهم الأوروبيين، وكانت تلك فرصة مثالية لصناعة مشروع ضخم على هيئة لاعب كرة قدم موهوب يدعى «هان كوانغ سونغ».

وفقًا لـ«ماورو كوستوريلا»، مدرب كرة القدم بأكاديمية «ISM» في إيطاليا، كانت عملية صناعة مهاجم منتخب كوريا الشمالية مشروعًا تم إنشاؤه من خلال أنطونيو رازي، السياسي الإيطالي، الذي يمتلك علاقات وثيقة بزعيم كوريا الشمالية ورئيس أكاديمية «ISM»، لتطوير اللاعبين الكوريين الشماليين.

شاهد ماركو ماتيراتزي بعض مباريات فريقنا المكوّن من لاعبي كوريا الشمالية، وأثنى كثيرًا على مهارات اللاعبين، خاصةً عندما شاهدهم يؤدون تدريب الروندو.
ماورو كوستوريلا، مدرب أكاديمية ISM

في 2014، ذهب ممثلو الأكاديمية الإيطالية لبيونغ يانغ، لانتقاء أفضل المواهب، ومن ضمنهم «هان»، الذي يلعب كرأس حربة وجناح أيسر، ليتم تدريبه وإكسابه المزيد من الخبرات، التي أهلته بعد ذلك لتمثيل الفريق الأول لـ«كالياري» الإيطالي في سن 19 عامًا، لينتقل منه إلى «بيروجيا»، ثم إلى «يوفنتوس» تحت 23 عامًا في صيف 2019.

فرحة لم تتم!

في الواقع، لم ينجح «هان» في إقناع مدربي يوفنتوس بإمكانياته، ليرحل اللاعب الذي اعتُبر مشروعًا خاصًا لتلميع واجهة «كيم جونغ إيل»، بل إن اللاعب نفسه يرى فيه أبًا روحيًا، و يستشيره في كل كبيرة وصغيرة تخُص مسيرته الكروية.

وعلى الرغم من ذلك، فشل اللاعب في الالتحاق بأي فريق كبير بأوروبا بعد تسريحه من يوفنتوس، على الرغم من تلقيه عروضًا من بعض أندية البريميير ليغ، ويرجع السبب في ذلك لقانون العمل في كوريا الشمالية، الذي يقتضي إعادة العاملين بالخارج لجزء من رواتبهم لكوريا.

وفي ظل العقوبات المفروضة على كوريا الشمالية، بسبب برنامجها الخاص بالتسليح النووي، اعتبر اقتطاع جزء من راتب «هان» المتوقع في أي من الأندية الإنجليزية وإرساله لبيونغ يانغ، مساندة صريحة للنظام القمعي، الذي يهدد سلامة وأمن الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة.

لذلك، وحتى وإن صدقنا على تصريحات «أندرسين»، «ميسرلي» وحتى إعجاب «ماتيراتزي» بشأن اللاعب الكوري الشمالي في العموم، لا يبدو أن كرة القدم في كوريا الشمالية في طريقها لتقديم أي جديد، لأن النظام الذي يسعى لتطوير الشباب رياضيًا، هو نفسه الذي تمنعهم سياساته من الوصول -ولو نسبيًا- لقمة كرة القدم.

نعتذر إن أصابك التشتت، في الواقع لم نسرد كل ما سبق من أجل إدانة أو تبرئة ساحة النظام الكوري الشمالي من تهمة إفساد كرة القدم، لكن لنخبرك بأنّ تكرار الأخبار المغلوطة حول كرة القدم هناك، ما هو إلا استمرار لفكرة بدأت منذ قرنين من الزمان.

لكن في حالتنا، ومع إضافة الانغلاق لعوامل الإثارة والتشويق الخاصة بالأخبار حول بيونغ يانغ، تحوَّل شعب بأكمله، يمتلك أحلامًا وطموحاتٍ مشروعة كغيره من الشعوب إلى مزحة .. مزحة ثقيلة الظل.