يدور جدال تاريخي بين عدة حضارات حول المنشأ الأول للعبة كرة القدم. حاول الفراعنة وورثتهم إثبات أحقيتهم في اللعبة، كما ادعت اليونان وروما وحضارات من جزر الكاريبي والمكسيك وحتى الصين واليابان أن لكل منهم -نفس- الحق في اختراع اللعبة الأشهر والأكثر انتشارًا عبر التاريخ.

ينتهي الصراع في الغالب بشهادة أكثرية المؤرخين، بأن اللعبة بشكلها الحالي تعود في الأصل إلى «لعبة الغوغاء – Mob Game» التي انتشرت ببريطانيا في العصور الوسطى. لكن يأخذنا ذلك الجدال إلى حقيقة بمدى أبعد، وهي أن الشكل الكروي الذي كان يُركل بالقدم ببدائية لم يكن حكرًا على إحدى الحضارات دون غيرها، بل انتشر بين أكثر من 5 أو 6 أمم من أماكن متفرقة حول العالم، ولم يمنع انتشاره الانقطاع شبه التام في التواصل بين تلك الحضارات القديمة.

في حين نجد الآن اقتصارًا لهذه الرياضة بشكلها الاحترافي على دولٍ أو قاراتٍ بعينها، بل والأدهى أنه تزيد إحدى مهارات هذه اللعبة في نقط معينة من تلك القارات وتنعدم في نقط أخرى. لينقلنا ذلك إلى سؤال إجباري الفرض: هل توقف انتشار لعبة كرة القدم على بقاع معينة ولم تساعده العوامل التاريخية والجغرافية على الانتقال إلى الأخرى، أم أن لكرة القدم علم ديموغرافيا خاصًا بها، لم يُدرس بعد؟


في آسيا، لا تلمسني!

ربما لم يجد المؤرخون معاناة في استثناء أغلب الدول الآسيوية بحضاراتهم القديمة من صراع منشأ كرة القدم، لأنه لو كان هناك أصل لتلك اللعبة في تاريخ هذه الدول لوجدنا له فروعًا في الحاضر المرئي، لكن ما يزيد الأمر غرابة هو ابتعاد قارة بحجم آسيا عن صراع القمة في كرة القدم في العصر الحالي.

تمتلك تلك القارة دولًا لا تُنافس من حيث التعداد السكاني، وتمتلك على الأقل 3 من أكبر 5 قوى اقتصادية حول العالم، ما يعني أن لديها القدرة البشرية والمادية لاستقطاب رياضة بتلك الأهمية، وحتى لو لم تكن كرة القدم جزءًا من تاريخها الماضي، فما المانع من صناعتها بالمال؟ خاصة وأننا نملك أمثلة مصغرة على ذلك في أندية لم تكن موجودة على الخريطة العالمية وظهرت في غضون سنواتٍ معدودة عن طريق القوة المالية.

ما يزيد الأمر دهشة، أن افتقار هذه القارة من المواهب لا يقتصر على بطولاتها المحلية أو القارية فقط، لكننا لا نواجه كل موسم إحدى المواهب الآسيوية يلمع في الدوريات الأوروبية، كما هو معتاد من بني الجنسيات الأخرى، فمثلًا من ضمن 3700 لاعب محترف في أندية إنجلترا وويلز،يوجد 12 لاعبًا فقط يملكون الجنسية الآسيوية، أو بالأخص الجنوب آسيوية. والأكيد أن الأمر لا يعود لأسباب عنصرية، فالعديد من الفرق المحلية تملك لاعبين من أصول آسيوية في أعمار 7:10 أعوام، لكن سرعان ما يتم تسريح هؤلاء الأطفال بلا سبب واضح.

تُشير الأدلة الواقعية إلى أن هناك محاولات لتطوير اللعبة داخل القارة فعلًا، بالأخص في بلدان الصين واليابان وكوريا الجنوبية. لكن حسب تأكيد «توم باير» خبير التطوير الكروي الذي يعمل لدى دولتي الصين واليابان من أجل إحداث طفرة في اللعبة هناك، أن الأمر لا يشير إلى انعدام المواهب في تلك المنطقة، لكنه يحتاج إلى رعاية هذه المواهب من أعمار سنية أصغر.

في البلدان التي تنتشر فيها كرة القدم كثقافة شعبية يتعامل فيها الأطفال مع الكرة بشكل يومي: في الشوارع والمدارس والبيوت. لا يهم أن يتم ذلك بتنظيم وانضباط لكن يجب أن يتم بكثافة تكفي للحفاظ على الموهبة لدى أطفال تلك المناطق حتى الولوج إلى أكاديمية مختصة تُبرز الموهبة فيهم بشكلٍ أفضل، مثلما يحدث في قارة أفريقيا مثلًا. أما في الدول الآسيوية، لا يحدث ذلك.

وبعد محاولات بعض المختصين للبحث عن أسباب عدم ظهور مواهب آسيوية في سنٍ صغيرة داخل الدول الأوروبية،يقول الدكتور «دان كيلفينجتون»، البروفيسير بجامعة «ليدز بيكيت» إنه أُثبت أن الآسيويين لا يفضلون الاتصال الجسدي المباشر، أو التلامس من أي نوع بين أي جنسٍ كان.

جاء ذلك مضافًا إلى وجود كتاب نُشر باسم الكاتب الصيني «لو مينج» والذي عاش أغلب حياته في الولايات المتحدة، وكان بعنوان «افتقار الصينيين للعناق». لا يقتصر ذلك على الحياة العادية فقط، حيث تقول الكاتبة «يانج تشونمي» إنه حتى الآباء لا يتصلون جسديًا مع أبنائهم إطلاقًا، وأنها احتاجت إلى 40 عامًا لكي تنجح في عناق والدتها حين كانت مريضة لا يمكنها الحراك أصلًا.

وفي رياضة مثل كرة القدم تعتمد على الالتحام المباشر بين أجساد ممارسيها كلغة أساسية لا يمكن التفريط فيها، فإن الأطفال من تلك البيئات الآسيوية يعانون التعايش مع طبيعة كتلك، ولعل تقدمهم في الألعاب الفردية تأكيد واضح على ذلك.


لا تخترع كرة القدم، أتقنها

حاول تسمية أفضل 5 لاعبين في التاريخ الكروي عبر كل العصور، وعمم المحاولة على كل المقربين منك، والأكيد أن كل القوائم لن تخلو من 3 أسماء «بيليه، ماردونا وميسي» باختلاف ترتيبهم وباختلاف شركائهم في كل قائمة. حيث عَرفت كرة القدم في تلك البقعة اللاتينية من العالم شكلاً مختلفًا عن المعتاد، شكلاً يربطها بالموسيقى والرقص والابتهاج عكس ما عُرف عنها في المنشأ الأصلي، إنجلترا.

لم تكن المراوغة بالكرة أحد أهم الأسباب التي سعى الإنجليز للقتال عليها في شكل لعبتهم البدائي، خصوصًا بعد أن تم تعديل قانون اللعبة وألغي مسك الكرة باليد فيها، وركّزوا فيما بعد على الجانب العنيف من اللعبة تاركين المراوغة ومهارتها للاتينيين. هناك، لم تكن المراوغة خيارًا إضافيًا، بل كانت ضرورة مُلحة تعود إلى عدة عوامل، أهمها: أن أغلب دول هذه القارة فقيرة، تعاني مشاكل اقتصادية عملاقة، بالتالي كان انتشار اللعبة في أماكن وأحياء ضيقة جدًا مكتظة بالسكان، ما يجعل الركض بالكرة في طريقٍ مستقيم دربًا من الخيال.

بمرور الوقت، شكلت المراوغة نمط الكرة الخاص بتلك القارة، خاصة في البرازيل والأرجنتين، وباتت هي المعيار الأهم في الحكم على الموهوبين من تلك البقاع. انصب عليها تركيز كل اللاعبين؛ وذلك لأن اللعبة تحولت من مجرد رياضة ترفيهية إلى الخلاص الذي سينقذ ذلك اللاعب وأسرته من الفقر والضياع في حال تم اختياره لأحد الفرق المعروفة أو لمنتخب بلاده.

ساعد ذلك في زيادة عدد المهتمين باللعبة، حتى أصبحت المسلك الأول لأي طفل، مما جعل هناك صعوبة في انتقاء كافة العناصر الموهوبة، فكان لابد من اختيار مسلك آخر لإخراج هذه الموهبة وليس بعيدًا كليًا عن كرة القدم،فظهر مخرجان الأول هو الكرة الشاطئية، والثاني هو كرة الصالات.

تعتمد كلتا اللعبتين على عدد أقل من اللاعبين (5 لاعبين) وملعب أصغر.يقول بيليه إنه كلما قل عدد اللاعبين والمساحة المتروكة للعب، يجعلك ذلك تفكر أسرع وتتحرك أسرع، بالتالي تصبح هذه الأمور أسهل وتنفذ بتلقائية كبيرة حين يتحول أي لاعب من ممارسيها لكرة القدم الحقيقية.


التخصص الأوروبي

استأثرت القارة العجوز بتطوارت ومبادئ اللعبة الاحترافية دون كافة القارات الأخرى. لا يعود ذلك إلى أسباب مادية ولا جغرافية ولا حتى مناخية، لكن لشئون الديموغرافيا الخاصة بتلك القارة، حيث نجد أن كل دولة في أوروبا قد تمكنت من الاحتفاظ بأحد أركان اللعبة بشكلٍ يتناسب مع طبيعة سكانها.

اعتمدت إنجلترا على نمط «آلف رامسي» الذي ساعدهم في الفوز بكأس العالم 1966 عن طريق الكرات الطولية والالتحامات القوية، و جد الإنجليز في ذلك الشكل الذي يحافظ على نمط حياتهم، فلطالما كانت هذه اللعبة بالنسبة لهم منفذًا لإفراغ طاقتهم وتعبيرًا عن رجولتهم. وبحثت كل الدول الأوروبية الأخرى عن أنماط مشابهة تتناسب مع طبائعهم، فمن الدفاع المستميت والعنفوان في التنفيذ عند إيطاليا، وحتى الحفاظ -بهوسٍ- على المساحات لدى هولندا.

الملل الألماني المفيد

هناك مقولة قديمة أثبتت التجارب صحتها، وهي أنك كي تصبح حارس مرمى عليك التحلي بالجنون والملل اللازمين. تنقلنا تلك العبارة إلى طفولة كل منّا، حينما كنا نفر من اللعب في هذا المركز لأنك بالتأكيد ستكون أقل الأشخاص لمسًا للكرة، وأكثرهم لومًا في حالة الخسارة.

وبالنظر إلى الأسماء المميزة تاريخيًا في ذلك المركز، نجد أن القوائم ستحتوي حتمًا على تلك الأسماء: «سيب ماير»، و«أوليفر كان»، و« مانويل نوير» و«تيرشتيجن». وبنظرة واحدة على أسلوب لعب أي منهم، تكشف لك بكل وضوح الطبيعة الألمانية البارزة فيهم: شخصية هادئة حد الرتابة، وجرأة وثقة في التصرف حد الجنون.

ربما يُعد مركز حراسة المرمى بالتحديد هو أحد أقل المراكز طلبًا للموهبة، ما يعني أن هناك إمكانية أن تشارك فيه بعد سنوات ممارسة للعبة من أي مركز آخر، والأمثلة على ذلك عديدة، بالتالي يمكن بالتدريب الحصول على أعلى أداء ممكن للاعبين من هذا المركز. لذا، تكمن الصعوبة فقط في عملية إقناع الأطفال في أعمار سنية صغيرة بالموافقة على المشاركة في هذا المكان الممل، هذا بالطبع في أي دولة بالعالم غير ألمانيا.

قامت شبكة «الإندبندنت» بتصويت شارك فيه 800 طفل، للبحث عن أكثر الدول الأوروبية مللًا ورتابة، والنتيجة كانت فوز ألمانيا باستحقاق وبفارق كبير عن أقرب ملاحقيها. أضف إلى ذلك أن كلمة «ملل» هي أكثر الكلمات الملاحقة لكلمة «الحياة في ألمانيا». ناهيك عن الطبيعة الأنانية التي يتمتع بها أغلب الشعب الألماني، ما يجعل اللعب في مركز يقوم بكل شيء بشكلٍ منفرد، أقرب لقلوب الأطفال الألمانيين أكثر من أي شيء آخر، ومن بعده تبدأ الماكينات الألمانية في التدريب لتطوير تلك المهارة.

التكيُف الإسباني

ربما في كل ما سبق، كان هناك اتجاه لطريقة اللعب في كل دولة، لكن دون خيار، ما يعني أن الإنجليز لم يختاروا صفاتهم ولم يحدد الألمان طبيعتهم المملة، بالتالي كانت طرق اللعب والميزات الخاصة بهم في كرة القدم إنما هي أقدار وجدوا أنفسهم أمامها، وهو عكس ما دار في إسبانيا.

بنهاية القرن الماضي، ظهر الإسبان بطريقة لعب جديدة، كانت مستوحاة من طريقة اللعب الهولندي الذي تم إحضاره عن طريق «رينوس ميتشلز»، الذي يعتمد على التمرير ونقل الكرة على أرضية الميدان. ومن أجل إتقان ذلك، ركزت الفرق الإسبانية على إخراج لاعبين وسط ميدان موهوبين بشكل بارز عن أي دولة أخرى.

حسب تأكيد المدرب الإيطالي «فرانشيسكو دي أريجو»، المحاضر بالاتحاد الأوروبي، فإن الكرة الإسبانية تتبع سياسة إنتاج ناشئين مختلفة عن بقية العالم. فمثلًا في إيطاليا، تلعب الفرق في أعمار 7 و8 سنوات بعدد 7 لاعبين في الملعب، برسم 1-4-1، 4 لاعبين يقومون بأدوار نصف الملعب والدفاع. في حين أن في إسبانيا يتم الاعتماد على 8 لاعبين، وبرسم 3-3-1، بوجود 3 لاعبين بخصائص وسط ملعب خالصة، وبوجود أفضلية في هذا المركز للاعبين الذين يستطيعون نقل الكرة أسرع وأذكى.