دائماً ما يتم تعريف البرازيل على أنها «أمة كرة القدم»، وأول ما يخطر في ذهنك حين تسمع اسم البرازيل هو منتخبها الوطني التاريخي، ورقمه القياسي في تحقيق كأس العالم خمس مرات، بل يمكن أن تجد شخصاً لا يعرف موقع البرازيل بالتحديد على الخريطة، أو اسم رئيسها، أو وضعها الاقتصادي، وفي المقابل يعرف جيداً منتخب البرازيل عبر تاريخه. كرة القدم هي هوية البرازيل كأمة كاملة.

بدأ ذلك في شهر أبريل/ نيسان عام 1492، حينها المستكشف الإيطالي «كريستوفر كولومبوس»، أقنع ملك «أراغون فرناندو الثاني» وزوجته إيزابيلا الأولى ملكة قشتالة، إنه يأمل في اكتشاف طريق بحري جديد في اتجاه الغرب، يصل بهم إلى الصين والهند، والأراضي الشرقية الغنية بالذهب والبهارات، مُستغلاً كروية الأرض، ليكون ذلك بديلاً للطريق البري الشاق المتجه شرقاً، وعلى أساسه منحه الملكان لقب «الأدميرال البحري»، وكذلك 10% من البضائع والمواد التي سيجلبها معه من رحلته الاستكشافية.

وفي شهر أغسطس/آب من نفس العالم، أبحرت بعثة كولومبوس في المحيط الأطلسي، بحثاً عن أراضي الهند واليابان والصين، لكن رحلته في نهاية المطاف أوصلته إلى مجموعة من الجزر، التي كان يسكنها بالفعل مجموعة من البشر، إلا أن كولومبوس اعتبر تلك الأراضي “العالم الجديد”، وبدأ في استعمارها واستعباد سكانها الأصليين قبل القضاء عليهم.

ومن بعدها بدأ الأوروبيون في استعباد أعراق مختلفة من البشر للعمل في الأمريكتين، وأنشأوا ما يُعرف تاريخياً بـ«التجارة المثلثية»؛ التي كانت تعتمد على ثلاثة ممرات تجارية في المحيط الأطلسي، الممر الأول لنقل المواد الخام من السواحل الأمريكية إلى أوروبا، والممر الثاني لنقل البضائع المصنعة من أوروبا إلى أفريقيا، والممر الأخير المعروف تاريخياً بـ«الممر الأوسط»؛ كان مُخصصاً لنقل الأفارقة من سواحل قارتهم إلى الأمريكتين، واستعبادهم في بناء المستعمرات وزراعة الأراضي.

وفي تلك الفترة، ما بين القرن السادس عشر والقرن التاسع عشر، تم نقل ما يزيد على 5 ملايين إنسان أفريقي إلى أراضي البرازيل، أكثر من أي دولة أخرى في الأمريكتين، وأكثر بسبع مرات من العدد الذي تم جلبه إلى أراضي الولايات المتحدة.

ومن تلك اللحظة؛ بدأ الهرم العنصري في البرازيل، الذي اعتبر السود من أصول أفريقية أكثر دونية، من السكان البيض المهاجرين من أوروبا إلى الأراضي البرازيلية، واستمر ذلك التمييز حتى بعد القضاء على العبودية في البرازيل عام 1852.

وفي تلك الأثناء، كان العالم يشهد ولادة لعبة شعبية جديدة، وهي كرة القدم، التي بدأت من شوارع إنجلترا وانطلقت كالنار في الهشيم في كل أرجاء العالم، إلى أن وصلت البرازيل مع أواخر القرن التاسع عشر، على يد البرازيلي «تشارلز ميلر»، الذي وُلد عام 1874 في مدينة ساو باولو البرازيلية لأب اسكتلندي مهاجر. وبعد ولادته سافر إلى إنجلترا ليتعلم في إحدى المدارس الإنجليزية العامة، وتعلم هناك كرة القدم، ولعِب لأندية إنجليزية مختلفة منها نادي Southampton، الذي كان يُعرف وقتها بنادي St. Mary’s، وفي رحلة عودته إلى البرازيل عام 1894، جلب معه كرة القدم، وأسّس نادي São Paulo البرازيلي، ليكون من أوائل أندية كرة القدم في تاريخ البرازيل، ومعه أسس أول دوري احترافي لكرة القدم في البرازيل، لذلك يطلق عليه البرازيليون «أبو كرة القدم البرازيلية».

وكما يذكر الصحفي البرازيلي الراحل Mário Filho، بدأت كرة القدم في البرازيل كغيرها من الأنشطة الاجتماعية والإنسانية في تلك الفترة، نموذج للمجتمع الطبقي العنصري. يقول «فيلهو»: لكي ينضم لاعب برازيلي على سبيل المثال إلى نادي Fluminense الذي تأسس عام 1902، يحب أن يأتي اللاعب من عائلات النخبة، وإلا سيتم استبعاده.

كانت الفكرة السائدة حينها أن كرة القدم فكرة تم جلبها من المجتمع الأوروبي، كواحدة من عناصر الحداثة الأوروبية، لذا؛ فيجب أن يمارسها الأشخاص من نفس الوضع الاجتماعي والعنصري، أي النخبة أصحاب البشرة البيضاء، ليست للعمال أو المزارعين أو السود، إلا أن تلك الفئات المهمشة حينها؛ وجدت في لعبة كرة القدم المفر الترفيهي، من قسوة أعمالهم ومشاق حياتهم، لكن النخبة كان يرفضون فكرة مشاركة هؤلاء في لعبة كرة القدم؛ حيث كتب الصحفي البرازيلي «ألبرتو سلفاريس» Alberto  Silvares، المدير الرياضي بجريدة Jornal  dos Sports؛ إن كرة القدم هي رياضة يمكن أن يمارسها أشخاص من نفس التعليم والثقافة، ولكن إذا أجُبرنا على ممارستها مع العمال، فإن تلك الرياضة تتحول إلى عذاب وتضحية، وأي شيء غير المتعة.

لذلك قرّر مسئولو كرة القدم البرازيلية في تلك الفترة، فرض مجموعة من اللوائح والقوانين، التي تضمن عدم صعود الطبقات الدنيا على ساحة كرة القدم البرازيلية. ففي عام 1907، قرر نادي Bangu Athletico الانسحاب من بطولة ولاية «ريو دي جانيرو»، بعد أن تم حرمانه من تسجيل اللاعب «فرانسيسكو كاريجال» Francisco Carregal، لأنه ببساطة من أصحاب البشرة السمراء، وكان ذلك الانسحاب مسانداً للاعب صاحب البشرة السمراء، ومعبراً عن رفض العنصرية بناءً على اللون أو العرق.

لكن لم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد نشر الاتحاد الكروي بياناً أعلن فيه أن أعضاء الاتحاد وافقوا بالإجماع؛ على منع تسجيل اللاعبين الملونين في الأندية البرازيلية، ومن هنا؛ أصبحت كرة القدم ساحة نضال للعمال والمزارعين والسود للدفاع عن حقوقهم، في الوجود المجتمعي وممارسة أبسط حقوقهم، بما فيها كرة القدم.

وفي عام 1919، كانت البرازيل تشارك في النسخة الثالثة من كأس أمريكا الجنوبية، التي كانت تلعب في تلك المرة على أراضي ولاية «ريو دي جانيرو» البرازيلية، وفي المباراة النهائية؛ استطاع اللاعب البرازيلي «آرثر فريدنريتش» Arthur Friedenreich أن يسجل هدف المباراة الوحيد، ليمنح البرازيل أول ألقابها من بطولة كأس أمريكا الجنوبية، والمفاجأة أن «آرثر» كان لاعب برازيلي من أصحاب البشرة السمراء، تمكن من الانضمام إلى منتخب البرازيل، فقط لأن والده أوروبي من أصحاب البشرة البيضاء، ومن تلك اللحظة؛ استطاع المجتمع البرازيلي أن يجد في كرة القدم راية موحدة، يجتمع تحتها بمختلف أعراقه وفئاته، تلك الراية كانت بالتحديد قميص المنتخب البرازيلي.

فلك أن تتخيل بعد أن كان الاتحاد البرازيلي لكرة القدم، يمنع تسجيل اللاعبين السود في الأندية البرازيلية، بعد إحراز «آرثر» لذلك الهدف الذي منح البرازيليين انتصاراً قومياً، تم عرض حذائه كتحفة ثمينة في معرض مجوهرات في قلب مدينة «ريو دي جانيرو»، وبدأت عاطفة كرة القدم تؤثر على الشعب البرازيلي، أصبح الولاء لراية منتخب البرازيل أهم من الاختلافات العرقية والطبقية، لا يهم من يمثل المنتخب الوطني، أبيض أو أسود، فقيراً أو غنياً، الأهم أن يجعلنا نشعر بالفخر والانتصار، كان المنتخب الوطني هو البذرة الأولى، لنبتة الاندماج الاجتماعي في البرازيل ككل.

ولكي تدرك حجم ذلك التحوّل، دعني أخبرك أنه في عام 1920، قامت إحدى الصحف الأرجنتينية، بوصف التشكيلة البرازيلية المشاركة في النسخة الرابعة من كأس أمريكا الجنوبية؛ أنهم مجموعة من «القرود»، وعلى الفور انتفض المجتمع البرازيلي بأكمله، للدفاع عن ممثلي منتخبه الوطني، واعتبروا أن تلك الإهانة تطولهم جميعاً، باختلاف ألوانهم وأعراقهم، حيث أثار ذلك التعبير غضب الصحافة البرازيلية، وطلبت السلطات البرازيلية من الصحيفة الأرجنتينية؛ سحب ذلك التعبير والاعتذار عنه، واضطرت الحكومة الأرجنتينية إلى توبيخ الصحيفة والتأكيد على العلاقة الطبية بين البلدين.

ومع بداية حكومة «جيتوليو فارجاس» Getúlio Vargas المؤقتة في البرازيل، بالتحديد عام 1930، وجد فارجاس أن كرة القدم هي الأداة الأساسية، التي يمكن استخدامها في تعزيز الاندماج الاجتماعي في المجتمع البرازيلي، وبناء الهوية البرازيلية الموحدة، لما تحمله كرة القدم من معان قومية جوهرية، ولكن بعد 8 سنوات فقط، وبالتحديد سنة 1938، وبعد أن توحد المجتمع البرازيلي، وراء منتخبه القومي في بطولة كأس العالم التي كانت تقام في فرنسا، تلقى المنتخب البرازيلي هزيمة موجعة من المنتخب الإيطالي في مباراة نصف النهائي، أطاحت بالبرازيل من البطولة، وكادت تطيح معها بكل معاني القومية والهوية والبرازيلية.

لذلك بعد أيام من تلك الهزيمة، نشرت حكومة «فارجاس» مرسوماً رسمياً، ينص على إنشاء المجلس القومي للثقافة، والتأكيد على جعل الرياضة جزءاً من التنمية الثقافية البرازيلية، وللتأكيد على تلك المعاني، قالت صحيفة «جازيتا سبورتيفا» Gazeta Esportiva البرازيلية، قبل بداية منافسات بطولة امريكا الجنوبية عام 1942: يجب أن يعلم الفريق الوطني دوره كممثل للأمة، ذلك الدور الذي سيكون مقدراً له في كل بطولة.

وبرغم عدم فوز المنتخب البرازيلي بتلك البطولة، فإن المجتمع البرازيلي سعى نحو تنظيم بطولة كأس العالم عام 1950، وبالفعل نجح ذلك السعي، واستضافة البرازيل تلك البطولة، وأنشأت البرازيل استاد «الماركانا» التاريخي خصيصاً لها، ليستضيف المباراة النهائية، التي نجح منتخبهم الوطني في الوصول إليها حاملاً رايتهم الوطنية، وفي تلك المباراة امتلأ ستاد الماركانا بما يزيد على 200 ألف متفرج في بعض التقديرات، بجانب 50 مليون مواطن برازيلي يتابعون من المنازل والمقاهي والشوارع، الكل في انتظار رفع كأس البطولة بأيدٍ برازيلية، لا يهم لونها، الأهم أن تجلب لنا الفخر الوطني مع أول لقب من كأس العالم.

لكن في تلك الليلة اهتز المجتمع البرازيلي بهزيمة غير متوقعة، حيث فاز منتخب الأورجواي بالمباراة، ورفع كأس العالم في النهاية على الأراضي البرازيلية، وأمام 200 ألف متفرج، وكاد المجتمع البرازيلي يفقد إيمانه بمنتخبه الوطني، ولكن بعد 8 سنوات، وبالتحديد في كأس العالم عام 1958، التي لُعبت في السويد، استطاع المنتخب البرازيلي أن يحقق الإنجاز ويفوز بأول ألقابه من كأس العالم، وبعدها بأربعة أعوام، يحقق اللقب للمرة الثانية على التوالي على الأراضي التشيلية، وبعد 8 أعوام وبالتحديد عام 1970، يحقق اللقب للمرة الثالثة في المكسيك، والبطل الأسطوري لتلك الألقاب كان شاب أسمر البشرة يدعى «بيليه»، واحد من أساطير لعبة كرة القدم في تاريخها.

كانت تلك الألقاب شبه المتتالية من بطولة كأس العالم، كفيلة بترسيخ الهوية البرازيلية عبر كرة القدم وقميص المنتخب الوطني، الذي استطاع أن يوحد المجتمع البرازيلي بمختلف أعراقه وفئاته، ليعيش في النهاية مشهد بيليه؛ الشاب الأسمر مرفوعاً على الأعناق حاملاً كأس العالم.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.