تتمتع كرة القدم بشعبية كبيرة، ولهذا ضرائب معنوية يُفترض أن يدفعها كل عنصر ينتمي لتلك اللعبة. أهم تلك الضرائب هي الشهرة. تضر الشهرة كل من يصاب بها، فهي تجعل كل كلماته بين علامتي تنصيص، آراؤه دائمًا في محل نقاش جدلي بين العامة.

يمكنك أن تجتزئ أحاديث بعض عناصر اللعبة عن القضايا المجتمعية المنتشرة، كالتحرش والعنصرية والفقر وغيرها، لتكتشف أن أغلبهم لا يتمتع بالقدر الثقافي الذي يضعه في محل الناقد العقلاني. فتمتعه بقدرات عالية على مستوى كرة القدم، لا يعني بالضرورة تمتعه بعقلٍ ثري يؤهله لنقاش القضايا المجتمعية المثيرة. لا داعي لذكر الوقائع المصرية في تلك الحالة، فهي واضحة كفاية.

الأهم، أن اللاعبين والمدربين أنفسهم لا يؤمنون بتلك الحقيقة مع الأسف، ودائمًا ما يضعون أنفسهم محل الجدل عن طريق الخوض في ذلك النوع من القضايا بطريقة أو بأخرى.

حديث غير كروي

وعلى تلك الشاكلة، تعرض المدرب الإيطالي المُخضرم «ماسيمليانو أليجري» لقضية توغل التكنولوجيا في كرة القدم بشكل -يعتقد- أنه يقتل مُتعة اللعبة تمامًا، ويحوّل اللاعبين لمُجرد آلات، مما ينقل النقاش الكروي حول نجاح أو فشل لاعب ما أو مدرب ما، إلى المصطلحات الضخمة كـ «صراع التكنولوجيا ضد العقل البشري»، و«الآلة في مواجهة الإنسان»، وغيرها.

سيكون من الظالم وضع أليجري بين هؤلاء الذين لا يُدركون تمامًا ما يقولون، لكن بنفس الدرجة لا يمكن اعتماد نقاشه حول توغل دور التكنولوجيا في حياة البشر، بما فيهم لاعبو كرة القدم والمُدربون، على أنه أمر مُسلم به، حيث يعتقد أليجري أن الفخر بكونه لا يمتلك حاسوبًا منقولًا أو «لاب توب» قد يعلي من قيمته كشخص مُفكر يعتمد على طبيعته العقلية، والواقع أن الأمر بالعكس تمامًا.

في يوم شتاء مُشمس في مدينة ميلانو الإيطالية، لم يكن أليجري في مزاج يسمح له بإجراء مقابلة رسمية كمدير فني له ثقله، لكنه فقط ود أن يتحدث عن أي شيء يدور في عقله كإنسان عادي، وذلك حسب وصف الكاتب الصحفي «جيمس هورنكاسل»، الذي أجرى معه لقاءً في ديسمبر/كانون الأول عام 2019 لصالح شبكة «ESPN».

كان أول ما طرأ على بال الإيطالي هو عدم وجود ضرورة لكل هذه الثورة التكنولجوية في عالم كرة القدم، حيث يعتقد أن التدريب أمر حسي بالدرجة الأولى، ولا يجب أن نُنحي أدمغتنا جانبًا بما يدفعنا للاعتماد على الحواسب.

إن كنت تتفق مع الصحفي هورنكاسل في رأيه بأن أليجري لم يكن موفقًا في هذا الحديث، دعني أخبرك أن ثمة هواجس في إنجلترا قد تجعل لآراء أليجري نسبة ولو بسيطة من الوجاهة. دعني أخبرك بها.

هواجس تهدد «جوارديولا»

النظرية بدون بيانات لا أساس لها من الصحة، لكن البيانات دون النظرية غير قابلة للتفسير.
الفيلسوف الألماني «إيمانويل كانت»

يُعرف عن «جوارديولا» أنه أحد أكثر المُدربين المُبدعين في تاريخ اللعبة، والإبداع هُنا يختص بالعقل، لا الأرقام بالطبع. لكن بيب وقع فريسة الثورة الرقمية مؤخرًا، أو هكذا نظن. عانى المدرب الإسباني في موسمه الرابع في إنجلترا، وبعد سيطرة على كل شيء محليًا خلال موسم 2018/19، اهتزت قوة الفريق وبات فريسة أسهل للخصوم في الموسم التالي.

وفي ظل منظومة تعتمد بدرجة كبيرة على نوعية اللاعبين، فإن انخفاض مستوى الفريق ككل دفع جماهير الفريق وجمهور المحللين للسخط على عنصر واحد شاذ، لا يوجد أسهل منه للإشارة عند كل فشل تكتيكي يصاب به فريق مانشستر سيتي، وربما أكثر من نال نقدًا سلبيًا بين كل لاعبي جوارديولا عبر تاريخه، هو «إلكاي جوندوجان».

لم يدخل بيب سوق الانتقالات الصيفية لعام 2019 بالقوة المتوقعة، واكتفى بضم عدد بسيط من العناصر كان على رأسها متوسط الميدان «رودري»، البديل الطبيعي لـ«فرناندينيو»، الذي تقدم في السن وأنهكته كثرة المباريات، وفي ظل الإصابات المتعددة التي ضربت الفريق وكان من بينها الوافد الجديد، اضطر للاعتماد على البرازيلي المخضرم في قلب الدفاع، وعليه تجددت معضلة إيجاد بديل في وسط الملعب، فانحصرت الاختيارت بين جوندوجان و الشاب«فودين».

وفي ظل أداء دفاعي سيئ من جوندوجان، كان من الطبيعي أن يتم الاستغناء عن جوندوجان لصالح الشاب الواعد فودين.

لكن رقميًا، ورقميًا فقط، كان بيب يجد ضالته في جوندجان، في ظل تفوق الأخير في دقة التمرير وعدد التمريرات، صناعة الأهداف، التدخلات الدفاعية، ونسبة استخلاص الكرة. كل ذلك يراه بيب من خلال الحاسوب، وهو ما لا يُفضله أليجري على الإطلاق.

جوندوجان، سيلفا، مانشستر سيتي، فودين، جوارديولا،
تفوق رقمي واضح لجوندوجان على حساب الشاب فودين
جوندوجان، فودين، سيلفا، جوارديولا، مانشستر سيتي
تفوق جديد لصالح جوندوجان وعلى حساب فودين، فيما يخص الأرقام الدفاعية لكل منهما
أطلب من مساعدي دائمًا أن ينظروا كيف يُحرك اللاعبون أرجلهم، ليس كيف يظهر ذلك على الحاسوب.
ماسيمليانو أليجري

تكنولوجيا التنبؤ

في نقاش أداره «توماس تشامورو بريموزيتش»، أستاذ علم نفس الأعمال بجامعة لندن، حول احتمالية الاستغناء عن المُدربين تمامًا لصالح آلات تستطيع قراءة الأرقام وتفسيرها بدقة، وهو ما كان قد أشار إليه أليجري ومن قبله «أرسن فينجر»، تطرق الحديث إلى فيلم «Moneyball» والذي يحكي القصة الحقيقية لمدرب البيسبول «بيلي بين» -الذي يلعب دوره في الفيلم «براد بيت».

يقوم البطل في أحداثه بتحدي كل الاحتمالات، بتولي تدريب فريق مستضعف وتحقيق نجاح براق به، وذلك بعد الفوز بعشرين مباراة متتالية على الرغم من إنفاق القليل من المال على اللاعبين، معتمدًا على سلاحه القاتل، وهي الإحصائيات الرقمية.

يعتقد «توماس» أن خطورة توغل التكنولوجيا لا ترتقي لحد الابتعاد عن البشر بالكامل، ولا حتى هناك احتمالية لتكرار مثال المُدرب «بيلي بين» عدة مرات، لأن النجاح في هذه الحالة، وأي حالة مشابهة، قد اعتمد بالكامل على التنبؤ بمدى جودة اللاعبين في ظل مستويات ضعيفة للعب، وقدرة التنبؤ تلك قد تتواجد عند عديد الأشخاص، لكنها لا تستخدم بالقدر ذاته.

التنبؤ هو الميزة لدى كل مُدرب. حيث تتركز كل الأسئلة التكتيكية المُعقدة حول مدى قدرة المدير الفني على التنبؤ بما يقوم به الخصم، وتنبؤ اللاعب المدافع بما سيقوم به مهاجم الخصم، والأمر ذاته بخصوص المدافعين. أين يفترض أن يبدأ الضغط؟ من سيتم الاعتماد عليه في الكرات الركنية؟ إلى آخره من الأسئلة التي تحتاج لقدرات عالية على التنبؤ، والتي يمتلكها بقوة المدرب الإيطالي، أليجري.

واجه فريق يوفنتوس الإيطالي، بقيادة أليجري، فريق بوروسيا دورتموند في دور الـ16 من بطولة دوري أبطال أوروبا لعام 2015. انتهى مجموع اللقائين بنتيجة 5-1 لصالح الفريق الإيطالي.

بعد تلك المواجهة بعامين، تحدث الظهير المُدافع «بارتيس إيفرا» عن مدى قدرة مدربه الإيطالي خلال اللقائين اللذين جمعاهم ضد الفريق الألماني وما قبلهما، على توقع كل شيء يخص الخصم، وحسب وصفه كانت المباراتان كالفيلم الذي يعيدون مشاهدته في أرض الملعب، وسبق أن حكاه لهم مدربهم أليجري.

وحسب ما يظن العالم بجامعة لندن، «توماس»، فإن الإحصائيات تُحسن عمل التنبؤات، لكنها لن تستطيع استبدال الأشخاص المتنبئين، ولا حتى ستقدر على جعل الأشخاص أكثر قابلية للتنبؤ مما هم عليه بالفعل.

«أليجري» والقنبلة النووية

تصدر الحديث عن الحرب العالمية الثالثة العالم الرقمي في بداية عام 2020، الجميع ينتظر الحرب بشكل غريب، كما لو أن الخوف من الملل قد يدفع التفكير إلى العدمية. الأهم أن أحد أفضل الردود التي قد قرأتها في تلك الأحداث، أحدهم قال: «ما الذي يدفع الدول للحروب القتالية بالسلاح على الأرض وهم يملكون القنبلة النووية؟» سؤال منطقي للغاية.

تعد القنبلة النووية أحد أكثر التطورات التكنولوجية في عالم الحروب، أي نعم أكثرها تدميرًا، لكنها أيضًا متطورة بما فيه الكفاية لتكف العقلاء عن الدخول في حروب طويلة الأمد وخسارة عناصرهم من الجيش، طالما هناك تكنولوجيا ما تغني عن كل ذلك. فكرة ما في عقلي وجدت رابطًا بين ذلك الرد، وبين هواجس أليجري.

يخشى الإيطالي توغل التكنولوجيا في اللعبة بالشكل الذي قد يدفع المشاهد العادي لفعل نفس الشيء الذي يستطيع المدرب فعله، وهو قراءة الأرقام ونقلها للاعبين للحصول على المعلومات في صورة أرقام دون تفكير. هاجس أليجري من التكنولوجيا يتوافق مع هاجس نوع من البشر من التكنولوجيا ككل، بما فيها القنبلة النووية.

السؤال الآن هو: كيف يتعامل الآخرون مع تلك التكنولوجيا؟ هل تظل القنبلة النووية وما يؤول إليها من تفاعلات ومعادلات، كسلاح إستراتيجي يسمح للبشر بالسيطرة دون التدمير؟ أم يتم استخدام التكنولوجيا بشكل خاطئ قد يودي بحياة كثيرين، أو يُضيع الدوري من مانشستر سيتي؟