ولد في نحو عام 2002، أي في أعقاب الغزو الأمريكي مباشرة، وعاش حياته يرى أفغانستان بشكل مختلف، صوت القنابل لا يهدأ ولا يأمن في لحظة من رصاصة من هنا أو قصف بطائرة هناك، لكنه يشعر أن الأمور تتحسن. يتعلم ويمارس كرة القدم التي يعشقها ويأمل في احترافها يومًا ما، ودوري كرة القدم في البلاد بدأ ينتظم من جديد بعد توقف دام لسنوات.

رحلته مع كرة القدم الاحترافية بدأت بالفعل، وفي ال16 من عمره انضم لمنتخب الناشئين الأفغاني، وظل حلمه في أن يصير لاعبًا مشهورًا ينمو يومًا بعد يوم، وفي كل مرة شاهد كرة القدم الأوروبية في التلفاز، تنامى الحلم بداخله، وتخيل اليوم الذي يلعب فيه هناك.

كانت أخبار الحرب بين طالبان والقوات الأمريكية تصله في كل يوم، هو لم يدرك حكم طالبان، لكن والده الطاعن في السن حكى له الكثير عن تاريخ الحركة، وعن فترة حكمها الأولى بين 1996-2001، وحكى له أيضًا عن أفغانستان العريقة، أفغانستان التي لم تعرف سوى الحرب، لكنها رغم ذلك ما زالت صامدة وما زال شعبها يحب كرة القدم.

خزن الولد تلك الحكايات في مؤخرة عقله، سيحكيها يومًا ما، لعل قصته لن تقل عن نجوم كرة القدم الذين عايشوا الحروب أمثاله، تلهمه قصة مودريتش كثيرًا، سيقف مثله يومًا على منصة تتويج، ليحكي كيف لعب كرة القدم تحت صوت المدافع وفي مرمى القنابل.

في اليوم الذي سقطت فيه كابول في أيدي طالبان، وحين وصله الخبر كان ذلك يعني أن الحرب ستتوقف وستخرج القوات الأمريكية بما جلبته من المآسي، لكن يعني أيضًا أن طالبان ستتولى الحكم، الحرب ستتوقف نعم، لكن حلمه سيكون مهددًا ولن تزدهر كرة القدم ربما بعد الآن.

حكى له والده الكثير عن فترة طالبان في الحكم، حكى له عن اليوم الذي اقتحمت فيه شرطة طالبان ملعبًا في مدينة قندهار، حيث أقيمت مباراة بين فريق محلي وفريق آخر قدم من باكستان، لكنهم لم يرتدوا الزي الرياضي المتبع في أفغانستان، وكانت سراويلهم قصيرة ولحاهم محلوقة، وهو ما اعتبرته طالبان مخالفة شرعية، استحقت أن يقضي فريق كرة القدم ليلته في السجن.

أخبره البعض كذلك أن طالبان اليوم ليست هي طالبان الماضي، لكنه لم يشأ المجازفة وانتظار المجهول، وقرر أن يهاجر من أجل حلمه، وبينما كان القوات الأمريكية تجلي رعاياها، قرر أن يتشبث بعجلات الطائرة، لعلها تصحبه إلى مكان أفضل، يكمل فيه رحلته إلى منصات التتويج.

قبل أن تقلع الطائرة، هاتف والدته ليطلب منها الدعاء، وأخبرها أنه قرر كتابة باقي رحلته في مكان آخر، أغلق الهاتف، ثم أقلعت الطائرة بالفعل.

10 دقائق بعدها، هاتفته والدته مرة أخرى لتطمئن عليه، ليرد عليها شخص آخر هذه المرة، ويخبرها أنه قد رحل وفارق الحياة بعدما سقط من الطائرة، وانتهت بذلك حياته ورحلته القصيرة، رحلة زكي أنواري، لاعب كرة القدم الأفغاني.

ورحلته نحو منصة التتويج، حلت بدلًا منها رحلة أخرى للبحث عن رفاته لدفنه، لم تنجح العائلة فيها، لكن الأنباء أتت من مطار الدوحة حيث هبطت الطائرة لتخبرهم أن أجزاء من جثمانه وجدت في تجويف عجلات الطائرة، وكانت هذه نهاية الرحلتين ربما، وربما عنوانًا لواقع كرة القدم الأفغانية.

لا مكان للنهايات السعيدة في أفغانستان ربما، هل تذكر الطفل مرتضى أحمدي الذي انتشرت صورته وهو يرتدي قميصًا بلاستيكيًا يحمل اسم ميسي؟ اشتهرت الصورة وطافت العالم حتى وصلت إلى ميسي نفسه، والذي تواصل مع عائلة مرتضى، ولم يمض وقت حتى تسلمت الأسرة صندوقًا من النجم الأرجنتيني.

وبينما انتظر الجميع أن يحوي الصندوق بعض الأموال، لم يعثروا سوى على قميص لمرتضى موقع من ميسي وكرة قدم، ولم تكن هذه الأشياء هي أكثر ما تحتاجه الأسرة الفقيرة القاطنة في مقاطعة غازني جنوب البلاد.

لم يقتنع أهل القرية برواية أسرة مرتضى عن الصندوق الفارغ الذي لم يحوِ الأموال، وظل الجميع يتربص بهم أملًا في الاستفادة من المال الوفير المزعوم الذي بعثه لهم ميسي.

بعذ ذلك بعدة أشهر، وفي مباراة ودية أقيمت بالدوحة، أرسلت إحدى المنظمات لاستقدام مرتضى ليلتقي ميسي على الحقيقة هذه المرة، وبالفعل دخل مرتضى رفقة ميسي إلى المباراة وأطلق ركلة البداية، ثم ودع نجمه المفضل وعاد إلى أفغانستان.

من هذه اللحظة، انقلبت حياة مرتضى وعائلته رأسًا على عقب، تهديدات بالخطف، ومحاولات سرقة، والقرية بأكملها تنتظر الفرصة للانقضاض على البيت، مرتضى التقى ميسي ولابد أن عدة ملايين قد عرفت طريقها إليهم عن طريق ميسي.

في الحقيقة كان هذا ما تأمله أسرة مرتضى، أن يساعدهم ميسي بأكثر من ذلك، بالمال بالطبع، أو يساعدهم في منح مرتضى لجوءًا في بلد ما، لكنه لم يفعل.

وفوق ذلك، تركهم فريسة لتكهنات البعض عن الثروة التي جمعوها من ورائه، ولم تحتمل الأسرة تهديدات الخطف التي تلقاها مرتضى أملًا في الفدية، وقررت إرساله نحو كابل رفقة عمه.

لم تدم إقامة مرتضى في كابل فترة طويلة حتى عاد إلى فاغوري حيث نشأ، وظروف الأسرة ازدادت سوءًا بعد سوء، وميسي الذي حسبوه طوق النجاة بين موجات الفقر والحاجة، لم يفعل سوى أنه أرسلهم لقاع المحيط.

تاريخ قصير

حين نذكر أفغانستان فإن كرة القدم ليست أول ما يتبادر إلى ذهنك على الإطلاق، صحيح الاسم حاضر بقوة على ساحات الأخبار، لكنه لا يقترن بالرياضة إلا نادرًا، ورغم أن الشعب الأفغاني يعشق كرة القدم، فإن تواجد كرة القدم بشكل احترافي وعلى المستوي الدولي لم يدم كثيرًا.

بدأت ممارسة كرة القدم بصورة رسمية في أفغانستان عام 1922 حين أُنشئ الاتحاد الأفغاني لكرة القدم، الذي التحق بالاتحاد الدولي «فيفا» عام 1948، ثم بالاتحاد الآسيوي عام 1954، وشارك في عدة منافسات دولية آخرها في 1984.

توقف نشاط كرة القدم حينها بسبب الحرب السوفييتية، ثم الحرب الأهلية الأفغانية بين أمراء الحرب، ثم تولت طالبان الحكم في 1996، ولم تكن كرة القدم نشاطًا تفضله طالبان، وفرضت الكثير من الشروط والتحكمات لأجل لعب كرة القدم، وفوق ذلك تحولت العديد من ملاعب كرة القدم كساحات للإعدام أهمها ملعب غازي، أو ستاد أفغانستان الوطني، وعلى أرضية الملاعب الخضراء أريقت دماء الآلاف على يد طالبان.

انتهى حكم طالبان في 2001، وأعقبه الغزو الأمريكي، ودارت الحرب مرة أخرى دون أن تترك لكرة القدم مجالًا، واستمر ذلك حتى هدأت الأمور قليلًا في 2012 عقب مقتل أسامة بن لادن، وحينها شقت كرة القدم طريقها بين الرماد وأقيم الدوري الأفغاني بشكل منتظم.

الدوري الأفغاني يُلعب بين 8 فرق من مدن مختلفة، وينقسمون إلى مجموعتين، الواحدة 4 فرق، يصعد 2 منهم إلى الدور قبل النهائي، ويلتقي الفائزان في الدور النهائي، ويتوج الفائز بطلًا لأفغانستان.

استمر الدوري منتظمًا منذ عام 2012، وهو ما سمح للمنتخب الوطني بالازدهار، حقق بطولة اتحاد جنوب آسيا في عام 2013 على حساب الهند، ووصل لأعلى تصنيف لدى الفيفا في عام 2014 حيث حل في المركز 124، وكذلك حقق مسيرة مرضية في تصفيات كأس العالم 2022 المقبلة، في مجموعة ضمت قطر وعمان والهند.

كرة القدم النسائية: طالبان لم تكن هنا

سندلف الآن إلى مساحة شائكة للغاية، في أفغانستان وتحت حكم طالبان، فإن الحديث عن النساء ليس أمرًا سهلًا، الحديث عن نزولهن الشارع أو التعليم أو العمل، لكن الحديث عن كرة القدم النسائية يبدو سهلًا نوعًا ما، لأنها ليست موجودة من الأصل.

لم تسمح طالبان للنساء بممارسة الرياضة أبدًا طوال مدة حكمها الأولى، لكن ال20 عامًا الماضية والتي حظيت فيها الفتيات ببعض الحرية سمحت للكرة النسائية بالازدهار، حيث تأسس المنتخب الوطني عام 2007، وانتشرت اللعبة حتى وصل عدد المسجلات بها لنحو 4000 لاعبة، وبرزت طوال هذه السنوات العديد من اللاعبات من أنحاء أفغانستان.

رغم خفوت قوة طالبان وانشغالها بالحرب في هذه الفترة، فإن اللاعبات البارزات تعرضن للعديد من المضايقات من جانبهم، تهديدات دائمة بالقتل وتحذيرات لأجل منعهن من استكمال مسيرتهن، أو جلب أخريات لممارسة اللعبة.

وكانت خالدة بوبال، إحدى مؤسسات المنتخب الوطني للسيدات، أحد أولئك الذين طالتهم التهديدات، والتي تزايدت مع الوقت حتى باتت تهدد حياتها وحياة أسرتها، وهو ما اضطرها لمغادرة البلاد في عام 2011.

رحلة هروب بوبال لم تكن سهلة، هاجرت بطريقة غير شرعية نحو الهند وعاشت متخفية لفترة، قبل أن تتسلل إلى النرويج، ومنها للدنمارك حيث حصلت على لجوء هناك وعاشت في مخيم للاجئين.

حاولت بوبال العودة لكرة القدم لكنها لم تستطع بسبب الإصابات، وبدأت العمل في مجال حقوق المرأة عبر مؤسسة «girl power» التي أنشأتها، ومؤخرًا كان لها دور بارز في إجلاء نحو 75 لاعبة من أفغانستان عقب سيطرة طالبان على الحكم مرة أخرى.

تمثل خالدة صوتًا للنساء الأفغانيات بالخارج، تشاركها في ذلك أكثر من لاعبة أخرى، نادية نديم لاعبة منتخب الدنمارك ذات الأصول الأفغانية والتي فرت عبر باكستان بعد مقتل والدها، تفعل الشيء نفسه، وكلهن يتساءلن عن مصير كرة القدم النسائية تحت حكم طالبان.

طالبان الجديدة: لن نمنع كرة القدم ولكن

هنا تكمن الإجابة على سؤال الجميع: ماذا يجب أن ينتظر الجميع من طالبان هذه المرة؟ الحركة تبدو أكثر نضجًا من قبل، وعندها نية واضحة لاكتساب رضى الجميع، وأكثر قابلية لتقديم التنازلات، لكن إلى أي مدى؟

لا أعلم ما إذا كانت المرة الأخيرة التي أحمل فيها علم بلادي في الألعاب الأولمبية. لا أعرف أصلا إن كنت سأشارك مجددًا تحت هذا العلم والعدو في سباق باسم بلادي
كيميا يوسفي، حاملة العلم الأفغاني في أولمبياد طوكيو

علاقة طالبان بالرياضة لم تكن واضحة منذ البداية، هي لا تعتبرها ذات أهمية، لكنها لا تمنعها، في فترتها الأولى وضعت بعض القواعد الجديدة لممارسة الرياضة تتعلق بالملابس والمظهر لكنها لم تمنع الرجال من ممارساتها على أية حال.

في فترتها الثانية، وفي الأيام الأولى بعد سقوط كابول، حضر بعض قادة الحركة مباراة الدوري النهائية التي أقيمت في هيرات، وسلموا الكأس للفائز، وكذلك سافر حسين رسولي وزكية خدادادي لدورة الألعاب البارالمبية في أول أيام الحكم، وأعلنت الحركة في عدة بيانات أن الرياضة ستستمر كما كانت ولن يتغير أي شيء، وكذلك أعلنت أنها ستسمح للنساء بالعمل والتعليم، وهو ما يعد مبشرًا قياسًا بفترتهم الأولى.

ممارسة الرياضة ليست حاجة ضرورية ومهمة للنساء في أفغانستان.
أحمد الله واثق، نائب رئيس اللجنة الثقافية لطالبان

لكن حين يتعلق الأمر بالرياضة، فإن إجابة طالبان على التساؤلات كانت واضحة، لن تتأثر رياضة الرجال، لكننا لن نسمح برياضة النساء، أعلن اتحاد الكريكيت -اللعبة الثانية في أفغانستان- أنه تلقى موافقة الحكومة الجديدة على استمرار منافسات الرجال ورحلات المنتخب الخارجية، لكنه لم يتلق أي شيء عن منافسات السيدات.

رغم تطمينات طالبان، فإن المتوقع أن كرة القدم لن تحظى باهتمام زائد، ولن يتمكن النساء من ممارسة كرة القدم مرة أخرى، قد نشهد طالبان جديدة بالفعل تسمح للنساء بذلك، لكن حتى يحدث فإن مئات اللاعبات سينتظرن فرصة للهروب، وسيبقى الشعب الأفغاني عاشقًا لكرة القدم، رغم أنف الطائرات والقنابل، ورغم ما واجهه زكي أنواري أو مرتضى أحمدي.