في أوطاننا العربية، تتراكم المظالم فوق بعضها البعض، وتصبح حياة الفرد عرضة لها وفقًا للموقع الذي ولد فيه من أهرام المظالم تلك. يولد المواطن العربي لأسرة فقيرة أو غنية، لأب يعمل ضابطًا بالجيش أو أستاذًا بالجامعة أو عامل بناء، يولد في بلد غني أو بلد فقير، يولد ذكرًا أو أنثى؛ ووفقًا لهذه الظروف ضمن غيرها، يرتسم مستقبله وتتحدد أغلب الفرص التي ستتاح له على طول حياته.

تُعرف هذه الظاهرة بـ«الظلم الهيكلي»، حيث يضمن الهيكل الذي يولد فيه المرء حظًا أفضل لبعض أفراده دون غيرهم؛ هياكل هرمية تضمن لمن يقطن أعلاها حياة أفضل تعتمد على الظلم الذي يتعرض له من يسكن أسفله.

يحكم سكان قمة الهرم من تحتهم بأشكال عدة، بالعنف الجسدي، بالبيروقراطية، وحتى بالثقافة والتعليم. تتقاطع القوة الكامنة في امتيازاتهم مع رغبتهم في الحفاظ عليها، لتخلق ما يعرف بـ«العنف المؤسسي»؛ عنف كل هدفه هو الحفاظ على أهرام المظالم كما هي، مانعًا سكانها من تسلق درجاتها بحثًا عن حياة أفضل وأكثر عدالة؛ عنف شعاره «فليلزم كل مكانه».

يمكنك أن ترى تمظهرات هذا العنف المؤسسي في كل نواحي الحياة تقريبًا؛ في اختبارات الهيئة التي يتعرض لها كل متقدم لوظيفة سياسية أو للدراسة في كلية عسكرية، في مقابلات الحصول على تأشيرة دخول لأي بلد أجنبي، في قدرة الفرد على التعامل مع الإجراءات البيروقراطية بالرشوة أو المحسوبية، وحتى في وسائل المواصلات التي تنقل سكان الأقاليم إلى العاصمة. وتتشكّل الثقافة الشعبية عبر التعليم ووسائل الإعلام لتضمن رؤية الناس لهذا العنف كطبيعة الحال كقدر كتبه الله على عباده لا اعتراض عليه.

في العرف العسكري لا شيء يعلو فوق أوامر الكبار؛ أوامر مجموعة من الرجال الأكبر سنًا ومقامًا، أوامر الأب الذي يرعى أبناءه، لا شيء يعلو فوق الصوت المعركة.

في الحالة المصرية، تمثّل مواقع المؤسسة العسكرية والمرأة من أهرام المظالم حالة نموذجية وتفسيرية لهذا العنف المؤسسي، ففي أعلى كل هرم اجتماعي مصري تقريبًا تستطيع أن تجد المؤسسة العسكرية. ولفهم هذا يجب أن نلقي نظرة على الطبيعة الاجتماعية والثقافية لهذه المؤسسة.

يشبه علماء الاجتماع المؤسسة العسكرية بـ«الأخويات الذكورية»، وهي نواد أو روابط لا يسمح سوى للذكور بالانضمام إليها، وتتميز بالطبقية والتراتبية الصارمة، فلا يمكن للفرد العضو فيها أن يفكر حتى في معارضة أوامر من هو أعلى منه رتبة، ولا تؤدي مراسم الانضمام إلى هذه الأخويات إلا إلى ترسيخ هذه الطبيعة؛ فيعزل العضو الجديد عن محيطه الاجتماعي والثقافي ليحاط فقط بهذه الأخوية وطقوسها وقواعدها.

يؤخذ طالب الأكاديمية الحربية أو المجند إلى معسكرات معزولة في الصحراء، يجبر على ممارسة الكثير من الطقوس والنشاطات المرهقة والتي لا تهدف إلى أي شيء سوى ترسيخ فكرة تنفيذ الأوامر دون نقاش يؤمرون بالوقوف في طوابير تحت لهيب الشمس أو بتنظيف الحمامات تحت دعوى المسؤولية والالتزام؛ بينما لا يرمي كل هذا في حقيقة الأمر إلا إلى قتل قدرتهم الإنسانية على قول لا، على الاعتراض، ففي العرف العسكري لا شيء يعلو فوق أوامر الكبار؛ أوامر مجموعة من الرجال الأكبر سنًا ومقامًا، أوامر الأب الذي يرعى أبناءه، لا شيء يعلو فوق الصوت المعركة.

إنت بتفهم في السياسة يلا؟ * أفهم في السياسة؟! أنا الشعب!

في ذات الوقت، تعمل المؤسسة العسكرية على مزج طبيعتها تلك بالثقافة العامة وتشكل التاريخ والقيم لتضمن الحفاظ على امتيازاتها وموقعها في قمة الهرم. تبرز أحداث تاريخية – كالحرب مع الكيان الصهيوني سابقًا أو الحرب على الإرهاب حاليًا – لتحكي قصة عن صمود الجيش وتضحيته، وتعلي من مفاهيم كالوطن والشعب والكرامة والاستقلال، مفاهيم شديدة العمومية لا يمكن الوصول لتعريف حقيقي أو واضح لها.

ومن أجل الحفاظ على هذه المفاهيم، يُطالَب الشعب بالتمسك بمجموعة من القيم الأكثر غموضًا كالكرامة والتضحية والصمود، لتتشكل في نهاية الأمر سردية تاريخية واجتماعية لا تلقي بالًا لحقائق كقطع الشباب لأصابعهم وأطرافهم أو استخدام أدوية تسبب انفصالًا في شبكية العين رغبة في التهرب من التجنيد الإجباري. وإن تم النظر لمثل هذه الحقائق، فإنها تعامل معاملة الجبن والخيانة، لا كخوف شاب على قوت يوم أمه الذي لن يستطيع توفيره لها إذا خدم في الجيش لثلاث سنوات على سبيل المثال. تصبح الخدمة في المؤسسة العسكرية فرصة لتعلم «الرجولة» واكتمالها كما أخبرني أبي، وكما يخبر كثير من الآباء أبناءهم بشكل يومي.

هنا، نستطيع أن نرى كيف تمثل المؤسسة العسكرية النظام الاجتماعي الذكوري الأبوي في أوضح صوره وأكثرها فجاجة. نظام يتسيده الرجل الأكبر سنًا والأعلى مقامًا والأكثر خبرة. نظام لا يرى في النساء والشباب الأصغر سنًا سوى قطيع ضال يجب على الرجال الأكبر سنًا ومقامًا إرشاده وتقويمه، وبالتالي يصبح من الطبيعي أن يحصل هؤلاء الرجال على نصيب الأسد من السلطة والثروة والمقام، يصبح من الطبيعي أن يروا أنفسهم وأن يراهم الناس كالسلطة التي لا تنازع، فهم من يحمون الشعب من الخطر، من يحمون النساء من نقص عقلهم ودينهم، من يحمون الشباب من طيشهم وقلة خبرتهم، هم من يعرفون المصلحة التي لا يعرفها غيرهم.

تمثل المؤسسة العسكرية النظام الاجتماعي الذكوري الأبوي في أوضح صوره وأكثرها فجاجة. نظام يتسيده الرجل الأكبر سنًا والأعلى مقامًا والأكثر خبرة. لا يرى في النساء والشباب الأصغر سنًا سوى قطيع ضال يجب عليهم إرشاده وتقويمه.

يمكنك أن ترى أثر هذا المنطق في كل نواحي الحياة اليومية للمصريين، بداية من تحريم المؤسسة العسكرية للممارسة السياسية على طول البلاد، مرورًا بالمهن المحرمة على النساء وحصولهن على أجور أقل من الرجال لقاء نفس العمل، وليس نهاية بإجبار الفتيات على الزواج ممن لا يرغبن فيه لأنهم لا يعرفن مصلحتهن.

هل تذكر أغنية «الجيش المصري رجال» التي أنتجتها الشؤون المعنوية وأذاعتها في كل مكان بعد أسابيع من ثورة يناير 2011؟ تتكرر كلمة «رجال» في الأغنية 75 مرة في غضون أربع دقائق.

وهل تذكر أغنية «مصر هي أمي» للمغنية عفاف راضي؟ إذا كنت قد ذهبت إلى مدرسة مصرية فأنت تذكرها بلا شك، هنا نرى خطاب مؤسسة تصرخ بأنها «رجال» 75 مرة في دقائق عدة، ونرى أمًا واحدة، هل ترى ما أحاول الوصول إليه؟ إذا أمعنت النظر قليلًا، ستستطيع أن ترى كيف تعمل منظومة التجنيد الإجباري على ترسيخ هذه المظالم؛ هذا العنف الهيكلي والمؤسسي ضد قطاعات كبيرة من الشعب.

لا يحتاج الأمر منك إلى كثير من البحث والتفكير، فلا مصادفة في وصف المؤسسة العسكرية لنفسها بـ«مصنع الرجال» على سبيل المثال، فعبر إرغام الغالبية العظمى من ذكور الشعب المصري على الخدمة في المؤسسة العسكرية، تستطيع الأخيرة عزلهم عن المجتمع لتشكل نظرتهم عن أنفسهم كرجال، كذكور، نظرة صلبها التسلط والطبقية والعنف، وظاهرها الجفاء والصلابة وإطاعة الأوامر بلا مناقشة.

يدخل الشاب إلى المؤسسة طائشًا متمردًا ليخرج منها رجلًا يطيع أوامر من يعلوه ويأمر من يدنوه، ويصبح كل من الرجولة والمواطنة مفهومين غير قابلين للفصل. يستحق السيسي أن يكون قائدًا مثاليًا ومشروع رئيس لأنه «دكر»، ويبرر قتل الشباب المتظاهر لأنهم «خَوَ****»*، يصبح مفهوم الرجولة الاعتباطي معيارًا للحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

تقتضي رؤية الرجولة كمكون رئيسي في الهوية أن تتم إحالتها إلى نقيضها. والمرأة في هذه الرؤية الثنائية هي نقيض الرجل وكل ما يمثله. وإذا كانت الرجولة تعني الشجاعة والصلابة والريادة والعمل والإنتاج؛ فإن «النسونة» – في الصيغة التي تستخدم كسبة في مصر – تعني السكون والحاجة والتبعية والاستهلاك. في هذا الإطار، تصبح المرأة هي العِرْض الواجب على الرجل حمايته من المخاطر المحدقة به بكل السبل الممكنة، وعلى رأس هذه المخاطر المرأة نفسها، فهل يؤتمن ناقص العقل والدين على نفسه؟ وهل من الرجولة أن يتخلى الرجل عن واجبه في الحماية والرعاية؟

فلنرجع معًا بالزمن إلى عام 2011 لوهلة. كان كشف العذرية أول ما قامت به قوات الجيش بعد القبض على عدد من المتظاهرات في اعتصام 9 مارس/آذار. تساءل كثير من الناس عن السبب وراء هذا الإجراء؟ وفسّره البعض كنوع من الإهانة والقهر لهؤلاء الفتيات، ولكنني أعتقد أن الأمر أعمق من هذا، إذ لا أستطيع فهم مثل هذا الفعل بمعزل عن هوس حقيقي عند المؤسسة العسكرية بجسد الأنثى المصرية، إذ لا يستطيع المنطق الذكوري العسكري أن يفصل بين أفعال المرأة وجسدها وممارساتها الجنسية؛ فامرأة تخرج في الشارع لتعلن عن رفضها لرؤية القيادة العسكرية الذكورية لا بد أن تكون عاهرة، لا بد وأنها تمارس الجنس خارج إطار الزواج بحرية، ففعل كهذا لا يخرج من فتاة في حياتها زوج أو أب رجل، ولا دليل على غياب الرجل من حياتها أكبر من غياب غشاء عذريتها.

فلنحاول إذًا مد الخط على استقامته، إذ يمكن للمنطق السابق أن يساعدنا في فهم أوجه كثيرة من واقع المرأة المصرية اليوم. ففي واقع أصبحت فيه المرأة المصرية جزءًا لا يتجزأ من سوق العمل والحياة العملية، وفي كثير من الحالات، شريكًا للرجل سواء كان زوجًا أو أبًا في كسب لقمة العيش؛ لماذا لا نراها شريكة في القرار الأسري والاجتماعي والاقتصادي والسياسي بذات القدر؟

يمكن الإجابة عن هذا السؤال من عدة أوجه من الممكن جمعها تحت مظلة «الثقافة»، أو بمعنى أدق: مكانة المرأة وتعريف دورها في الثقافة العامة السائدة في مصر، في الخطاب الاجتماعي والسياسي السائد. لهذا الخطاب مكونات كثيرة منها التقاليد والدين والأخلاق وغيرها، لكن أحد أهدافي في هذا المقال هو إلقاء الضوء على الطريقة التي يتم بها تشكيل هذا الخطاب في كليّته؛ أي كيف يتم تشكيل مكونات هذا الخطاب المختلفة لتتناسب مع مصالح وامتيازات السلطة الحاكمة.

هنا يمكن العودة للحديث عن منظومة التجنيد الإجباري؛ مصنع الرجال السالف ذكره. زعمي الرئيسي في هذا المقال هو أن الجيش – كما يشير المصريون للتجنيد الإجباري – هو مصنع للرجولة وليس للرجال، هو مسرح تصاغ عليه الأدوار التي يجب على الرجل القيام بها، ومفرخة تعمل على فرض هذه الأدوار على المواطنين من الذكور، وهذا يعني بطبيعة الحال أنه يصنع بشكل مفصلي وغير مباشر على صياغة الأنوثة؛ الأنوثة كالنقيض المباشر والقطعي لكل ما تمثله الرجولة، والأنوثة كالمجال الذي سيستطيع فيه نتاج المفرخة من الذكور ممارسة رجولتهم.

في هذا السياق، تصبح المرأة المصرية هي الخاسر الأكبر، فخسارتها لا تقتصر على حرمانها المنهجي والهيكلي من المشاركة الحقيقية في صياغة واقعها الاجتماعي والسياسي، بل تمتد لجعل جسدها ونفسها مجالًا لممارسة الرجولة كسلطة وقهر، لجعلها الآخر الذي يمثل كل ما لا يجب على الرجل أن يكونه، ولاختذال كيانها في خطر من الواجب السيطرة عليه.

تحدثت في مقال سابق عن التجنيد الإجباري كمؤسسة للعبودية المنظمة والعمالة المجبرة؛ وجلبت لنا السنوات التي مرت منذ نشره مزيدًا ومزيدًا من التجارب الأليمة والقصص عن احتكار المؤسسة العسكرية المصرية للاقتصاد المصري وتدمير قدرة القطاع الخاص على المنافسة باستخدام عمالة المجندين الإجبارية. ولا يستطيع أي مصري على مقربة من شاب في سن التجنيد تجاهل المعادلات المتزايدة بشدة لضم المجندين، وبالذات من خريجي التخصصات الدقيقة كالأطباء والمهندسين والصيادلة ممن يتم تجنيدهم كضباط احتياط للاستفادة منهم لمدة ثلاث سنوات.

ماكينة القهر المؤسسي التي تقودها المؤسسة العسكري تتزايد سرعتها، وعدد الضحايا في ازدياد؛ لذا يجب طرح السؤال التالي: أما آن الأوان لإخراج منظومة التجنيد الإجباري من إطار المسلمات المحرم مناقشتها؟ إن لم يكن لأجل الشباب الذي يهدر سنوات معدودة من عمره، فليكن من أجل المرأة المصرية وإخراجها من منظومة الظلم والقهر المؤسسي المنهجي.


* سبّة مصرية مسيئة للمثليين جنسيًا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.