جرت العادة أن تحتفل مدينة السويس، الواقعة شرقي مصر، بعيدها القومي في الرابع والعشرين من شهر أكتوبر/ تشرين الأول؛ تخليدًا لذكرى تصدي المقاومة الشعبية في المدينة للجيش الإسرائيلي بعد ما تمكن من تطويق الجيش الثالث الميداني من خلال ما عرف بـ«ثغرة الدفرسوار». ولكن، ولأسباب غير معلنة، تم تقليص مظاهر الاحتفال منذ أربعة أعوام!

والخوف كل الخوف أن يتم تمرير التطبيع على المستوى الشعبي، من خلال طمس الصراع العربي الإسرائيلي في ذاكرتنا حتى تأتي أجيال لا ترى غضاضة في التطبيع. وإذا كان السعي حثيثًا لمحو ما فعلته دولة الاحتلال، تماشيًا مع عملية السلام، إبان حروبها مع مصر، فهل سيكفر الكيان الصهيوني بعقيدة إسرائيل الكبرى والتي تزعم أن حدودها من نهر النيل في مصر إلى نهر الفرات في العراق؟ أعتقد أن دولة الاحتلال لن تبذل أي جهد في محو الحقائق، وبيننا من يتبرع للقيام بذلك تطوعًا!

وهنا تقتضي الأمانة أن أساهم، ولو بقدر قليل، في تذكير نفسي وإياكم بما حدث رغم أن تاريخنا سيبقى معلولًا ما دام يكتبه الحكام وأتباعهم. وسنبقى في حالة تراجع طالما أن هناك شخصًا واحدًا يرى أنه يعرف كل شيء؛ وينصب نفسه وصيًا على عموم الشعب، ليس لخبرة اكتسبها، أو لعلم لم يسبقه إليه أحد، بل لأنه وصل إلى كرسي الرئاسة فحسب!

وهذا ما نراه جليًا من خلال ما حدث بين الرئيس الأسبق «السادات» والفريق «سعد الدين الشاذلي»، رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية أثناء حرب أكتوبر وواضع خطة العبور كاملة. وقد اتهم السادات، في كتابه «البحث عن الذات»، الفريق الشاذلي بـ«التخاذل»، وحمله مسؤولية التسبب بالثغرة، ووصفه بأنه «عاد منهارًا من الجبهة يوم 19 أكتوبر». وقد نفى الشاذلي في مذكراته عن حرب أكتوبر ذلك، ودعم نفيه المشير «عبد الغني الجمسي»، رئيس هيئة العمليات أثناء حرب أكتوبر في مذكراته «مذكرات الجمسي/ حرب أكتوبر 1973»، قائلًا:

لقد عاصرت الفريق الشاذلي خلال الحرب، وقام بزيارة الجبهة أكثر من مرة، وكان بين القوات في سيناء في بعض هذه الزيارات. وأقرر أنه عندما عاد من الجبهة يوم 20 أكتوبر لم يكن منهاراً، كما وصفه الرئيس السادات في مذكراته (البحث عن الذات ص348) بعد الحرب. لا أقول ذلك دفاعًا عن الفريق الشاذلي لهدف أو مصلحة، ولا مضاداً للرئيس السادات لهدف أو مصلحة، ولكنها الحقيقة أقولها للتاريخ[1].

وهنا لا يسعني ألا أن أطالب بما طالب به الفريق الشاذلي، من خلال برنامج «شاهد على العصر» الذي تمت إذاعته على قناة الجزيرة في عام 1999م، بضرورة وجود تحقيق يكشف للشعب المصري، وللأجيال القادمة، ما حدث. ولا يترك التأريخ لعبة في يد حاكم يكتبه كيفما يشاء ويؤيده في ذلك مريدوه.


تطوير الهجوم

عقب بدء الهجوم في ظهر السادس من أكتوبر عام 1973م حققت القوات المسلحة المصرية والسورية أهدافها من شن الحرب على إسرائيل، وكانت هناك إنجازات ملموسة في الأيام الأولى للمعارك: عبرت القوات المصرية قناة السويس بنجاح وحطمت حصون خط بارليف وتوغلت 20 كم شرقًا داخل سيناء، فيما تمكنت القوات السورية من الدخول إلى عمق هضبة الجولان وصولًا إلى سهل الحولة وبحيرة طبريا. ثم أرسلت القيادة العسكرية السورية فيما بعد مندوبًا للقيادة الموحدة للجبهتين التي كان يقودها المشير أحمد إسماعيل، القائد العام للقوات المسلحة ووزير الحربية المصري خلال حرب أكتوبر والذي أعاده الرئيس السادات إلى الخدمة رئيسًا للمخابرات العامة ثم رُقي إلى رتبة فريق أول وأصبح وزيرًا للحربية، فكان ولاؤه التام للسادات على حسب ما جاء في شهادة الفريق الشاذلي، أرسلت تطلب زيادة الضغط على القوات الإسرائيلية على جبهة قناة السويس لتخفيف الضغط على جبهة الجولان، فطلب الرئيس أنور السادات من أحمد إسماعيل تطوير الهجوم شرقًا لتخفيف الضغط على سوريا.

عارض الشاذلي الفكرة بشدة لأكثر من مرة بسبب أن أي تطوير خارج نطاق الـ12 كيلو مترًا التي تقف فيها القوات المصرية تحت حماية مظلة الدفاع الجوي، يعد بمثابة جعلهم لقمة سائغة للطيران الإسرائيلي كون القوات الجوية الإسرائيلية ما زالت قوية وتشكل تهديدًا خطيرًا لأي قوات برية تتحرك في العراء دون غطاء جوي. لكن بالفعل تم إصدار التعليمات الخاصة بتطوير الهجوم ووصلت إلى قائدي الجيشين الثاني والثالث.


الرئيس يعرف أكثر!

هنا تظهر العلة ذاتها التي تنخر في لب الوطن ألا وهي: الرئيس يعرف أكثر! وهذا ما أوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم، فدائمًا ما يأخذ الرئيس بزمام كافة الأمور ولا يدع الأمر لذوي الخبرة. والأدهى أنه لا يتحمل مسؤولية أخطائه بل يلطخ الآخرين بعار ما اقترفه هو! وهذا ما فعله السادات، بل إن من جاءوا بعده التزموا الأمر ذاته، وكأن هناك اتفاقًا ضمنيًا يمنح الرئيس سلطة مطلقة حتى في الأمور التي يجهلها دون الرجوع لذوي الخبرة، فالسادات رغم أنه رجل ذو خلفية عسكرية لكنه لم يكن مقاتلًا محترفًا ولم يشارك في معارك حربية ميدانية مثلما شارك الفريق الشاذلي على سيبل المثال في حرب فلسطين 1948، وكان مؤسس وقائد أول فرقة سلاح مظلات في مصر (1954 – 1959)، وقائد الكتيبة 75 مظلات خلال العدوان الثلاثي عام 1995، وقائد أول قوات عربية (قائد كتيبة مصرية) في الكونغو كجزء من قوات الأمم المتحدة (1960 – 1961)، قائد اللواء الأول مشاة (شارك في حرب اليمن) (1965 – 1966) قائد القوات الخاصة (المظلات والصاعقة) (1967 – 1969).

ورغم خبرة الشاذلي الميدانية لم تنصت القيادة السياسية إلى رأيه والذي دعمه فيه قائدا الجيشين الثاني والثالث، وكان هناك إصرار من المشير إسماعيل أن القرار سياسي، ويجب أن نلتزم به، وقد وصف الشاذلي القرار قائلًا:

لقد كان هذا القرار أول غلطة كبيرة ترتكبها القيادة المصرية خلال الحرب، وقد جرتنا هذه الغلطة إلى سلسلة أخرى من الأخطاء التي كان لها أثر كبير على سير الحرب ونتائجها[2].

وبالفعل فشلت خطة التطوير وخسرت القوات المصرية 250 دبابة من إجمالي عدد 400 دبابة من قوتها الضاربة الرئيسية في ساعات معدودة من بدء التطوير للتفوق الجوي الإسرائيلي. وأصبح ظهر الجيش المصري مكشوفًا غرب القناة. وقد استغلت إسرائيل تلك النقطة فيما عرف بعد ذلك بثغرة الدفرسوار.


المقاومة الشعبية في السويس

وفقًا لـ«عبد الغني الجمسي» رئيس هيئة العمليات بحرب أكتوبر 1973 فإن لواءين من فرقة أدان المدرعة حاولا اقتحام المدينة من الشمال والغرب بعد قصف بالمدفعية والطيران مدة طويلة لتحطيم الروح المعنوية للمقاتلين داخل المدينة. ودارت معركة السويس اعتبارًا من 24 أكتوبر بمقاومة شعبية من أبناء السويس مع قوة عسكرية من الفرقة 19 مشاة داخل المدينة. ويصعب على المرء أن يصف القتال الذي دار بين الدبابات والعربات المدرعة الإسرائيلية من جهة وشعب السويس من جهة أخرى، وهو القتال الذي دار في بعض الشوارع وداخل المباني.

وبجهود رجال السويس ورجال الشرطة والسلطة المدنية مع القوة العسكرية، أمكن هزيمة قوات العدو التي تمكنت من دخول المدينة، وكبدتها الكثير من الخسائر بين قتلى وجرحى. وظلت الدبابات الإسرائيلية المدمرة في الطريق الرئيسى المؤدي إلى داخل المدينة شاهدًا على فشل القوات الإسرائيلية في اقتحام المدينة والاستيلاء عليها. واضطرت القوات الإسرائيلية إلى الانسحاب من المدينة وتمركزت خارجها. لم تكن معركة السويس هي معركة شعب المدينة، بل كانت معركة الشعب المصرى بأجمعه. ومن ثم أصبح يوم 24 أكتوبر عيدًا وطنيًا تحتفل به مدينة السويس والدولة كل عام، رمزًا لبطولة أبناء السويس ومثلًا يحتذى لقدرة الإنسان المصري على البذل والتضحية.[3]

ويقول «موشيه ديان»، وزير الدفاع الإسرائيلي إبان حرب أكتوبر، في مذكراته:


التعتيم الإعلامي

الفشل.. في احتلال مدينة السويس، فقد كان كفيلًا بتغيير نتيجة الحرب. إذ لو أن مدينة السويس سقطت لكان الجيش الثالث قد استسلم، برغم التدخل الأمريكي. وكانت هزيمة المصريين عندئذ ستكون أكبر، وموقفهم في المساومة يكون أضعف.[4]

وقد عتم الإعلام على ما حدث في ثغرة الدفرسوار، بل وتم التنكيل بالفريق الشاذلي وتجاهله إعلاميًا ونُزعت صورته من بانوراما حرب أكتوبر وتم إيقاف معاشه المستحق عن نجمة الشرف العسكرية، وعندما قام بالرد من خلال كاتبه «مذكرات حرب أكتوبر» على ما جاء في كتاب السيرة الذاتية للسادات «البحث عن الذات» تمت محاكمته غيابيًا. وعند عودته من المنفى الاختياري بعد 14 سنة قضاها في الجزائر، عقب التطمينات التي تلقتها أسرته وخاصة ابنته «شهدان» من مسؤولين في عهد الرئيس الأسبق «مبارك» من أنه ستتم إعادة محاكمته عند عودته، تم القبض عليه فور وصوله مطار القاهرة، وكانت التهم المنسوبة إليه هي: نشر كتاب بدون موافقة مسبقة عليه، وإفشاء أسرار عسكرية في كتابه. وأنكر الشاذلي صحة هذه التهمة، بدعوى أن تلك الأسرار المزعومة كانت أسرارًا حكومية وليست أسرارًا عسكرية. طالب الفريق الشاذلي أن تتم إعادة محاكمته وبشكل علني إلا أن طلبه قد رفض، وصودرت منه جميع الأوسمة والنياشين، وأجبر على قضاء مدة الحكم عليه بالسجن الحربي. وعلى الجانب الآخر تم تمجيد السادات كبطل للحرب والسلام!

وما زال يَفعلُ فينا الحاكم ما عهدا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. حرب أكتوبر 1973 مذكرات محمد عبد الغنى الجمسي ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الثانية عام 1998 ص٤٢١.
  2. مذكرات حرب أكتوبر -الفريق سعد الدين الشاذلي" دار بحوث الشرق الأوسط الأمريكية، الطبعة الرابعة 2003- سان فرانسيسكو2003، ص٢٧٣.
  3. حرب أكتوبر 1973 مذكرات محمد عبد الغنى الجمسي ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الثانية عام 1998.ص429، ص430
  4. مذكرات موشيه دايان، قصة حياتي"إعداد وتقديم الحسيني الحسيني معدًَي، دار الخلود للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2011، ص٤١٨.