في العام 1953، قامت مجموعة ضخمة من عمال وموظفي شركة «أرامكو»، الشركة العربية الأمريكية للزيت، صاحبة حق الامتياز في التنقيب عن النفط بأراضي المملكة العربية السعودية، بعقد اجتماع عام. توصل الاجتماع إلى اختيار سبعة أشخاص ليشكّلوا ما أسموه «لجنة العمال»، ومهمتها أن تكون حلقة الوصل بين العمال والحكومة.

بحسب تاريخ الأفراد السبعة، يمكن القول بأن كارل ماركس كان هو القائد الأعلى للجنة العمال. فعبدالعزيز السُنيّد، ولد في العراق، وهناك تعلم مبادئ الشيوعية، وحين عمل في أرامكو تعرف على عدد من الفلسطينيين الشيوعيين. كذلك كان عبدالرحمن البهيجان، الثاني بعد السُنيد في اللجنة، ورفيقه في الإيمان بماركس. يرافقهما في التخطيط والتوجيه صالح سعد الزيد.

كانت هذه بداية القصة التي انتهت لاحقًا إلى إضراب ضخم، وهو الإضراب الذي عرف لاحقًا بـ «انتفاضة عمال الظهران». هزّ الإضراب كيان أرامكو إلى درجة أن الشركة رفضت عودة هؤلاء الثلاثة إلى وظائفهم فيها، بعد أن تم الإفراج عن «لجنة العمال» بقرار عفو من الملك سعود. بل تم إبعاد السُنيّد والبهيجان إلى لبنان، بعيدًا عن أرامكو والمملكة بالكامل.

حين التف العمال حول اللجنة اُضطرت الحكومة إلى إرسال مستشار قانوني ورئيس مكتب وزير المالية للحوار مع اللجنة. استمر التفاوض أسبوعين، وكادت الكفة أن تميل إلى جهة «لجنة العمال»، فقد اقتنع وفد الحكومة بأحقية «مطالب العمال»، خاصةً أن الشركة التي صارت اليوم صاحبة أعلى قيمة سوقية في العالم، نحو 10 تريليونات دولار في 2015، كان غالب أرباحها يذهب للجانب الأمريكي منذ تأسيسها عام 1944.

ترك ذلك إدارة الشركة الأجنبية بين خيارين كليهما مر: الأول أن تستجيب، وهى تُدرك أن إجابتها تعني أن العمال صارت لهم نقابة وهيئة رسمية تتحدث باسمهم، والشركة كانت تعاني من نقابات بلادها بما يكفي. الخيار الثاني أن ترفض الشركة المطالب المشروعة، ما يظهرها بمظهر المُستغل الظالم أمام العمال والحكومة معًا.


العمال يطالبون بدستور للمملكة

لجأت أرامكو في الأخير إلى الوقيعة بين العمال والحكومة. أوحت الشركة إلى الحكومة أن العمال يبطنون شيئًا أعمق من المطالبة بحقوقهم الوظيفية، وأن حركتهم قد تمتد وتتطور إلى أحوال البلاد وقضاياها السياسية؛ لذا ظهرت تصريحات من رجال الدولة تقول بأن حركات العمال هدفها تخريب البلاد وإفسادها. في تلك الأثناء تربّص كل طرف بالآخر، الشركة تنتظر خطأ واحدًا لتعاقب العمال، والعمال ينتظرون إجراءً تعسفيًا واحدًا ليعلنوا إضرابًا شاملًا.

15 أكتوبر/ تشرين الأول 1953، أهدت الحكومة للعمال ما يريدون. استدعت اللجنة الحكومية جميع أعضاء اللجنة العمالية، ثم بعد اللقاء، عاد أعضاء اللجنة إلى غرفهم إلا أنهم كانوا مقيدين بالأغلال. تم تفتيش غرفهم بعناية، ثم سيقوا مكبلين إلى سجن العبيد بالأحساء. تناول العمال صباحًا ما حدث في الليلة السابقة، فاتحدوا على الإضراب، ثم صعد عدد من العمال على التلال المحيطة بالمنطقة وبدءوا رشق سيارات الأمريكيين الموجوديين بالحجارة. ليبدأ بذلك أكبر إضراب في تاريخ المملكة شارك فيه قرابة عشرين ألف موظف.

طافت الشرطة بالبيوت تحث العمال على الخروج للعمل. كُدّس الرافضون في سجن الظهران حتى ضاق، فاتخذت الحكومة من بعض المحال المجاورة سجونًا مؤقتة. استمر الإضراب لمدة أسبوعين، فاُضطرت الدولة إلى إطلاق سراحهم في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 1953، وحققت باقي المطالب التي تمثلت في زيادة الأجور بنسبة 12 إلى 20%، وتزويد العمال بملابس للعمل وبالغذاء، وتوفير وسائل النقل.

لم يتوقف عمال أرامكو عند تحسين أوضاعهم، بل حلموا بتحسين أوضاع باقي المملكة. لذا، وبعد الإضراب بثلاث سنوات، حين زار الملك سعود الشركة، استقبله العمال بحشود ضخمة. لم يكن الأمر ترحيبًا، بل كان أشبه بمظاهرة رفع فيها العمال مطالب بسن دستور للبلاد، والسماح بتكوين الأحزاب السياسية، والاعتراف بالتنظيمات النقابية.

توسعت المطالبات حتى بلغت إجلاء القاعدة الأمريكية من الظهران، وعدم السماح لأرامكو بالتدخل في شئون البلاد. هنالك أدرك سعود أن الأمر أكبر من مطالب فئوية، فأمر ابن جلوي، أمير المنطقة الشرقية، بأن يتخذ التدابير اللازمة لمنع انتشار عدوى المظاهرات والمطالبات، وقد فعلها ابن جلوي على أتم وجه.


الملك غاضبًا

ناصر السعيد, إذاعة صوت العرب, انتفاضة عمال الظهران 1952
ناصر السعيد في إذاعة صوت العرب سنة 1956

أنجبت أرامكو قائدًا آخر، لكن دعوته هذه المرة تجاوزت أسوار الشركة، لتجوب آفاق البلدان العربية. فاز ناصر السعيد بغضب الملك سعود بأسرع الطرق وأوضحها. الملك يزور الإمارة الشمالية لتلقي البيعة.

يجلس على أريكة ضخمة وحوله وجهاء القبائل وشيوخها. أفراد الأمن يحيطون بالجمع، ويكدّر صفوها شابٌ ثلاثيني يريد الوصول للملك. يمنعه الأمن لكن صوته الجهوري يلفت الأنظار بطلبه من الملك التحدث بأمر مهم للبيعة، لم يعد أمام الملك مفر من السماح له بالحديث.

من كلمات ناصر السعيد أمام الملك سعود

اختفى التبسط من وجه الملك، وأمر قائد حرسه بإسكات الشاب وتمزيق الورقة التي يقرأ منها. كانت تلك أول مواجهة مباشرة للسعيد مع العائلة المالكة، لكنها لم تكن الأخيرة. صحيح أنه نشأ كارهًا للظلم وعلمته جدته بغض كل مظاهر التعسف، لكن أرامكو هى التي أشعلت نار ثوريته. فقد رأى فيها كيف يستغل الأمريكيون الثروات السعودية، وعانى من عنصريتهم تجاه العمال العرب، كما أدرك تواطؤ الأسرة الحاكمة مع مصاصي الثروة وقوت العمال.

حينها، اتخذ السعيد من أرامكو منبره الأول لمواجهة كل ما رآه شائنًا.ساهم في تنظيم صفوف العمال، وتوجيههم للمطالبة بحقوقهم. وكان من بين المُحرّكين لإضراب الأربعينيات، وتم سجنه في سجن العبيد بالأحساء. لم يُغير السجن فيه شيئًا، بل نظّم مظاهرة في رحيمة لرفض قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين، كما نادى الحكومة السعودية بأن تقطع النفط عن أمريكا وبريطانيا، لكن دون جدوى. بل صدر تجاهه حكم بالإعدام، فغادر المملكة هاربًا.


ناصر وناصر

في فترة الجفوة بين المملكة السعودية ومصر أثناء حرب اليمن تلقفت مصر السعيد. صار له برنامجان إذاعيان هما «أعداء الله» و«أولياء الشيطان»، فيهما حمل السعيد على المملكة وحكامها وأفرغ كل ما في جعبته، حتى وصل الأمر إلى التشكيك في أصل العائلة المالكة العربي، ونسبتها إلى يهودي. ثم افتتح مكتبًا في اليمن للمعارضة، أسماه «اتحاد شعب الجزيرة العربية»، جمع فيه كل المعارضين للمملكة من مختلف الأطياف والجنسيات.

لكن بعد أن تصالح البلدان ضاقت مصر بالسعيد كما ضاقت به السعودية من قبل، وصار لزامًا عليه أن يبحث عن مكان آخر يبث منه نضاله، وإلا عامله جمال عبدالناصر بأسوأ مما عامله به سعود. استقر به المقام في دمشق، ولم يُغير المكان شيئًا من طبيعته ولا من حدة معارضته، حتى أنه رفض العودة بعد العفو الملكي من الملك خالد. لكن حماسته جعلته يتبنى اعتداءات نوفمبر/تشرين الثاني 1979 التي قادها جيهمان في الحرم المكي. هنالك، أيقنت المملكة بضرورة التخلص من السعيد نهائيًا.

تمت دعوته بصورة مكثفة للحوارات ولقاءات في صحف بيروت، وكانت نهايته فيها روائيةً كما كانت حياته. أثناء خروجه من جريدة «السفير» في بيروت يوم 17 يناير/كانون الأول 1979، تتبعه ثلاثة أفراد، حاول التملص منهم فلم يفلح، عاجله الأول بلكمة، تبعه الثاني برذاذٍ مخدر، والتقطه الثالث ليجره نحو سيارة تنتظرهم، ويختفي السعيد عندها نهائيًا. يتهم رجال سوريا ياسر عرفات بأنه قبض ثمن التخلص من السعيد، ينفي مؤيدو عرفات وفتح التهمة، المهم أن السعيد ذهب بغير رجعة كما أراد النظام السعودي.


ما سر أرامكو؟

يا سعود، هل تجشمت مصاعب الطرقات الخربة الوعرة وجئت لعندنا بقصد الدعاية لنفسك؟ ليس في مئات المدن والقرى والصحارى التي مررت بها إلا الفقراء الذين رأيتهم يمدون إليك أيديهم ضارعين من الفقر والجوع والمرض والجهل.

كانت «أرامكو» هي الأخرى تخوض صراعًا مع شركائها الأجانب. عام 1950، هدّد الملك عبد العزيز آل سعود بتأميم الشركة، فمنحته الولايات المتحدة جانبًا من الأرباح، ثم قامت الولايات المتحدة بتخفيض الضرائب على الشركة بما يساوي النسبة التي أخذها الملك، فيما عُرف تاريخيًا باسم «الحيلة الذهبية». وفي أواخر 1980، استطاعت السعودية فرض سيطرتها بالكامل على الشركة.

في تلك الأثناء، كانت الشركة لا تستطيع الاعتماد على العمالة العربية نظرًا لجهل العديد منهم بالقراءة والكتابة. لذا أُنشئ العديد من أماكن التعليم، يُدرّس فيها أفراد من سوريا وفلسطين ولبنان. وجد المدرسون في الشباب السعودي تربةً خصبةً لبث الكثير من الأفكار بجانب تعليم الأبجدية. فزرعوا فيهم أيديولوجيات أخرى، كل مدرس حسب مذهبه وعقيدته.

ومع كل ناقلة نفط كان وعي العمال يتطور، فصاروا على علم بالأوضاع في مختلف البلدان. وانتشرت بينهم الصحف وأجهزة الراديو. كل هذا وجميع الامتيازات تذهب للجانب الأمريكي من الشركة من مواصلات مكيفة وبيوت حقيقية. بينما يسكن العرب في الحي السعودي المكون من خيامٍ منصوبة على الكثبان الرملية. هذه التفرقة الواضحة في المعاملة بجانب الوعي اليساري الذي تسرب شيئًا فشيئًا للعمال، هما النار أشعلت الإضرابات وأفرزت العقول المناهضة التي حملت ألوية المعارضة لفترة من الزمن.

لكن ثقل الحراك السياسي والعمالي لم تُكتب له الحياة طويلًا. ساهم في ذلك حملات الاعتقال الضخمة التي استمرت منذ عام 1956 إلى عام 1970. دفعت تلك الحملات العديد من الناشطين إلى الهروب من البلاد أو التوقف عن مواصلة العمل السياسي. كما أن المجتمع السعودي شديد الانغراس والإيمان في القبَلية، لم يكن ليفهم معنى المعارضة السياسية المتجازوة للأبعاد الشخصية. أضف إلى ذلك أن الخطاب الإسلامي الرسمي الداعم للدولة السعودية على مدى تاريخها كبح نضوج العديد من الحركات اليسارية.

ومن زاوية أخرى، يمكن القول إن السبب كان ارتفاع عائدات النفط بشكل ضخم، ما مكن الحكومة السعودية من إغداق الأموال على شريحة عريضة من الشعب السعودي. كما استبدلت المملكة بعمالتها الوطنية أخرى عربية وآسيوية، وحرصت المملكة أن تكون عمالةً فقيرةً لا تهتم بالسياسة، وإن فعلت فيتم طردها بواسطة كفيلها دون إبداء أي أسباب. وهكذا بدأت شمس المعارضة العمالية في الأفول رويدًا رويدًا حتى غربت تمامًا.