يدعوه البعض بصاحب اللمسة السحرية، بينما يصفه آخرون بالنجم الطائر. عندما رقص «فريد أستير» في أفلامه، شاهده العالم بأسره في انبهار، مفتونًا بالحركات والإيقاعات المُتلألئة التي يمكنه أن يصنعها بقدميه بخفة وسهولة متناهية، فقد كان مؤديًا بالفطرة، لا يحتاج إلى إيقاع معين أو توجيهات مخرج للإبداع. كان أستير الشخصية النبيلة أو «جنتلمان» بالنسبة للجميع، كان بمثابة الأيقونة في عالم الرقص الأمريكي على الشاشة.

امتدت مسيرته إلى ما يقارب 8 عقود، أهدى خلالها هوليوود كنزًا من الأفلام الموسيقية، غيّرت السينما إلى الأبد، وسحرت متابعيه من مختلف الفئات والأذواق، فكان لزامًا وصفه بأنه أفضل مؤد وراقص في تاريخ السينما، وأحد فرسانها الأوفياء، لدرجة أنه كان هناك وثيقة تأمين على قدميه تبلغ مليون دولار.

على مدار مسيرته السينمائية الطويلة، ظهر فريد أستير في 212 أداءً موسيقيًا، منها 133 تحتوي على أسلوب رقص متطور خاص به، ونسبة عالية منها ذات قيمة فنية كبيرة، ومساهمة لا مثيل لها في عالم الأفلام، مع قليل ممّن ينافسون إرثه في تاريخ الرقص. ولأنه كان يعمل بشكل أساسي في السينما- لحسن الحظ- تم حفظ الغالبية العظمى من أعماله بدقة.

في ظل شقيقته

وُلد أستير عام 1889، بولاية نبراسكا في أمريكا، لعائلة بسيطة، فَقَد فيها والده العمل كرجل مبيعات بسبب الأزمات الاقتصادية وغياب الفرص، فكان الأمل في شقيقته التي تكبره بعامين تقريبًا، في أن تكون نجمة كبيرة وتستفيد من موهبتها في الرقص، وتساعد العائلة وتُنقِّذ العائلة من الفقر.

وفي عمر الرابعة كان يُصاحب أمه لإحضار شقيقته من دروس الباليه، وفي أحد الأيام، ارتدى فريد حذاء الباليه الخاص بشقيقته، ومشى بكل أريحية على أطراف أصابعه، أو ما يُسمى الرقص Pointe technique، وهي عملية صعبة يؤديها المحترفون فقط، لكنه قام بها بسهولة بلا أي سابق تعليم او إرشادات، مما بشّر بموهبة قادمة، وأثبت أنه موهوب بالفطرة وينتظره مستقبل باهر.

بعدها انتقلت العائلة إلى نيويورك، حيث لم يكن لديهم ما يخسروه بالفعل بسبب الفقر، وانضم فريد إلى شقيقته في تعلم رقص الباليه في عمر السادسة، واقترح معلمهم أن يقوم الطفلان بأداء مشترك.

وبالفعل بدأ كلاهما في الغناء والرقص معًا وتقديم أداء في المسارح وفي الطرقات، وخلال ذلك، ظلت شقيقته النجمة الأساسية، وصاحبة الموهبة الأفضل، ومحل اهتمام النقّاد والصحف، واعتبروه الأقل موهبة بينهما.

لكنه استمر مع شقيقته في الغناء والرقص حتى مع التقدم في العمر، والانتقال من مدينة إلى أخرى، وقدموا العديد من العروض مُحققين نجاحًا مستمرًا ولافتين الانتباه إليهما، حتى تزوجت شقيقته من نبيل إنجليزي عام 1932 واعتزلت، تاركة إياه وحيدًا لأول مرة، فتوجّه إلى هوليوود.

الصعود إلى النجومية

في أولى تجارب الأداء بعام 1933، تم رفضه بقوة، وعلّق أحد المنتجين عليه قائلًا:

لا يستطيع التمثيل ولا الغناء ومُصاب بالصلع، لكن رقصه جيد.

لكنه حصل سريعًا على فرصته الأولى في الظهور، فاستغلها بأفضل طريقة، في فيلم Dancing Lady (1933)، مع النجمة «جوان كراوفورد» وملك هوليوود «كلارك غيبل».

بعدها توالت عليه الأدوار والأفلام، بخاصة بعد تكوين ثنائية مع الممثلة الاستعراضية «جينجر روجرز»، والتي شاركته في بطولة 10 أفلام، بداية بـFlying Down To Rio (1933)، حتى The Barkleys of Broadway (1949). حقّقا خلال هذه المسيرة نجاحًا باهرًا، وأصبحا من أنجح الثنائيات في تاريخ السينما، ومن أكثرها شعبية على الإطلاق.

وصل إلى قمة نجاحه في فيلم Top Hat (1935)، مما جعله محط اهتمام أهم مؤلفي الأغاني بتلك الفترة، وعلى الرغم من هبوط مسيرته مع نهاية الثلاثينيات، وإلغاء عقده مع منتجيه الأساسيين، إلا أنه استمر في النجاح بعيدًا عنهم، وقدّم 9 أفلام مميزة أعادته للساحة من جديد.

وفي عام 1946، قرّر الاعتزال من أجل تأسيس مجموعة من مدارس الموسيقى، مشروع أثبت نجاحه في النهاية، ثم في 1947 عاد إلى السينما ليحقق أرباحًا عالية مجددًا، بعد أن جمعت أحد المسارح نحو 10 آلاف توقيع، مُطالبين بعودته من الاعتزال.

ومع حلول منتصف الخمسينيات، بدأت الأفلام الموسيقية بشكلها القديم في الاختفاء، وتوجه أستير إلى المسرح والتلفزيون، وقدّم مجموعة من الأعمال الناجحة حتى وفاته.

إرثه في السينما

على الرغم من أن فريد أستير كان يقدم عروضه بكل أريحية، وبسهولة مذهلة حتى تظهر كأنها مرتجلة على المسرح، فإنه كان في الواقع يهتم بأدق التفاصيل، ويتدرب لساعات يوميًا على الحركات والرقصات، وربما يقضي أيامًا قبل أحد العروض في التدريب والتجهيز له، فقد كان ما يُطلَق عليه Perfectionist أو متشدد في البحث عن الكمال، والخروج بالعرض بأفضل صورة ممكنة.

وفى وثائقي On Top: Inside The Success of Top Hat، كُشف عن أن أستير كان يقوم بتحديد شكل أفلامه قبل تصويرها، بمعنى أنه يرسم مخططًا لكل فيلم من أفلامه قبل التصوير، مع تحديد عدد الدقائق التي من المُفترض أن تنقضي بين بداية الفيلم والعرض الموسيقي الأول، كذلك تقسيم وقت الفيلم بين مشاهد الكوميديا والرومانسية والدراما التي يجب أن تكون بين عروض الرقص، وقد أثبت ذلك الأسلوب نجاحه، ففي كل مرة ظهر فيها فيلم من أفلامه، كان النجاح من نصيبه، على الرغم من تشابه تلك الأفلام كونها تسير طبقًا لنفس المخطط.

ورغم سعيه للكمال، وميله للقلق، إضافة إلى خجله، وهو صفات تجعل التعامل معه صعبًا على المستوى الإنساني، فإن احترافيته وكفاءته، أكسباه إعجاب زملائه داخل وخارج العمل.

كذلك كان يُصر أستير على أن يتم تصوير رقصاته في لقطات طويلة وواسعة، خلافًا للدارج وقتها في أن يتم قص اللقطات أو اللقطات السريعة، والتصوير القريب، والتركيز على أرجل الراقصين، لكنه منح تلك اللقطات الخاطفة مساحة محدودة للغاية، مما سمح للجمهور بالشعور وكأنهم يشاهدون رقصة واقعية على خشبة المسرح، واشتهر بإخبار مصوره بـ:

إمّا أن أرقص أنا، أو ترقص الكاميرا… وأنا أنوي الرقص.

ويظهر ذلك في معظم أفلامه، حيث تبدو مشاهد رقص كما لو تم تصويرها في لقطة واحدة طويلة، مما يعطي إحساسًا بأن الجمهور يشاهد عرضًا حيًا، ويُبرِز موهبة الراقص، ويجعل العرض أكثر إمتاعًا. حيث وصف المؤرخ السينمائي «ريك جيويل» تأثيره، قائلًا:

قبل وصوله، كان هناك شعور عام بأنك بحاجة إلى إجراء كثير من اللقطات، للتركيز على جوانب معينة من الرقص، مثل أقدام الراقص، وما إلى ذلك، لكن بمجرد أن أصبح أستير العقل المبدع وراء الأفلام الموسيقية، بدأنا نرى حركة إلى الوراء نحو طريقة أكثر بساطة ونقاء وكلاسيكية لتصوير الأفلام، بحيث ترى الراقصين في شكل كامل.

كما أسهم هذا التغيير في إلهام عمالقة مثل «جاكي شان»، في اقتباس أسلوب تصوير الرقصات في أفلام الأكشن، حيث قال جاكي:

عندما تنظر إلى الماضي مع «جين كيلي» و«فريد أستير»، تشاهد خمس دقائق من دون تعديل، مجرد غناء ورقص ثم الانتقال إلى البيانو أو عمود الإنارة… هذا ما أريده.

ويعد ذلك أسلوبًا مُميزًا تشتهر به أفلام جاكي شان، وتُميِّزه عن غيره من ممثلي الأكشن، حيث إنه لا يختبئ وراء حركات الكاميرا، أو الزوايا التي تُعوِّض قدرته على أداء الحركات بنفسه.

ماركة «أستير» المسجلة

رغم أن العديد من رقصات أستير اعتمدت على درجة من التعاون مع الآخرين، فإن اليد العليا والفكر الإبداعي كانا نابعين من رؤيته، حيث تميز تصميم رقصاته بالإبداع والذكاء والموسيقى، فتأخذ كل رقصة فكرتين أو ثلاث أفكار مركزية وتعرضها وتطورها بعناية، أفكار قد تأتي من خطوة معينة، أو من الموسيقى أو الكلمات أو شريكه في الرقصة أو قصة الفيلم.

تعد رقصات أستير انتقائية من حيث الأسلوب، وتتبع نهجًا متنوعًا من أشكال وأفكار مختلفة، وهي مزيج من رقص النقر بالقدم أو Tap Dancing، ورقص القاعات Ballroom Dance، وفيه يتبع زوج من الراقصين باستخدام أنماط موسيقية، ويتحركون بشكل إيقاعي طبقًا للموسيقى خلفهم.

كذلك ركّز اهتمامه على مشاكل تصوير الرقص، وخرج بنهج سيطر على مسرحيات هوليوود الموسيقية لجيل كامل، حيث تم تصميم كلٍ من التصوير الفوتوغرافي وتعديل اللقطات، لتعزيز تدفق واستمرارية الرقصات، وليس لتقويضها أو حجبها كما كان سابقًا.

مسيرة عظيمة ومتنوعة

كانت لأفلام أستير الموسيقية مع «جينجر روجرز» النصيب الأكبر من الشهرة والشعبية، ولكن لم يمكن أن ننسى أنه عمل مع مجموعة واسعة من أساطير السينما والمسرح طوال حياته المهنية التي استمرت ثمانية عقود تقريبًا، ومن بينهم مخرج أفلام The Godfather الشهيرة، «فرانسيس فورد كوبولا»، الذي أخرج لأستير المسرحية الموسيقية Finian’s Rainbow (1968). والنجمة الرائعة «أودري هيبورن»، التي ظهرت مع أستير في فيلم Funny Face (1957)، المقتبس عن مسرحية موسيقية كُتبت في الأصل خصيصًا لأستير وأخته عام 1927. إضافة إلى «بينج كروسبي»، أحد أشهر الفنانين الموسيقيين وأكثرهم تأثيرًا في القرن العشرين، والذي شارك معه في ثلاثة أفلام.

وبعيدًا عن عالم الموسيقى والغناء، فقد ظهر أستير أيضًا في عدد قليل من الأفلام غير الموسيقية، بما في ذلك The Notorious Landlady (1962)، والذي شاركه في بطولته الممثل الأسطوري «جاك ليمون» والجميلة «كيم نوفاك»، وكذلك فيلم الإثارة The Towering Inferno (1974)، الذي ترشّح فيه للأوسكار الوحيدة، وكان بجانب مجموعة من كبار النجوم: «بول نيومان» و«ستيف ماكوين» و«وليام هولدين».

أمّا عمله الأخير فكان فيلم الرعب Ghost Story (1981). أمّا الأداء الموسيقي الأخير فكان في عمر الـ80، وتحديدًا عام 1979 كضيف شرف في إحدى حلقات مسلسل الخيال العلمي Battlestar Galactica، حيث ظهر كأمير فضائي وقام برقصة سريعة، ترضيةً لأحفاده عُشّاق المسلسل. وتوفي عام 1987.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.