حرية الآدمي في النظر الفقهي الإسلامي هي الأصل في تصرفاته جميعها، وأي تصرف يكون ناتجًا عن الإكراه فلا عبرة به، ولا يترتب عليه عمل مشروع لا بالإثابة والا بالإدانة. ولهذا كان الإقرارُ بلا إكراه «ملزمًا للحُكمِ» وكان فيه فصل الخطاب عند التنازع.

وقد ثبتت حُجِّية الإقرارِ الحر بالكتاب والسنّة والإجماع والمعقول، وهذا القدرُ محلَّ اتفاقٍ بين أغلب مجتهدي المذاهب الفقهية الإسلامية. ومن معالم هذا الاتفاق أننا نجد مفهوم «الحرية» بمنزلة النواة المعنوية الصلبة لــ «الإقرار» في مختلف اجتهاداتهم، وهذا يدل -بحد ذاته- على عنايتهم بوجوب صون الحرية من جهة، ووعيهم بخطورة «الإقرار» إذا ما جاء وليد الإكراه أو القهر أو الإجبار بالتهديد والوعيد؛ أي بنقض الحرية من جهة أخرى. وقد ذهبوا إلى أن الإقرار إذا جاء وليد قهرٍ وإكراه، فإنه يقع باطلًا، ولا ينبني عليه حكم؛ حيث يمسي صورة من أفظع صور انتهاك «مقصد الحرية» باعتباره من المقاصد العامة للشريعة؛ إذ في الإكراه عدوان مُركَّبٌ على الروحِ والبدنِ والنفسِ والعقلِ والحرية والكرامةِ الإنسانية في آن واحد.

ولسمو مقصد حرية الإنسان وعلو منزلتها في الشريعة، اعتنى فقهاء المذاهب بتحصين «الإقرار» ضد أي شبهةٍ تقيدُه، أو تنالُ من كونه نطقًا حرًا، وتعبيرًا حرًا؛ من شأنه أن يطرحَ في نفس قائله أو ناطقه الراحة والهدوء، ويثمرَ طمأنينة عامة، ويقطعُ الطريق على «الفتنة» التي قد تنشب بسبب تراكم الإكراه، أو تندلع نتيجة تفاقم سلبيات الإرغام. ومعلوم أن الحريةَ هي أول ضحايا الفتنة، وأن ضياع الحرية أشد ضررًا من القتل الذي هو سلبُ الحياة، وهذا مما أشار إليه قوله تعالى:

﴿ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ﴾
البقرة:191.

وقوله تعالى:

﴿يسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ، قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ، وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وإخراج أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ، وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ… ﴾
البقرة: 217.

قلنا قبل ذلك: إن الإقرارَ -في عرف الفقهاءِ- اعترافٌ بحق للغيرِ على الذاتِ، أو بثبوت الجُرم على المقرِّ. وحرية المُقرِّ، أو المعترف هي شرطُ نفي الشبهةِ عن إقراره. وبالإقرار الصحيح يثبتُ الحقُّ في الماضي؛ ولكنه لا يُنشئه ابتداءً؛ أي إن الإقرار اعترافٌ كاشف غير منشئٍ بلغة القانون الحديث والمعاصر. ويرى الفقهاء أنه لم يكن هناك حقٌ ثابت، أو واقعةٌ ثابتة في جانب «المُقِر» قبل إقراره، ومن هنا اكتسبَ «الإقرارُ»، أو «الاعترافُ» أهميتَه الكبرى في التأسيس الفقهي للحريات الاجتماعية الفردية والجماعية؛ التي تشمل المعاملات الاقتصادية ومختلف السلوكيات والأفكار والآراء التي تنسج شبكة العلاقات الاجتماعية بين أبناء المجتمع.

الإقرارُ قد يكون شفاهةً أو كتابةً؛ وهو وسيلة من وسائل الإثبات، وله كثير من الثمرات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، وحتى الأمنية والسياسية؛ فبالإقرار الصحيح تستقرُّ المعاملات، وتثبت الحقوق، وتنحسم النزاعات، فلا يتكدر السِّلم الأهلي، ولا تتعرض الحريات الفردية أو العامة للاعتداء أو الانتهاك إذا ما شبت نيران الفتن، أو إذا استمرت المنازعات بلا حسمٍ.

ورعاية لهذه المصالح أجازَ الفقهاء أداءَ «الشهادة» ــ وهي نوع من القول شأنها شأن الإقرار على الإقرارِ، وهو نوع من «إثبات الإثبات»، وذلك فتحًا لذرائع الاستقرار، وسدًا لذرائع الفتن التي تعصف أول ما تعصف بالحرياتِ، ومما قالوه في ذلك: منْ سمع إقرارَ رجلٍ بحقٍ، وطلبَ صاحبُ الحقِّ منه أن يشهدَ له بالحق، جاز له أن يشهدَ، وإن لم يعاين سببَ الحق، ويكفيه الإقرار. [1]

وتوسع فقهاؤنا في منحِ الإقرارِ ليس لمصلحة شخص الآدمي وحده، وإنما لمصلحة الجهة أو الهيئة، أو ما يسمونه في القانون الحديث «الشخص غير الطبيعي». وهذه الجهة -بلغة القانون الحديث والمعاصر- هي الشخصية «الاعتبارية»، أو «المعنوية» (وللذين يحبون التمالح بالألفاظ الأجنبية: Personne morale)، مثل: المدرسة، والمسجد، والوقف، والمستشفى، والشركة، والحكومة، والمرفق العام.

وقد أجاز الفقهاء أن يقرَّ المرءُ لهذه الجهة أو تلك بمالٍ على نفسِه، على أن يُصرَف مثلًا في مصالحها العاجلة كترميم المسجد، أو المدرسة، أو المشفى، أو دار الأيتام، أو أن يصرف فيما يكفل بقاءَ عين هذه المنشآت سالمة مدرة للريع والمنافع، وتدخل في ذلك أعمال الصيانة والإصلاحات الدورية. وفي هذا فتح لذرائع تعزيز المؤسساتِ الأهلية المستقلة، وهي بمثابة محاضن اجتماعية تسهم في تحرير الضعفاء وذوي الخصاصة من أسرِ الجهل، أو من عجزِ القدرة، أو من ذلِّ الفاقة، وتحجزهم تحت خط الضروريات اللازمة لبقائهم على قيد الحياة؛ وتلك أحوال قد تفقدهم حريتَهم مقابل الحصول على دعم من السلطة الحكومية، أو من ذي شوكةٍ قوية، وهذا شائعٌ ومشاهد في كثيرٍ من البلدان، وعبر مختلف العصور، وإلى اليوم.

ورغم أهمية تلك الاعتبارات والمصالح جميعها، فقد قال مجتهدو المذاهب بالاتفاق تقريبًا أنه: لا يصحُّ أن تُتخذ هذه المصالحُ أو تلك الاعتبارات ذريعة للحصول على الإقرار بالإكراه أو بالضغط، وعليه لا يصح الإقرارُ الذي يكون وليدَ الإكراه حتى لو أدَّى إلى مصلحةٍ معتبرة؛ وعلةُ ذلك هي: أن الإكراه ينتهكُ الحرية، حين أن الحرية مقصد أعلى من مقاصد الشريعة، ولا يصح تحصيلُ مقصدٍ أدنى (وهو الحصول على المعونة أو الدعم من أجل البقاء) يكون ثمنه التضحية بمقصد أعلى منه؛ فضلًا عن أن إهدار الحريةَ يهدمُ شرط صحة الإقرارِ، وأنَّ «الإكراه» وسيلة مرذولة لا تنسجم مع المقاصد النبيلة المحمودة، وفي الأصول: أن أنبل المقاصد يجب أن ينال بأنبل الوسائل.

لقد اعتنى الفقهاءُ بتأصيلِ «الإقرار» وبيان مسائله وبسطِ أحكامه؛ نظرًا لخطورة ما يترتّب عليه من آثار ونتائج تمس تصرفاتِ المرء اليومية، ومن أخطرِها: ما قد ينال من حرية الفرد المقر ذاته، أو من حرية الغير، أو من حرية المجموع من الناس. والأصل عند جميع المذاهب، مع تباينات في الصياغات لا في المعاني، هو: أن الإقرار حجةٌ بحدِّ ذاته، وهو أقوى ما يُحْكمُ به، وهو مقدمٌ على البيِّنةِ؛ ولهذا يَبدأُ القاضي بالسؤال عنه قبلَ السؤال عن الشهادة، «فلو شهد شاهدان للمدعي، ثم أقر المدعى عليه، حكمَ القاضي بالإقرارِ وبطلت الشهادة». [2]

ويتجلَّى العمقُ النفسيُّ والمعنوي في بناء «الحرية» وتجذرها في اجتهادات الفقهاء من خلال المسائل التي ساقوها لبيان «سببِ» الإقرارِ؛ أعني اجتهاداتهم في بيان السببِ النفسي أو المعنوي، أو الرادعِ الذي يستكنُّ في أعماق وجدان الشخص ويدفعه للإقرار الطوعي.

وقد سبقَ أن انتهينا –في مقالات نشرها موقع إضاءات– إلى أنَّ «الحريةَ» وفق معايير المرجعية الإسلامية تنبعُ من داخل الإنسان أولًا وقبل أي اعتباراتٍ أخرى تتعلق بمحيطه الخارجي، أو تتصل بتوازنات علاقات القوة السائدة فيه، أو تلك التي ينخرط هو فيها.

واهتمام الفقهاء بهذا البعد الداخلي منطقيٌ وذو أولوية على ما سواه. وإلى هذا المعنى ذهب أغلبُ مجتهدي المذاهب، ومن ذلك على سبيل المثال ما نقله ابن عابدين عن الكمال بن الهمام الحنفي أنَّ سببَ الإقرار هو: «إرادةُ إسقاط الواجبِ عن ذمتِه بإخباره وإعلامِه، لِئلا يبقى في تبِعةِ الواجب» [3].

وواضح أن الكلام مُنصرف للإقرار الصحيح؛ الذي ينتجُ عن إرادة حرة، دون ضغطٍ أو إكراه. ويتعلقُ سبب الإقرار في هذه الحالة بصونِ أصل الحريةِ، ويكون قصدُه تبرئةَ الذمة مما يشغلها بغير حق، وإبقاءها حرة من أي قيد (معنوي) يشغلها أو يستذلها من داخلها، أو أن يتحكم فيها من خارجها انصياعًا لرغبة في أخذِ ما ليس لها، أو استجابة لنزوة جامحة لارتكاب فعلٍ محرم، أو انسياقًا خلف شهوة طارئة للعدوان على حريات الآخرين وحرماتهم، فإذا نجحت «النفسُ» في صون حمى حريتها من داخلها، كانت على صونِها من خارجها -لها ولغيرها- أقدرَ وأقوَى.

وبسببِ الأضرار والأخطار الجسيمة التي قد تنال من «الحرية» نتيجة الإقرار الذي يأتي وليد الضغط والإكراه، أحاطَ فقهاءُ المذاهب الإقرارَ بسياجٍ متين من الشروط التي تحولُ دون وقوع تلك الأضرارِ أو الأخطار، أو تحد منها وتجعلها في أدنى نطاقٍ وأقل احتمالٍ. ومن أهمها:

  • شرطُ التأكد من هوية المُقر بشخصه وباسمه، وهو ما يسميه الفقهاء «المعلومية».
  • شرط العقلِ، فلا يعتبر إقرار المعتوه، ولا المغمى عليه، ولا السكران، ولا السَّفيه، ولا المجنون، ولا المكره عمومًا.
  • شرطُ البلوغ، فلا يصح إقرار الصبي، وغير المميِّز.
  • شرطُ الإدراك لما يقر به وفهمُه له؛ وإلا فلا يصحُّ إقرار شخص بتعذيبه حتى ينطق بما لا يعتقده، أو بما لم يقترفه، أو بما لا يعرف عنه شيئًا، أو عن طريق تلقينه كلماتٍ لا يَفهم معناها ولو كانت بلغته العربية مثلًا، ومن باب أوْلى لو تم تلقينه بكلمات بلغة أعجمية لا يعرفها، ولو حدث شيء من ذلك، وقال المقر «لم أدْرِ ما قلت»، أخذ القاضي بقوله، لأنه أدرى بنفسه والظاهر معه، كما ذهب إليه الزركشي في كتابه القواعد. [4]
  • شرط الاختيار، ومعناه أنَّه إذا أقرَّ البالغُ العاقل طواعية بحقٍ، أو بقولٍ، لزِمه، وإلا فلا يلزمه شيء.
  • شرط «عدم التهمة»، ومعناه: خلو الإقرار مما يقدح في صدقه.

ونتابع في مقال لاحق -إن شاء الله- تأثيرات شرط «عدم التهمة» ضمن حديثنا المستطرد عن فقه الحرية.

المراجع
  1. عماد الدين محمد بن إسماعيل الأشفورقاني (ت646هــ)، صنوان القضاء وعنوان الإفتاء، تحقيق مجاهد الإسلام القاسمي، (الكويت: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطاع الإفتاء والبحوث الشرعية، د.ت)، ج2/ص14.
  2. حاشية الرملي الكبير على أسنى المطالب، 2/288.
  3. حاشية ابن عابدين 4/456، و457، وحاشية الزرقاني على مختصر خليل 6/104، و105، والمغني لابن قدامه 5/200.
  4. الزركشي، المنثور في القواعد، 2/13، و14.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.